نادي حيفا الثّقافيّ: كلمة الأديب فتحي فوراني في الأمسية التكريميّة الاحتفائيّة بالدّكتور منير توما
فتحي فوراني
د. منير توما، مبدع بانورامي
ماذا تستطيع أن تفعل في فضاء ضيق أضيق من سُم الإبرة لا تتجاوز مساحته أكثر من عشر دقائق؟ لقد وعدت نفسي أن أعمل جهدي كي لا أعرض نفسي إلى طائلة التأنيب والتوبيخ والعتاب بتهمة التمرد على دائرة النظام..ومخالفة الأوامر العسكرية.
سأحدثكم عن اللقاء الأول كان ذلك عام 2003 عبر الأثير. وامتدت خيوط اللاسلكي من كفر ياسيف لتحطّ رحالها في لؤلؤة الكرمل..كان ذلك عندما كان لي الشرف أن أكون مسؤولًا عن المنبر الثقافي في صحيفة “الاتحاد”. وكان اللقاء لقاء تعارف تمحور حول الطوشات النحوية الحمائلية بين مشايخ البصرة ومشايخ الكوفة. ثم توالت لقاءات المنابر الثقافية في هذا الوطن. وكانت ثقافة العيش والملح هي الخيمة الدافئة التي خيمت علينا وتفيأنا تحتها بظلال الثلاثي، المحبة والصدق والوفاء. لكن..ما علينا، نحن الآن في الثاني والعشرين من شباط اللّباط، عام ألفين وأربعة وعشرين.
أمامنا على طاولة التشريح إبداعان طلعا من الورشة الثقافية لصاحبها المبدع د. منير توما، نجم هذه الأمسية. نحن أمام مثقف موسوعي شمولي، غواصٍ ماهرٍ في الإحاطة بأخبار غَرناطة. صاحبنا دكتور منير مبدع وصاحب رؤيا بانورامية وصياد ماهر يجيد الغوص في بحار الآداب الأجنبية..وانتشال الدر الكامن في أعماقها.
هو ناقد أدبي له بصمات على إبداعات سبينوزا وفكتور هوجو وماركيز وت.س.إيليوت وفلاديمير نابوكوف وكونفوشيوس وأينشتاين وفرويد وألبير كامو وآخرين من كوكبة المبدعين في الأدب العالمي. هذه الكوكبة شيدت المنابر والشرفات وكشفت أمام القارئ العربي آفاقًا تُشرف على ثقافة الشعوب الأجنبية وحضارتها الإنسانية. وهو شاعر مجيد فقد تخرج من مدرسة شيكسبير وأتقن كتابة الشعر باللغة الإنجليزية وبنى علاقة طيبة مع الشعر الكلاسيكي لصاحبه الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي علمه عروض الشعر باللغة العربية لغة الآباء والأجداد. وفي خارطة الأدب المعاصر ترسم خُطى نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ونزار قباني وصلاح عبد الصبور وغيرهم من طلائع مدرسة الشعر الحديث. وبذلك جمع مجد الشعر من طرفيه. وهو صاحب رؤيا أنشأ بنيانًا ثقافيًا وعلق على بوابته يافطة كتب عليها “رؤى فكرية وأدبية” يحتوي على “دراسات وترجمات فكرية وأدبية” شعرًا ونثرًا. ينهل القارئ العربي من هذه الدراسات القيمة وتفتح أمامه الشرفات للاطلاع على ثقافات الشعوب والحضارة الإنسانية.
ثم نتوقف عند محطات في الأدب المقارن، فيسلط د. منير الضوء على بصمات الشاعر الإنجليزي وليم بليك..هذه البصمات وجدت طريقها إلى قصة “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران. وهناك يصلّت الكاتب الضوء على القواسم المشتركة ما بين تولستوي والمهاتما غاندي.
عاشق التراث الغنائي والدكتور منير عاشق للموشحات الأندلسية وتراث الفولكلور الغنائي. إنه يصلي في محراب فيروز ويسحره صوتها المخملي في أغنية “يا من يحن إليه فؤادي”. ثم يمتعنا في أحاديث الحب والجمال فيتوقف عند القصيدة ويحللها كاشفًا ملامح شعر رومانسي غنائي حالم لمحب عاشق..وذلك عبر صور جديدة مبتكرة في قاموس العاطفة والوجدان. كما يبدع في التحليل النقدي للقصيدتين “يا ليلُ الصبُّ متى غده”، و”مُضناك جفاه مرقده”. ثم يتابع مشواره النقدي فينقلنا إلى زحلة..هناك ننصب ديوانًا ونتحلّق حول موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ليفتح لنا ملفات العشق ويبوح بأسرار الأحاديث عن جارته زحلة وندائه لها..”يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك”. ثم يركب المغامرة ويدخل في ليلَين: ودخلت في ليلَين فرعِك والدجى ولثمت كالصبح المنوّر فاك ينتقل من الديار الزحلاوية إلى حدائق الإبداع الأخرى التي تضوع عطرًا وعشقًا وسحرًا لا أحلى ولا أجمل.
أيها الأصدقاء شرطي النظام يقف بالمرصاد..في عينيه إنذار، وفي يده ساعة ألمانية تموت عشقًا في الثنائي الدقّة والنظام..لهذه الساعة قلب من فولاذ ولا تعرف الرحمة أبدًا. تحمل راية الإنذار الحمراء وتتربص بالتجاوزات والمشاغبات المرورية..
أرجو أن أكون قد نجوت من تسجيل مخالفة أقلّ ما يقال فيها أنها “بنت حرام” وتنتمي إلى قبيلة “أولاد الحرام”. أيها الإخوة الحديث طويل والزمان بخيل ولا بدّ من ختام يأبى الختام إلا أن يكون مسكًا لقاؤنا معك أيها العزيز دكتور منير لا يُمل، لقد وردنا ينابيعك الإبداعية واستمتعنا، ولم يزدنا الوِرد إلا عطشًا.
أتمنى لك الصحة والعافية ودوام العطاء الإبداعي ولنبق دائمًا وأبدًا على هذا الطريق، نحمل البوصلة وعيوننا صعودًا صعودًا نحو مشارف المستقبل الأروع والأجمل..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.