ألكاهن سمعان نصار..نبع الصفا العذب!
فتحي فوراني
-
واكتشفنا الجزيرة الخضراء!
في صحراء القحط الثقافي..كنا نتحرق شوقًا للعثور على ينابيع الأبجدية كي نروي عطشنا ونشفي غليلنا..وإذا ما عثرنا عليها..قفزنا من مكاننا وصرخنا فرحًا: “يوريكا..وجدتها..وجدتها”!
ونروح ننهل منها..فنعبّ نعبّ..من كوثرها العذب..ولا نتعب!
لقد عثرنا على رأس النبع..واكتشفنا الجزيرة الخضراء..فسحرتنا حجارتها الكريمة..أللؤلؤ والماس والياقوت والزمرد واللازورد والفيروز والمرجان!
-
“ألمكتبة العصرية”..وسادنها الأستاذ سمعان نصار!
في سوق الروم في الناصرة..”نبع ثقافي” يرتدي زيّ مكتبة صغيرة..غير أنها ليست صغيرة أبدًا..وليست متواضعة أبدًا..فقد اكتشفنا فيها منجمًا علميًا ثقافيًا معرفيًا يخبئ في أحشائه ذهبًا!
كان سادنها الأستاذ سمعان نصار!
وعلى رأس البوابة تتلألأ يافطة ثقافية تضيئها بخط عربي جميل..عبارة “المكتبة العصرية”.. دعوا الطلاب يأتون إليّ..
فندخلها بسلام آمنين فرحين!
ونطرح السلام على الأستاذ سمعان نصار.فتتهلل أساريره..
-
يا هلا..يا هلا!
وينفتح أمامنا عالم مترامي الأطراف..يغصّ بآلاف الكتب..بدءًا من الكتب الكلاسيكية القديمة وانتهاء بالكتب “الحديثة” التي تخرّجت من عصر الانتداب!
ألمكتبة صغيرة نسبيًّا..ولكنها محيط ثقافي بلا شواطئ..وسماء بلا حدود..يؤمّها الكثيرون من عشاق المطالعة طلابًا ومعلمين..شبابًا وصبايا..من الناصرة والقرى المجاورة..وآخرين جاؤوا من جميع أنحاء الوطن..لينهلوا العلم من عاصمة الثقافة العربية..
وفي ظروف القحط والحصار وجدران العزل الثقافي الشاهقة..تُغلق في وجهنا الأبواب والنوافذ والشرفات في عواصم الثقافة العربية..فيزداد الشوق والدافعية لاقتحام “الحواجز”..والانفتاح على بساتين الأبجدية..ويعلو صوت النداء الذي يصبو إلى معانقة ربة الجمال..لغتنا القومية!
ولا يلبث المتعطشون لمجالسة “خير جليس في الزمان”..أن يجدوا ضالتهم المنشودة..فيصلون إلى ما يصبون إليه..في “المكتبة العصرية”..
هنا نبع عطاء حاتمي..ومنارة شاهقة على خارطة الأبجدية في الناصرة.. عاصمة الثقافة العربية..في هذا الوطن الجميل!
-
حافظوا على كرامة الكتاب!
ندخل “المكتبة العصرية”..فنجد الأستاذ الأنيق الملبس منهمكًا في ترميم أطلال الكتب المستهلكة وتجليدها والإصلاح من شأن ما جار عليه الزمن!
يحمل قنينة الصمغ والشرائط اللاصقة الملونة..ويقوم بإصلاح “ذات البين” وجمع الشمل بين أوراق الكتب المشتتة التي تفرّقت أيدي عشاق المطالعة..ويطلب من الطلاب والشباب أن يصونوا الكتاب ويحافظوا على كرامته..لأنه سيواصل حمل الرسالة..سيخدم زملاءنا وإخوتنا وأخواتنا وأولادنا من بعدنا..وعليه يجب أن يظل الكتاب أنيقًا ونظيفًا بعيدًا عن تسرب الزيت والزعتر! فقد كان هذا الثنائي من “ثوابت” عهد الطفولة..يتسلل من شطائر الحرمان البائسة التي تنام إلى جانب دفتر الحساب واللغة العربية وجزء “عمّ” من القرآن الكريم..تأويها “الشنطة القماشية” التي يعود نسبها إلى سلالة كيس السكر “أبو حزّ أحمر”!
الأستاذ سمعان يستوي على عرش “إمبراطوريته” الصغيرة..إلى جانبه راديو ترانزيستور يصدح عاليًا ويزف بشرى تأميم قناة السويس..ومن خلف الرجل صورة للزعيم القومي جمال عبد الناصر!
أيها الإخوة والأصدقاء
الرجال مواقف..والرجل صاحب مواقف.
فهل ينسى أهل الناصرة يوم رحيل العملاق عبد الناصر يوم 29 أيلول من
القرن الهارب..كيف زحف البحر البشري من المدرسة الثانوية البلدية..طلابًا ومعلمين وأنهى البحر مسيرته أمام كنيسة البشارة..
ما زالت الأجيال تذكر وقفة الكاهن سمعان نصار الذي اعتلى على قمة تلة ترابية مقابل هذه الكنيسة..وراح يخطب في البحر البشري مفتتحًا خطبته بعبارة..ألله أكبر..ألله أكبر ألله أكبر. ثم راح يعدد مآثر الرجل الذي أطلعته أرض الكنانة وترك بصمته الخضراء على البحر البشري في مدينة البشارة وعلى خارطة الدنيا العربية والعالمية.
في هذه الأجواء النصراوية الوطنية كان للعم سمعان حضور بارز في المشهد الثقافي. فقد كان حامل رسالة ثقافية وطنية مميزة.وكان قبلة تؤمها الأجيال المتعطشة للكتاب العربي..في زمن القحط والحصار الثقافي الذي فرضه الحكم العسكري.
أيها الإخوة والأصدقاء
لقد شرفني أخي وصديقي الباحث خالد أن أكتب كلمة تتصدر كتابه “الحركة الوطنية والثقافية في الناصرة من خلال أوراق خوري البلد سمعان نصار”. وكان لي شرف مراجعة النصوص من ألفها إلى يائها. وقد استمتعت أيما استمتاع في رحلتي مع سمعان نصار في هذا الكتاب.
أيها العم سمعان نصار..أنت باق في ذاكرة الأجيال. وأنت معلق على جدران القلب. طابت ذكراك.
والسلام عليكم ورحمة لله وبركاته.
24.04.2025: كلمة الأستاذ فتحي فوراني في الأمسية الثقافية التي أقيمت في نادي حيفا الثقافي وتم فيها إشهار كتاب: “الحركة الوطنية والثقافية في الناصرة 1930 – 1948 من خلال أوراق خوري البلد الأب سمعان نصّار”.