عدلة شدّاد خشيبون
رواية “فرصة ثانية” لصباح بشير، رحلة في عوالم الأمومة والتضحية
كما هي عادتي في كلّ رحلة، سواء كانت قريبة أو بعيدة، وقبل أن أجهّز أمتعتي، أحرص على اختيار كتاب أو كتابين بناءً على مدّة الرحلة.
في رحلتي الأخيرة، لم أبحث طويلًا في مكتبتي، ولم أقع في حيرة الاختيار، فرواية “فرصة ثانية” كانت بانتظاري.
“فرصة ثانية”، رواية واقعيّة للأديبة صباح بشير، صدرت حديثًا عن دار الشّامل للنّشر والتّوزيع، وتقع في 259 صفحة.
تبدأ الرّواية بحدث مأساويّ مؤثّر وهو موت “فاتن”، الذي أعاد إلى ذاكرتي موت سلمى في رواية “الأجنحة المتكسّرة” لجبران خليل جبران، فكلاهما يمثّل الاحتضار ثم الموت، يليه التشتّت والحيرة.
وفي خضمّ هذه المأساة، يولد طفل جديد، اسمه يحيى، ليمنحه والده مصطفى فرصة للحياة وهنا نتذكّر قول الشاعر: “سميته يحيى ليحيا”.
يبدأ صراع طبيعيّ متوقّع، يتعاطف معه القارئ بشدّة، خاصّة مع قصّة الحبّ التي انتهت بهذه النهاية المحزنة، بوفاة الزوجة.
تنقلب صفحة أخرى من الرّواية لنكتشف جانبًا اجتماعيًّا مؤثّرًا بين أسرة مصطفى وأسرة فاتن، حيث تتولّى هدى الشّابة رعاية الطفل اليتيم، وتنشأ بينهما علاقة حبّ أموميّ وتعلّق قويّ.
تتوالى الأحداث بأسلوب مشوّق يجذب القارئ ويجعله يسترجع ويستذكر ذكريات مشابهة من واقعه.
لقد ذكرّتني هذه الأحداث بقصّة طالبة في مدرستي، فقد أخبرتني ذات مرّة أنّ والدتها توفيت، وكانت هي وأخوها لا يزالان صغيرين، فاختارت جدّتها خالتهما لرعايتهما وتربيتهما.
كانت الخالة بمثابة الأمّ الحنون لهما، وقد شعرا بذلك بفضل رعايتها الحانية.
كما تذكّرت أيضًا قصّة مشابهة لعائلة من أقاربي، حيث قامت الخالة بدور الأمّ والزوجة ورعاية الأبناء، وكانت بمثابة الأمّ الثانية لهم.
إنّ هذه القصص تؤكّد واقعية أحداث الرّواية، أمّا الصّراع الداخليّ الذي عاشته هدى فكان طبيعيًّا، والتضحية التي قدّمتها كانت جليّة. كذلك عانى مصطفى الذي وافق على هذا الزواج على مضض، وظلّ الصّراع يلاحق هدى حتّى بلغ بها اليأس من مصطفى درجة كبيرة، فبدأت تفكّر بالانفصال وإنقاذ حياتها، وإنهاء زواجها الذي لم يكلّل بالنّجاح في بدايته، لكنّ الكاتبة، استطاعت أن تعيد الأمور إلى نصابها، لتصبح هدى زوجة وأمًّا مثاليّة.
ضمّت الرّواية قصصًا أخرى متشابكة، جميعها تدور في إطار العائلة والعلاقات الاجتماعيّة، كما تضمّن النّص عدّة حكايات جانبيّة سارت بالتّوازي مع القصّة الرئيسيّة، على سبيل المثال، قصّة إبراهيم ونهاية، وقصّة عبد الله ولبنى، حيث حاولت الزّوجة التّنفيس عن مشاكلها بطريقة استفزازيّة دون مراعاة لمشاعر زوجها المحبّ والصّبور، على الرّغم من محاولاته المستمرّة للتّقرّب منها، إلا أنّه كان يصطدم في كلّ مرّة بتصرّفاتها الغريبة وسلوكياتها السلبيّة، ممّا أدّى به في النّهاية إلى اتّخاذ قرار الطلاق، وهو الحلّ الوحيد في مثل هذه الحالات، لكنّ دور الأمّ الإيجابيّ أنقذ الموقف بلباقة، وبمساعدة هدى، تمكّنت الأسرة من تجاوز الأزمة، وتكلّلت النّهاية بفرحة انتظار مولود جديد.
ما أثار انتباهي، هو تسليط الضوء على مكانة المرأة، وخاصّة الأمّ، التي لعبت أدوارًا متعدّدة لحماية عائلتها، ومن ذلك حديثنا عن أمّ مصطفى التي اختارت هدى لرعاية الطفل، ورفضت تسليمه لامرأة أخرى قد تسيء معاملته.
عنوان الرّواية “فرصة ثانية” هو عنوان تفائليّ بامتياز، يحمل دلالات رمزيّة عميقة، تتجلّى بوضوح خلال قراءة النّص.
أمّا البناء الروائيّ فتميّز بالتّماسك والقوّة، واتّسمت الأحداث بالتّفاؤل والتّشويق، رغم البداية التي غلب عليها الحزن.
نستنتج من هذا العمل، أنّ الحياة قصيرة، وعلينا أن نمنح أنفسنا والآخرين فرصة ثانية دائمًا، لننعم بالسّعادة والرّاحة، بدلاً من الاستسلام لليأس وقطع الأمل وإغلاق الأبواب في وجه الحياة.
المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية هو مدينة حيفا الجميلة، ولا شكّ أن الكاتبة تكنّ لها حبًّا عميقًا، فقد استوحت من بحرها وهوائها العليل الكثير من جماليات العمل.
لوحة الغلاف بريشة الفنّان جمال بدوان، وهي لوحة جميلة وموفقة للغاية، تعبر عن عاطفة الأمومة وسرّ الحياة، كذلك لغة الكاتبة لغة شاعريّة عذبة، تنسجم مع الأحداث وتزيدها جمالًا بأسلوب سلس وشيّق، فتشعر وكأنك تستمع إلى سيمفونية موسيقيّة تأخذك في رحلة ممتعة دون ملل أو كلل.
هذه هي الروائيّة الكاتبة الأديبة صباح بشير، صاحبة القلم المميّز والفريد، الذي وهبها الله إياه، فحافظت عليه بمطالعاتها ودراساتها ومقالاتها النّقديّة وقراءاتها لإبداعات مبدعينا.