مداخلة د. صفا فرحات حول المجموعة القصصيّة “لسان الرّاوي” للأديب قاسم توفيق/ نادي حيفا الثّقافيّ

في مستهلّ هذا اللّقاء، أوّد تقديم عميقِ امتناني لصديقي المحامي فؤاد نقّارة، على إخلاصه وتفانيه في رفع راية الثّقافة الإبداعيّة العربيّة في مختلف مشاربها وصنوفها، والشكر موصول لنادي حيفا الثّقافي الموثّقِ لما أبدعه مفكّرونا ومثقّفونا أينما كانوا في فضاء الوطن الأعمّ.
أمّا بعد،
نحن أمام عمل أدبيّ للكاتب الأردنيّ قاسم توفيق، وهو أي العمل، حلْقة إبداعيّة ثبّتها الكاتب في سجلّ ما سطّره قلمُه من أعمال مميّزة على مدار سنوات عدّة، منذ سنة ألف وتسعمائة وخمس وثمانين، حين أصدر روايته” ماري روز تعبُر مدينة الشّمس، ومن ثمّ” أرض أكثر جمالًا” و”الشّندغة”، و”رائحة اللّوز المرّ”، و”حانة فوق التّراب”، و” نزف الطّائر الصّغير”, إضافة إلى مجموعات روائيّة وقصصيّة أخرى، ممّا أهّله للتّكريم والحصول على جائزة” كتارا” للرّواية العربيّة، عام ألف وثمانيةَ عشرَ عن روايته” نزف الطّائر الصّغير.
عملنا الّذي نحن بصدده” لسان الرّاوي” تعرّض لكثير من التّعليقات النّقديّة، وقد أجمعت
غالبيّتها من منطلق الاقتباس عن الغير، على أنّ قصص هذه المجموعة تبدو أقرب إلى حكايات “ألف ليلة وليلة”، في ثوب عصريّ واقعيّ، تجمع بين الدّهشة والواقع السّاخر.
هي حقًّا تنتمي إلى التيّار الواقعيّ، وحقًّا تجمع بين الدّهشة والواقع السّاخر، لكن، لماذا هذا الإصرار على أنّها أقرب إلى حكايات ألف ليلة وليلة؟
علمًا أنّ ما يميّز ألف ليلة وليلة، عناصر كثيرة من أهمّها الخيال والأسطورة، واستخدام الجنّ والعفاريت والسّحر، وهي في غالبيّتها تحوي طابعا سحريًّا، يرمي إلى نقل القارئ إلى عوالم موازيّة لتلك الّتي نحياها، وهذه قلّما نجدها في مجموعتنا القصصيّة هذه.
تحتضن هذه المجموعة أربعًا وثلاثين قصّة وحكاية، وعلى صفحة الغلاف، تحتضن هذه المجموعة أربعًا وثلاثين قصّة وحكاية، وعلى صفحة الغلاف، وهي عتبة النّصّ الأولى، تمّ تحديد نوع العمل بأنّه مجموعة قصص، إذ جاءت كلمة قصص باللّون الأزرق مائلة في أعلى الصّفحة، وقد جاءت على هذه الشّاكلة وفقا لما ارتآه مصمّم الغلاف، لكن عندما نلج إلى الصّفحة الثّانية نجدها معنونة كما يلي: قاسم توفيق في أعلى الصّفحة، وفي وسطها: لسان الرّاوي، ومباشرة تحت هذا العنوان وبين مزدوجين:” كنت هناك”، وفي الأسفل: بشر وحكايات، عمّان القرن الماضي. إذن من الصّفحة الأولى هي قصص، وفي الصّفحة الدّاخليّة هي حكايات، وبين القصّة والحكاية تقارب وتباعد، فالحكاية هي مادّة الرّواية، هي العالم الّذي يقدّمه النصّ الرّوائيّ، بكلمات أخرى هي الأحداث والمكان والزّمان، بينما القصّة هي المادّة نفسها بعد تصنيعها فنيّا، وكما جاء في معجم المصطلحات، فالحكاية تقدّم الأحداث بصورتها البدائيّة الشّبيهة بالواقع، والأخرى تقدّمها بشكل فنيّ جماليّ شائق أو هادف.
وقد نجح المؤلّف في لسان الرّاوي الدّمج بينهما، إذ ساق سردًا بعض الأحداث فجّة على طبيعتها بالأسلوب التّقريريّ، وسرعان ما ألبسها فيما بعد، حلّة فنيّة تموضعها في مجال القصّة الفنيّة، وللتّدليل مثلًا وليس حصرًا، جاءت بداية قصّة الطّليق، تقريريّة: خرجت اليوم من السّجن، خمس سنوات قضيتها كما يليق بلصّ…. أهمّ ما تركه أبي لي، الشّعور بالغضب والّذي كلّفني في الماضي قضاء أشهر أو أسابيع في السّجن… وقد أصدر القاضي الحكم غير قابل للنّقض بوضعي في السّجن لمدّة خمس سنوات، وفي نفس الحكاية/ القصّة، نراه يصوّر السّجن بما يلي:
ليل السّجن طويل وقاس كأنّه مطرقة تكسّر عظمك طوال الوقت، في السّجن لا تنام ولا تقدر على الصّحو، تفقد الحلم لأنّه يصير غباشًا، يخلط عالمك كلّه الّذي تركته بالخارج، فيصعب عليك تمييز وجه أمّك عن وجه ابنك الصّغير، أو وجه زوجتك عن وجه واحد من الرّجال الّذين احتلت عليهم.
وعلى الرّغم من صعوبة تحديد هويّة الجنس الأدبيّ لكونها ليست قارّة، بل مرنة، هلاميّة أحيانًا، إلّا أنّنا نلحظ في هذه المجموعة قدرتها على احتضان كثير من الأنواع المتقاربة، فنرى فيها الحكاية والقصّة والمذكّرات، وفيها اللّوحات الفنيّة، وما يجمعها هو خيط انتقاء الأحداث من الزّمن الغابر الّذي عايشه الكاتب، لينقله لنا بصورته الّتي جاء عليها.
ولا نزال في العتبة الثّانية من هذه المجموعة وفي ما كتبه الرّاوي: بشر وحكايات، عمّان القرن الماضي، فهو بهذا إنّما يؤكّد على حفظ الذّاكرة الجماعيّة بعلاقاتها الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة، ويؤكّد على دور الحكايات في حمل الرّسالة للأجيال القادمة لحثّهم على معايشة حكايات النّاس العاديّين واستخلاص العبر منها وللتأكيد على أنّ تاريخ الأمّة لا ينحصر فقط بالأحداث السّياسيّة والاقتصاديّة بل يتجاوزها ليؤكّد أنّ البشر يتشكّلون كذلك من القصص الإنسانيّة الّتي تستحقّ أن تروى وتحفظ.
وما يؤكّد هذا قوله في صفحة الإهداء: إلى ما أحلى في العمر، ريتا، عمر، ناي، قاسم الصّغير، والقادمين أيضًا، إذ نستشّف من إهداء هذه القصص أهميّة أحداثها وشخصيّاتها المميّزة وقيمها الّتي يراد غرسها في نفوس الأجيال القادمة.
وعند الإبحار في هذه المجموعة القصصيّة، نلمح استقلاليّة كلّ حكاية وحكاية، لكنّها كلّها مرتبطة في ما بينها، فبالإضافة إلى خيط الكاتب الضّامّ الّذي يتحدّث في بعضها بضمير المتكلّم وفي بعضها الآخر بلسان الغائب، وهو فيها شاهد على الحادثة، أو مشارك فيها، نلمح أسلوبًا فنيّا، في معظم الحكايات تقريبًا، ألا وهو أسلوب المفارقة، وكسر التّوقّع.
وقد ورد مفهوم المفارقة عند المهتمّين بالأدب ونقّاده بأنّها، تسجيل التّناقض بين ظاهرتين لإثارة تعجّب القارئ، دون تفسير أو تعليل، وهي عند بعضهم، قادرة على إقامة عالم جديد مخيّل على أنقاض عالم الواقع المعيش، أو هي صياغة لغويّة قائمة على تناقض بين معنى ظاهر وآخر خفيّ.
ومن أهداف المفارقة إحداث الدّهشة والصّدمة لجذب انتباه القارئ، من خلال كسر رتابة السّرد، وبهذا يتعمّق التّفكير في المعاني والدّلالات وراء الكلام أو الفعل.
ففي حكاية “الخرّيم” وهو هذا الرّجل الذي يقرّر نوع السّجائر الّتي يدخّنها أهل عمّان، يلعب دورًا محوريّا فيها، وتأتي المفارقة من عمله الّذي يعتمد على صناعة السّجائر. ومع سؤاله نفسه باستمرار متى سيتوقّف عن التّدخين.
وتظهر المفارقة كذلك من خلال الوصف الّذي أسبغ على “الخرّيم” فهو نحيل، ذو عظام فكّ بارزة وعينين جاحظتين. هذه الصّورة الجسديّة قد توحي بآثار التدخين السلبيّة على الصّحّة.
فالرّجل المسؤول عن جودة السّجائر قد يكون هو نفسه ضحيّة لها.
ونراها كذلك في الصمت مقابل القرار:
“فالخرّيم” يتصرّف بصمت وهدوء، يراقب عمليّة لفّ السيجارة دون أن ينبس ببنت شفة. وهذا يتناقض مع الأهميّة القصوى لقراره النّهائيّ بشأن جودة التبغ.
هذا يبرز المفارقة بين الهدوء الظاهريّ والتأثير العميق لقراراته.
وقد تجاوزت المفارقة في شخصيّة “الخرّيم” التّناقض السّطحيّ، لتكشف عن تعقيدات أعمق تتعلّق بالصّراع بين الدّور المهنيّ والوعي الشّخصيّ لخطورة ما يمارسه في حياته المهنيّة.
وفي حكاية “فضاء” تظهر المفارقة بوضوح صارخ بين فضاءين، بين الفضاء الأزليّ الّذي يشكّل مجمل الكون المتمثّل في الزّمان والمكان المستمرّان دون توقّف منذ آلاف السّنين، الموغل بالغرابة عنّا وعن مداركنا والّذي نقف أمامه عاجزين، وبين فضاء الأمّ فهو عندها كوّة صغيرة تبعث ضوءًا يعطي النّور لعينيها الواسعتين الجميلتين كي ترى. لقد اختُصر العالم الكبير غير المحدود عند هذه الأمّ بكوّة صغيرة، تنبعث منها بقعة ضوء صغيرة بحجم أحلامها، وتُختصر أحلامها بغمر أطفالها محبّة ، وانهمار دفء عينيها عليهم قبل الغطاء في ليالي برد عمّان القارس، حيث لا حطب ولا كاز في البيوت الفقيرة.
يستخدم الكاتب هذا التباين، لتسليط الضّوء على بساطة الأمّ وعمق تأثيرها في حياة أبنائها. الأم، على الرّغم من بساطتها وفقرها، تملك “فضاءها” الخاصّ الذي يمنحها القدرة على الحبّ والعطاء والحماية.
وفي حكايتيّ البطل، والحكاية الّتي كتبها المؤلّف، نعيش مفارقة مؤلمة عن واقع مؤلم، يجسّد الطّبقيّة بين أفراد المجتمع، وما يعانيه الفقراء من قلّة الحيلة، لكنّهم وإن لم يظهروا مشاعرهم، فآلامهم كبيرة كبيرة، ويتابع تصوير هذه الطّبقة المأزومة من خلال حديثه عن الإنسان العاديّ، المواطن الّذي يحبّ أصحابه، فهو الشّغيل المبتسم الباكي، الضّاحك الحزين، الرّقيق القاسي، فيقدّمه لنا من خلال المفارقة على مستوى اللّفظة وهي ما نسمّيها بالطّباق، فمثل هذا الإنسان مشحون بالمتناقضات، وهو وإن رأيته في وداعة العصفور، لكنّ قلبه يعتمر بنار الثّورة على واقعه الّذي يحياه.
وكما تمّت الإشارة إليه، فمن أهداف المفارقة إحداث المفاجأة بكسر المتوقّع والانحراف عن النّتيجة المنطقيّة لتسلسل الأحداث، وهل هناك مفاجأة أكبر من تلك الّتي جاءت في كيف تكون المفاجأة”، وهي حكاية واقعيّة عايش أحداثها الكاتب، كما في حكاياته الأخرى، وفيها ينتقد الإعلام العربيّ المبنيّ على الكذب في ما يتعلّق بحرب حزيران، وكيف تساقطت الطّائرات الإسرائيليّة بالمئات، ثمّ تصدح شادية بأغنية عاطفيّة” قولوا لعين الشّمس…” وهل من المنطقيّ أن تُبثّ مثل هذه الأغنية في صباح من صباحات حرب حزيران؟، وتكون المفاجأة عندما يعلن المذيع بصوته الخشن، كنّا نستمع لصوت شادية من دار الإذاعة الإسرائيليّة، إذاعة أورشليم القدس، الّتي انضمّت إلى موجاتهم العاملة ذاك الصّباح. حقًّا هي مفاجأة غير سارّة، وكلّ المفاجآت بالنّسبة له غير سارّة، فالمآسي تتوالى، وتحذو إحداها الأخرى، وحتّى لو أرادوا مفاجأتك في يوم ميلادك،، قد تفاجئهم أنت وقد لا تعود إلى البيت أبدًا، نهاية سوداويّة توشّحت بسواد النّفوس إثر تخلخل موازين الثّقة بعد نكسة حرب حزيران.
وفي حكاية أبي سرور، من مقهى الشّهرزاد في وسط المدينة، نلمح المفارقة في التّحسّر على القديم الّذي تبدّل، ونلمح نقدًا اجتماعيًّا لاذعًا على تبدّل أحوال من كانوا على قدر عظيم من الاحترام والعزّ والجاه، فهذا الفنّان الأسمر الجميل صاحب الضّحكة الّتي يعرفها كلّ من مشى في شوارع عمّان، هذا الفنّان الطّيب المعروف باسم ” أبو سرور”، هو ذاته صار يهيم في الشّوارع، ينظر نحو السّماء بنظرة عتب، وُجد ميّتًا على أرصفة شارع الهاشميّ.
ففقدان الرّعاية والاهتمام بهذه الشّريحة الّتي تعتبر ركنًا من أركان الثّقافة، وعاملًا من عوامل زرع البسمة على شفاه المواطنين في حلكة وزر الحياة، تنقلب أحوالهم، ويتركون ليقضوا أيّامهم بالتّشرّد والجوع ليموتوا على أرصفة الشّوارع.
وبنظرة أبي سرور إلى السّماء، إشارة إلى فقدان العدالة الإلهيّة وفق نظره، وهي أخفّ عبئًا، وأقلّ مساءلة من نظرة لوم إلى المؤسّسة الّتي لم تقم بواجبها لتحمي أبا سرور وأمثاله.
وأنهي موضوعة المفارقة، وهي الّتي انتظمت حكايات هذه المجموعة، بحكاية” الكشّيش” الّتي تتضمّن موقفًا نقديًّا لسلب حريّة الإنسان لأنّه رغب في قليل من المرح، وجاءت المفارقة فيها من أن تأتي فكرة فلسفيّة عميقة بضرورة اختلاف البشر فالاختلاف عن الآخرين يعني التّميّز، والتميّز أساس الوجود، لا فرق إن كان في الخير أو في الشّرّ، المهمّ أن يكون المتميّز قويًّا، من ” كشّيش” الحمام الّذي لم يحصّل علمًا، لكنّه من غير المستبعد أن يكون قد حصّل ثقافة وحكمة من معايشة تجارب الحياة والكاتب في هذه الحكاية يحدّد المفارقة في ما نشأنا عليه وآمنّا به، وفي النّتيجة الّتي توصّل إليها، فضرب في هذه الحكاية الفلسفيّة بالمعتقدات عرض الحائط، مؤكّدًا بأنّ الإنسان في نهايته إلى الطّين، وأنّ المسلّمات الّتي آمن بها وآمنّا يها معه، هي مجرّد وهم، زُرع في عقولنا ونفوسنا، واكتشفناه بعد عمل لا يفضي إلى شيء بعد سنين طويلة:
عندما استكان بعيدًا عن الحمائم، حسم في داخله فكرة واحدة، وهي أنّه لا يخاف من الموت إلّا النّاس الّتي تخاف من الحياة، وأيقن أنّه لم يعد هناك وجود لإيمان ينصّ على أنّ التّراكم يؤدّي بالضّرورة إلى تغيّر الصّورة، ولا أنّ الثّورة تأتي بالأحسن، ولا العبادة تأخذ إلى الجنّة، ولا المودّة تحصد المحبّة، ولا العطاء يزرع الخير، إنّها حضارة الطّين الّتي لا تصل في آخر الدّرب إلّا إلى الطّين.
بهذه الشّطحات الفلسفيّة الّتي لهج بها ” الكشّيش” وإن كانت في الحقيقة هي لسان الرّاوي، أختم جانبًا من رؤية نقديّة محدّدة في بعدين، ظهر الأوّل في عتبة النّصّ الأولى وما توحي به، والثّانية في موضوعة أسلوبيّة ظهرت في المفارقة الّتي شكّلت عنصرًا فنيّا بارزا في هذه المجموعة، إضافة إلى الإشارة بإيجاز للفرق بين الحكاية والقصّة، وقد كان بالإمكان التّركيز على هذا الجانب وبحث المضامين من رؤية النّقد الواقعي الّذي ينطلق منه الكاتب.
وفي النّهاية، تأكّدت القناعة لديّ، بأنّه عمل ناضج واع، صدر من وحي مبدع يستحقّ الثّناء فله الشّكر على ما قدّم راجين أن يظلّ قلمه وهّاجًا في ثقافتنا العربيّة.
22/5/2025

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافِذَتي تُطلُّ على مجموعةٍ قصصيَّةٍ “عند منتصف الليل”

د. خالد تركي  نافِذَتي تُطلُّ على مجموعةٍ قصصيَّةٍ “عند منتصف الليل” “عِندَ منتصَفِ الليلِ” هي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *