فؤاد مفيد نقّارة: “الخندق الغميق”.
فؤاد مفيد نقّارة:
“الخندق الغميق”
“الخندق الغميق” رواية للدّكتور سهيل إدريس، صدرت عن دار الآداب بطبعتها السادسة (2013م)، أمّا الطّبعة الأولى منها فصدرت عام (1958م) وتقع في (189) صفحة.
هي سيرة ذاتيّة للدّكتور سهيل إدريس، لكنّها لم تحظَ بالاهتمام والانتشار الذي نالته رواية “الحيّ اللاتيني”، وهي الجزء الثّاني لرواية “الخندق الغميق”، وقد نشرت في العام (1953م)، وطُبِعت للمرّة الرّابعة والعشرين عام (2017م).
هي رواية ممتعة، تتناول قصة أسرة سامي، التي كانت تعيش في بيئة محافظة، لكنّها بدأت تتغيّر وتتحوّل إلى أسرة أكثر انفتاحا، كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد واختفت من مكتبتي، وأسعدني أن وجدت نسخة منها في جناح دار الآداب في معرض عمّان الدولي للكتاب قبل أعوام، وزاد سعادتي أكثر حين التقيت بالسّيدة رنا سهيل إدريس، ابنة الكاتب الرّاحل التي وقّعت لي الرّواية.
تدور الأحداث في فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي وهي تتحدّث عن عائلة مكونة من أب يشغل وظيفة مؤذّن في أحد المساجد في مدينة دمشق، بالإضافة إلى تجارة متواضعة من دمشق إلى حلب، لديه زوجة وثلاثة أولاد وابنة واحدة، حرص الأب أن يشغل أحد أولاده وظيفة المشيخة، كاستمرار للإرث الأبوي والدّيني في العائلة، لذا يقوم بإرسال ابنه سامي وهو في الثّانيّة عشر عاما إلى أحد المعاهد الدينيّة ليدرس أصول وعلوم الدّين.
تصف الأحداث حياة سامي منذ الطّفولة وحتى البلوغ، ذكرياته في حيّ الخندق الغميق، التحاقه بالمدرسة الدّينية، وفرحته بارتداء الزّيّ الدّيني، ثمّ تراجعه وشعوره بعدم الرّاحة في هذا الزيّ.
على الرّغم من تأنيب والده واعتراضه إلا أنّ سامي قرّر خلع الجبّة والعمامة، واجه والده بقراره فشعر الوالد بخيبة كبيرة وتوتّرت العلاقة بينهما، تلك المواجهة في جوهرها صراع ثقافيّ وحضاري بين الأجيال، بين عالم الأمس وعالم اليوم.
اجتاز سامي امتحانات الثانويّة العامّة بعد اجتهاد ودراسة مضنيّة، ليشقّ طريقه إلى الجامعة، بعيدا عن طريق والده، كان يحلم بالسفر الى فرنسا، ويتمنى أن يمتلك صحيفة خاصّة. يصف بعد ذلك عمله لتوفير مصاريف التّعليم، بعد أن حرمه والده من المصروف وتوقّف عن دفع تكاليف دراسته. تتحدّث الرّواية عن حبّه الطّفولي البريء لأسماء في المصيف، وانتقالها بعد ذلك إلى مصر وزواجها من قريب لها، وصدمته الكبيرة ممّا حصل.
فوزي هو الأخ الأكبر لسامي، وقد كان يقلّد والده في معظم الأمور، كانت علاقته إيجابية ومتناغمة مع أبيه، إلا أنه سرعان ما بدأ يستكشف العالم الخارجي من خلال زيارة الملاهي الليلية، وشرب الخمر ومعاشرة العاهرات، اكتشفت الأم ذلك بعد أن أخبرها سامي بما يفعله فوزي.
أما الابنة، فقد فتحت عينيها على صديق سامي، الذي كان يثير إعجابها، وتطوّرت الأمور بسرعة إلى علاقة حبّ بينهما. هكذا نفّذ سامي رغبته بخلع الجبّة والعمامة، بينما خلعت الابنة الحجاب ولم ترتديه مرّة أخرى.
كان الأب في حيرة أمام هذا الوضع، فقرّر السفر إلى حلب والزّواج هناك من امرأة ثانية، علمت الأمّ بزواجه فانهارت. اتّخذ جميع أفراد الأسرة موقفا ضد الأب، الذي اضطر إلى الخضوع والتراجع عن قراره، وبقيت الأسرة متمسّكة بقراراتها ونتيجة لذلك أصيب الأب بوعكة صحيّة، فظلّ طريح الفراش حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
كان سامي يشعر بالملل والضّجر من دروس الحياة، فلم يكن يجد فيها أيّ معنى أو متعة. بدأ يشكّك في أساتذته، الذين علّموه الدّين، ورأى أنّهم لم يفقهوا منه إلا القليل، بدا له أنّ الكثير منهم كانوا يردّدون الأقوال والأحاديث والمأثورات كالببغاوات، دون فهم أو تعمّق، كان هؤلاء الأساتذة في الغالب من أبناء الكتاتيب، الذين تلقّوا العلم على يد بعض الشيوخ، ولم يحظوا بأيّ ثقافة أو تعليم حديث، لذلك، كانوا يعتمدون على الخرافات والأساطير التي استقوها من الكتب الصفراء.
حقّق د. سهيل إدريس حلمه وأنشأ دار الآداب ومجلّة الآداب، دعم الكتاب وله الفضل باكتشاف عدد كبير من الأدباء، وهو يحظى بسمعة طيبة، واستمر أولاده سهيل وسماح ورنا في تقديم رسالته، والسّير على نهجه وخطاه.
ختاما، فالكبار لا يموتون، بل هم أحياء بيننا بما أبدعوه وكتبوه، فهم من تركوا لنا إرثهم الثقافيّ الذي لا يقدّر بثمن. من خلال أعمالهم الأدبيّة والفنيّة والفكريّة، أثّروا في حياتنا وشكّلوا أفكارنا ورؤيتنا للعالم.
فعندما نقرأ كتابا لكاتب كبير، أو نشاهد فيلما لمخرج قدير، أو نستمع إلى موسيقى لمؤلف مبدع، فإنّنا نتواصل مع شخص عاش قبلنا بزمن طويل، لكنه ما زال حاضرا في حياتنا.
أعمال هؤلاء الكبار هي نتاج تجاربهم الحياتيّة ورؤاهم الفلسفيّة العميقة، تعكس أفكارهم ومشاعرهم ومواقفهم تجاه العالم.
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.