صباح بشير
التّراث الفكريّ في رواية “حيوات سحيقة” للرّوائيّ الأردنيّ يحيى القيّسي
تعرض هذه المقالة جزءا من دراسة نشرتها في كتابي “شذرات نقديّة”.
مقدّمة:
تعتبر رواية “حيوات سحيقة” للرّوائيّ يحيى القيسي رحلة استكشافيّة في أعماق الوعي الجمعيّ العربيّ، ففيها يتداخل الواقع بالخيال، والتّاريخ بالحاضر.
تسعى الرّواية إلى فكّ شفرة الهويّة العربيّة المعاصرة، من خلال استحضار التّراث، واستخدام رموز الغموض والماورائيات.
في هذا التّحليل، أقوم برحلة في أعماق النّصّ لاستكشاف جوانبه المختلفة، من حيث الشّكل والمضمون، والأفكار الّتي يطرحها، وكيفية ارتباطها بالواقع المعاش.
بداية: اعتقَد الفيلسوفان اليونانيّان سقراط وأفلاطون قديما، أنّ هنالك نفسا داخل كلّ شخص فينا تبقى حيّة بعد موته لا تموت معه، وأنّ هناك عودة للحياة، وأحياء من الموتى، وأنّ نفوس الموتى تبقى موجودة، ومنها تنطلق حياة أخرى جديدة.
من قلب هذه الفكرة، نسج الرّوائيّ الأردنيّ يحيى القيسي عالم روايته “حيوات سحيقة” الصّادرة عن دار خطوط وظلال عام (2021م)، وتمتدّ على (164) صفحة، مستحضرة المكان كإطار أساسيّ لها، لتقدّم للقارئ فكرة متميّزة بغموضها وجاذبيتها. يطرح الكاتب فكرته الّتي تميّزت بغرابتها، محفّزا قارئها على التّغلغل فيها، متجاوزا المعاني الظّاهريّة للنّص، باحثا عن تلك الغائرة في أعماقه. ولعلّ كتابة رواية تحمل فكرة ماورائيّة، تحتاج إلى جرأة شديدة، وكفاءة عاليّة، وذلك لإيصالها إلى القارئ وإقناعه بها على النّحو الأفضل.
الإهداء:
استهلّ الكاتب روايته بإهدائها “إلى فرسان الأنوار العلويّة في رحلتهم الأرضيّة”. يتبادر للذهن لأوّل وهلة أنّ هذا الإهداء غريب غير مفهوم، لكن.. عند قراءة النّصّ والتّأمّل في معانيه ودلالاته، يستنتج القارئ ما رمى إليه الكاتب، وبالطّبع فإنّ القارئ المتفحّص، يسعى إلى فهم التفّاصيل الدّقيقة والتّداخلات العميقة الّتي تلقي الضّوء على المعاني الخفيّة في النّصّ، يحاول سدّ الفجوات الّتي خلقها الكاتب عمدا، ويتساءل عن دوافع الشّخوص وكيف تتأثّر بسياق الأحداث من حولها، يحاول أيضا فهم الرّموز الموجودة، وكيف تلعب دورا في تعزيز الفهم للرّسالة العامّة للعمل.
بشكل عامّ، يقوم القارئ المتفحّص بجهد لاستكشاف عمق هذا النّص وكشف أبعاده، تلك الّتي تُركَت بشكل مقصود؛ لتفعيل ذهن المتلقّي وتحفيز تفكيره وتشويقه.
العنوان ودلالاته:
بعد البحث عن المعنى اللّغوي لأصل كلمة “حَيَوات” نجد أنّها في صورة جمع تكسير، وجذرها (حيّي) وجذعها (حيوات)، وهي تشير الى الحياة، النّموّ والبقاء، أمّا كلمة “سحيقة” فهي صفة تدلّ على الثّبوت من سحُقَ وسحِقَ.
يقول العرب: الأزمنة السّحيقة، أيّ الغابرة، ومكان سحيق أيّ بعيد، وواد سحيق أيّ واد عميق، من هنا فعنوان الرّواية يدلّ على فكرتها غير النمطيّة وعلاقتها بالمكان، الّذي برز كعنصر مهمّ في صياغة هذا العمل، وذلك لارتباطه بالمكوّنات والعناصر البنائيّة للنّص.
تركّز الرّواية على عنوانها الّذي يحمل المعاني المتشعّبة، ومع هذا التّشعّب والتّداخل، نجده يرتبط ارتباطا وثيقا بالقلق الماثل في ثقافة الإنسان العربيّ، وتراثه الفكريّ وارتباكه أمام الحداثة.
يحمل العنوان أيضا فكرة التّطلّع إلى التّاريخ، ويؤكّد أنّ الهويّة العربيّة هي نتاج لحياة ودورات تاريخيّة محاطة بالكثير من الجدل.
يسعى النّص أيضا إلى التّوضيح وإعادة تفسير ذلك السّياق، ضمن إطار عامّ يقوم على الجدل؛ نتيجة لأسر الماضي وتأثيره على الذّات العربيّة، فكرها ومستقبلها.
بين التراث والحداثة:
يزخر التّاريخ بالعصور الّتي تميّزت بالصّراع بين التّقليد والحداثة، بين الخرافة والعلم، بين العقيدة والعقلانيّة، وعجلة التّاريخ مستمرّة، وهي تعني كامل الحياة دون استثناء، الماضي الحاضر والمستقبل، لذا يدرس المؤرّخون والباحثون الماضي؛ كتجارب للشّعوب يجب النّظر إليها والتمّعّن فيها، وذلك للاستفادة منها ومن خلاصة ما قدّمته الأمم من نشاطات عبر الزّمن في مجالات المعرفة الإنسانيّة المختلفة.
تسعى العديد من هذه الدّراسات إلى اكتشاف السّبب الجذريّ للرّكود المعاصر من خلال الاستقصاءات التّاريخيّة، بينما تسعى دراسات أخرى للكشف عن ديناميكيّة التّراث الفكريّ وقدرته على التّكيّف مع مختلف الأنظمة الاجتماعيّة والأيديولوجيّة.
من بين أهمّ مؤسّسي النّهج النّقديّ المفكّر محمد أركون، الّذي رفض الفصل بين الحضارات، وتساءل عن تاريخ المفاهيم المركزيّة، كالدّين والمجتمع، الحلال والحرام، العقل والضّمير، المعرفة التّاريخيّة والعلميّة والفلسفيّة إلخ. وعن مؤرّخي الفكر والأدب فقد تطرّقوا إلى هذه المفاهيم، لكن.. ما زالت الحواجز قائمة في طريق المعرفة، بالإضافة إلى إشكاليّات التّطبيق بين الأديان والتّاريخ والفلسفة، والعلوم المعرفيّة والسياسيّة والأدب، خصوصا ما يتعلّق بالأنثروبولوجيا الّتي لم تزل غائبة عن الأذهان بفروعها، والّتي تدرّس التّصرفات الإنسانيّة وبناء الثّقافات البشريّة، بأدائها ووظائفها في كلّ زمان ومكان، كذلك وتأثير اللّغة على الحياة الاجتماعيّة وتطوّر الإنسان بيولوجيّا، وثقافات البشر القديمة.
نستنتج ممّا سبق، أنّ القيسي دخل في روايته إلى موضوع شائك، تتشابك فيه الثقّافة بالتّراث والميثولوجيا والفكر في شبكة معقّدة من التّفاصيل والتّداخلات، ممّا يضفي على الرّواية طابعا خاصّا وعمقا تأمّليّا لصورة معقّدة، تعكس أسلوب التّفكير والثّقافة الشّعبيّة والفكريّة العربيّة، وتستكشف التّأثيرات المتبادلة بين التّراث والفكر والتّغيرات المجتمعيّة.
حبكة الرّواية:
“صالح” بطل الرّواية الّذي اقترب من الأربعين، عمل في مجال التّدريس ثمّ دليلا سياحيّا، بعد ذلك باحثا في مركز للدّراسات، قام بمرافقة فريق تلفزيونيّ لتصوير فيلم وثائقيّ عن الرّحالة والمؤرّخ السّويسري “يوهان لودفيك بركهارت”، الّذي وصل إلى شرق الأردن مكتشفا مدينة البتراء في جنوبه (1812م).
يتتبّع صالح مع الفريق الأماكن الأثريّة في الأردن، وخلال إنتاج ذلك الفيلم، انفرد صالح عن الجميع وزلّت قدمه؛ فسقط في حفرة قضى فيها ليلة قاسيّة صعبة، بعد أن سَدّ التّراب ثغرة الحفرة، فشعر بالإحباط واليأس، وأن لا أمل له بالنّجاة.
نظر حوله فاكتشف أنّ الحفرة تنتهي إلى سرداب يؤدّي إلى كهف يقود إلى مكان ما، بعد ذلك وجد إناء من الفخّار يشبه الجرّة؛ فقام بكسره، وجد فيه سائل كثيف، تذوّقه واستشعر حلاوته؛ فانتابته حالة غريبة! وكأنّ شيئا ما قد تغيّر به، بدأ يشاهد ومضات من حيوات أخرى عاشتها النّفوس الأثيريّة وانتهت إلى جسده!
غاب صالح عن الوعي، وأضحى بحالة هلوسة شديدة، راح يرى أشياء غريبة، ويتخيّل حياة مختلفة بوقائعها، وكأنّ أحد أجداده قد عاشها في أزمنة سحيقة!
في اليوم التّالي تمّ إنقاذه وإسعافه من الكسور الرّضوض والكدمات، وعاد إلى مدينة الزّرقاء حيث عائلته الّتي اعتنت به.
انقلبت حياته رأسا على عقب جرّاء ذلك الحادث الغريب، فقد عصفت الأحداث الغامضة به وبأيّامه، انهالت عليه المشاكل وتتالت عليه الأفكار السّلبيّة، بدأ يشعر بالخوف والقلق وفقد الثّقة في نفسه وفي الآخرين، بدأ يشكّ في كلّ شيء حوله، وأصبح ينظر إلى العالم نظرة تشاؤميّة، وجد نفسه في صراع دائم مع نفسه، وأخذ يفقد الأمل في الحياة.
اجتهد في البحث عن تفاسير منطقيّة لما يحدث معه، وعن إجابات للأسئلة الّتي كانت تدور في ذهنه، ثمّ لجأ إلى التّفسير الدّينيّ، وانغمس في دوّامة التّطرّف الدّينيّ، ومن خلال بعض الأقرباء وقع فريسة للتطرّف، بحث عن الخلاص، فبدأ يقرأ ويبحث في الكتب والمراجع، علّه يجد فيها بلسما شافيا لما هو فيه، فلم يساعده ذلك، لكنّ عمله مع فريق التّصوير البريطانيّ، وعلاقته مع “أليس” دفعته للتمعّن في الواقع والعودة إلى المنطق والتّفكير بعقلانيّة، والعثور على ضوء في نهاية النّفق.
أخيرا.. وبعد المعاناة، بدأ يتعلّم كيفيّة التّعامل مع هذه الأزمة، وراح يستشعر الأمل مرّة أخرى وينظر إلى الحياة بمنظور جديد، أصبح يؤمن أنّ كلّ شيء يحدث لسبب، وأنّ كلّ تجربة، حتّى لو كانت صعبة، يمكن أن تكون فرصة للتعلّم والنّمو، مدركا أنّ الحياة مليئة بالتحدّيات، ولكن.. يمكننا التّغلّب عليها إذا كان لدينا الإيمان والعزيمة.
ألهمته “أليس” بالنّظر إلى الأمور بعقلانيّة، فبدأ باستعادة توازنه العقليّ، فوجد النّور وحقّق التّحوّل الإيجابيّ؛ لينجو بنفسه من تلك الأفكار السّامة، وذلك بمساعدة العنصر الأنثوي الفعّال في الرّواية، فعلاقة صالح بأليس لم تكن مجرّد خيوط عاطفيّة زيّنت السّرد، بل كانت المحرّك الأساسيّ في تطوّر شخصيّته، وخروجه من المأزق الّذي كاد أن يؤثّر على صحته العقليّة والنّفسيّة، بدأ تأثير الحبّ الإيجابيّ يظهر عليه بشكل واضح؛ كمحفّز لتغيير نظرته إلى الحياة والمستقبل، وبفضل الدّعم العاطفيّ والتّفهّم والاحتواء الّذي قدّمته أليس، استعاد صالح توازنه العقليّ وشعر بالإلهام لتحسين وضعه النّفسيّ والمعنويّ.
أظهرت الرّواية من خلال تلك العلاقة، كيف أنّ الحبّ والاهتمام يمكّنان الإنسان من التّغلّب على التحدّيات والخروج من المواقف الصّعبة، وأنّ تأثير الحبّ على الإنسان ليس محصورا في العلاقات الرومانسيّة فقط، بل يمتدّ إلى تأثيره الإيجابيّ على النّفس والتّفاؤل والنّظرة إلى الحياة.
هلوسة أم اضطراب نفسيّ:
الهلوسة هي تجارب حسيّة لا أساس لها في الواقع، قد تكون بصريّة أو سمعيّة، وغالبا ما توصف بأنّها “رؤيّة أشياء غير موجودة” أو “سماع أصوات غير حقيقيّة”.
هناك العديد من الأسباب المحتملة للهلوسة، بما فيها الاضطرابات العقليّة مثل الفصام والاضطراب ثنائيّ القطب والاكتئاب، وبعض الأدويّة والأمراض الجسديّة مثل الصّرع والأمراض الدّماغيّة والإرهاق الشّديد، أو الحرمان من النّوم، أو التّعرّض لصدمة نفسيّة أو عصبيّة كما حصل مع بطل الرّواية.
في بعض الحالات، قد تكون الهلوسة علامة دالّة على حالة طبيّة خطيرة، لذلك، من المهمّ استشارة الطّبيب المتخصّص، وبالطّبع يعتمد علاج الهلوسة على السّبب الكامن وراءها.
أدخل الكاتب موضوع الهلوسة إلى روايته بأن جعل أحد الشّخوص الرئيسيّة “صالح” يعاني من الهلوسة، فكشف بذلك عن نفسيّته وصراعه الدّاخليّ، الّذي تعمّق بسبب صدمة نفسيّة وعصبيّة، فجاءت الهلوسة كجزء من عالمه الخياليّ؛ مما خلق بعض الغموض.
كما استخدم القيسي الهلوسة؛ كرمز واستعارة لتمثيل شيء آخر كالحلم والخيال أو الجنون، فقد رأى البطل أشياء غير موجودة في الواقع، هذه الأشياء رمزت إلى مخاوفه أو رغباته أو أحلامه كإنسان عربيّ قلق، لديه الكثير من المخاوف، يحاول فهم معنى الحياة والموت، ويعيش واقعه المضطرب في مجتمع وثقافة متناقضة، متحضّرة في خارجها ومنغلقة على ذاتها من الدّاخل، تقليديّة تقاوم التّغيير، وتؤمن بالسّحر والشّعوذة والتّنجيم والماورائيات، والكثير من الخرافات. وهنا يحضرني ما قاله الشّاعر نزار قبّانى: “لبسنا قشرة الحضارة والرّوح جاهليّة”!
هذه الهلوسة عكست الصّدمة الّتي تعرّض لها صالح، وأضافت الكثير من الغموض والتّشويق، وفي النّهاية فإنّ الطريقة الّتي ربط بها الرّوائي موضوع الهلوسة في روايته، اعتمدت على أهدافه الفنّيّة والموضوعيّة الّتي سعى إليها؛ لتجسيد أفكاره ومشاعره، وأسلوبه ورؤيته ورسالته التّنويريّة.
المكان والزّمان:
تعامل القيسي مع المكان بشكل جيّد حين اتّخذ منه إطارا مادّيّا للأحداث المتخيّلة؛ فحقّق امتزاجا مكانيّا عجائبيّا بالحدث، الّذي حملت أحداثه حيّزا من السّكون إلى عالم الدّهشة السّرياليّة، فتجلّى المكان كأرض خصبة، امتزجت فيها الطّبيعة الثّقافيّة والتّاريخيّة بتفاصيلها المتشابكة الّتي عكست مركزيّة مكانيّة، ذات عمق تاريخيّ، فمنطقة البتراء النّبطيّة هي جزء من السّاحة التّاريخيّة والتّراثيّة الأردنيّة.
أمّا الزّمن فتداخل بالعديد من الأحداث؛ ليرسل القارئ إلى فترات عديدة، بدءا من زمن الرّاوي أو السّارد “صالح” المرتبط بالحاضر، ثمّ زمن رحلة “بيركهارت” وتقنيّة الاسترجاع، ثمّ أزمنة أخرى تُستعاد داخل وعي “صالح”، وتتّصل بالتّاريخ والتّراث العربيّ.
بشكل عام، يرمز الزّمن إلى الماضي والذّكريات، وإلى آمال الإنسان العربيّ وطموحاته الّتي تحكمها القيود الفكريّة العديدة، وإلى القديم والحديث والمقارنة بينهما، وقد ساهمت هذه الرّمزيّة في خلق جوّ خاص للرّواية، وإثراء كبير للزّمن السّرديّ فيها.
سرديّة الوعيّ والبحث عن الذّات:
تطرّقت الرّواية إلى العلاقة مع الثّقافات الأخرى والانفتاح على الآخر ونبذ خطاب الكراهيّة، الزّواج المختلط وقصّة الحبّ الّتي جمعت صالح بأليس، وقصّة زواج السّائحة النيوزلندية “مارغريت”، الّتي جاءت إلى البتراء ثم تزوّجت بدويّا من أهل البتراء واستقرّت فيها.
كلّ هذه الشّخوص وغيرها أدّت دورها بعناية وبرعت في شدّ انتباه القارئ، وذلك عبر حبكة متماسكة، حيكت بمهنيّة كتابيّة سرديّة عاليّة، وبأسلوب فنّيّ غنيّ بالغموض، وصور حيّة للشّخوص المتفاعلة مع نصّ تشابك وتعقّد، فظهر تأثير التّراث الفكريّ عليه، وعلى تشكيل شخوصه وطرق تفكيرهم.
بهذا الأسلوب قدّم القيسي تحليلا لتفاعلات الأفكار والقيَم في سياق مركّب لعمق التّحوّلات في المجتمع، وكيفيّة تأثيرها على الفرد والجماعة.
أمّا هيكل الحدث، فقد جسّد السّقوط في الحفرة الفعل الأساسيّ الّذي قاد البطل إلى الوعي والنّمو الروحيّ ونضج التّجربة، وذلك عبر جملة من الدّلالات حول أهميّة الوعي الفكريّ، واستخدام الحوارات الدّاخلية ونماذج الإسقاط؛ لتفسير ما حصل.
تُشَبّه فترة العزلة الّتي قضاها “صالح” في الحفرة بواقعة لا يمكن تفسيرها، غرائبيّة الأثر والتّكوين، إذ تبدو خارج نطاق المنطق، مخالفة للتوقّعات المنطقيّة للعالم الواقعيّ، فهي واقعة سرياليّة تشبه الأحلام والكوابيس، تثير في نفس القارئ مشاعر الغموض والغرابة والعجب والرّيبة.
يتمّ إنقاذ صالح ويعود إلى حياته السّابقة، لكنّه لم يعد هو نفسه، وهنا يظهر الوعيّ الجديد الّذي صاغته الظّروف، تلك الّتي خضع لها، وتبرز رؤيته المنطقيّة للماضي والحاضر، تلك الّتي تشكّلت بعد تجربة نفسيّة مريرة، ساهمت في تشكيل شخصيّته وجعلتها أكثر نضجا.
قاده هذا التّحوّل إلى تجربة قريبة من التّسامي نتيجة الخوف والقلق، إذ اقتربت تجربته من البعد الرّوحيّ وأثّرت عميقا في نفسه.
في البداية اعتقد أنّها تجربة دينيّة؛ فزاد من إيمانه حتّى وصل إلى التطرّف، وحين شعر بأنّها تجربة وجوديّة، أعاد التّفكير في قيَمه وأفكاره، لكنّه في مرحلة لاحقة وجدها تجربة نفسيّة، زادت من وعيه الذاتيّ، فعندما يتعرّض الإنسان لتجربة صعبة، يواجه التّحدّيات والصّعوبات التّي يجب التّغلّب عليها، وذلك ما يتطلّب الصّبر والتّحمّل والعزيمة.
يتعلّم الإنسان من تلك التّجارب، ويخرج منها بفهم أعمق للحياة والنّاس، وكأنّي بالكاتب يقول: التّجارب المريرة ما هي إلّا فرصة للإنسان؛ للنّمو والتّعلّم والتّحوّل إلى شخص آخر، أكثر نضجا وموضوعيّة.
اللّغة.. بين الجمال والخيال والبحث:
يجمع هذا العمل بين الخيال والبحث الفكريّ والتّوثيق التّاريخيّ، ساعيا إلى تقديم عمل سرديّ يحتفي باللّغة وجمالياتها، وقد لجأ الكاتب إلى آليّة خاصّة لإبداع نصّه الأدبيّ، فجعله متكاملا يزخر بالبلاغة والجماليّات اللّغوية الّتي تبهر القارئ، وتخلق عوالم جديدة مبهرة في الجوهر والعمق، فجاد بما في جعبته من الألوان اللّفظيّة، ولعلّ هذا ما شدّني إلى الوصول إلى آخر سطر في الرّواية دون أن أفقد شغفي بلغتها ورغبتي بالقراءة، وذلك لما يسكنها من سحر لغويّ خاصّ، يخلق الفخامة والرّقي للعمل، ويجعل منه أكثر جاذبية وثراء، ويجعل النّص أكثر إلهاما.
من ناحية أخرى فمصطلحاتها وتراكيبها صعبة، وغير سلسة للقارئ العاديّ، فهذا العمل استهدف النّخبة من القرّاء، وتناسى القارئ العادي البسيط، لكنّها وللحقّ، لغة صعبة القراءة والاستيعاب على القارئ العاديّ، ما يقلّل من متعته في القراءة، ويؤدّي إلى صعوبة فهمه لأفكارها، وبالتّالي إلى عزوفه عن قراءتها، وذلك ما يعيق وصولها إلى جمهور أوسع.
إذن، فهذه اللّغة الفصيحة البليغة تغدق علينا بفيض من الجمال، وفي الوقت ذاته تلقي بظلال من التّحدي على بعض القرّاء.
التّصنيف الأدبيّ:
بعد قراءتي لهذه الرّواية لمستها في أكثر من تصنيف، فقد تُصَنّف بالرّواية “القوطيّة” لتميّزها بأجواء الغموض، والأماكن المهجورة فيها، والمعتقدات والتلّميحات الّتي تسودها، ووجود الأماكن الأثريّة، والأطلال والماضي الذي يخزّن أسرارها.
كما يمكن تصنيفها كرواية نفسيّة عميقة، حيث تتناول رحلة البطل نحو اكتشاف الذّات وتجاوز الصّدمات النّفسيّة، مستخدمة رموزا وأحداثا غامضة تعكس أعماق اللّاوعيّ البشريّ.
قد تُصَنف أيضا بالرّواية “الملغّزة”، الّتي تعنى بالمجهول وكلّ ما يحيط به من الغموض والأسرار؛ لتقود إلى طرح الأسئلة والبحث عن الإجابات، وقد تصنّف بالرّواية “الفانتازيّة” الّتي تطرح فكرة وجود كائنات خارقة، متحرّرة من قيود المنطق، معتمدة على الخيال بشكل كامل، حيث تقع أحداثها في عالم متخيّل لا يخضع لقوانين مادّية فيزيائيّة طبيعيّة كعالمنا، إنما تصوّر عالما خاضعا لقوانين ميتافيزيقيّة، متناقضا مع التّجربة الواقعيّة.
إنّ ما يميّز “حيوات سحيقة” هو براعة السّرد، فأحداثها المتداخلة المتتاليّة تنقل القارئ إلى عالم الخيال والإثارة، وتسعى لاكتشاف الغامض وفهم المجهول؛ لتقدّم لنا لوحة فنّيّة متشابكة، تتناول قضايا الإنسان الوجوديّة في مواجهة عالم متغيّر ومعقّد.
ما وراء الفكرة:
للمفكّرين والباحثين والأدباء، أساليبهم المختلفة في تناول مسألة التّراث الفكريّ والحداثة، يعود ذلك الاختلاف إلى العوامل الأيدولوجيّة ودورها في التّعامل مع جدليّة التّراث والحداثة، انطلق بعضهم من منظور التّنوير لنقد التّراث الفكريّ العربيّ، فنادى إلى إعادة قراءة التّراث الفكريّ ليواكب العصر، العديد من الباحثين قاموا بإعادة النّظر في الفلسفة والعلوم الدّينيّة؛ لجعلها تتماشى مع حداثة العصر والعلم، فمثلا المفكّر علي شريعتي قام بإعادة النّظر في المصادر الكلاسيكيّة الفكريّة، لإظهار توافق الأديان مع الأيديولوجيات الحديثة، ينطبق هذا الأمر على المفكّر الطّيب تيزيني، الّذي اعتمد على الجدليّة التّاريخيّة في مشروعه الفلسفيّ؛ لإعادة قراءة الفكّر العربيّ، وكذلك الفيلسوف حسين مروّة الّذي قدّم كتاب “النّزعات المادّية في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة”، وركّز على احتواء الفلسفة والفكر الدينيّ على وجهات نظر وأساليب متقاربة مع الديالكتيك المادّي، والفلسفة العلميّة المستندة إلى المنطق ومفهوم التّناقض، وظاهرة تغيّر الأشياء باستمرار، الّتي تفسّر تطوّر الأشياء وتغيّرها عبر سلسلة من المراحل، كلّ مرحلة تقوم بنفي المرحلة السّابقة، مع الاحتفاظ ببعض عناصرها.
استخدم “كارل ماركس” الدّيالكتيك المادّي لشرح تطوّر الرأسماليّة، حين رأى أنّ الرأسماليّة تستند إلى التّناقض بين الطّبقة العاملة والرأسماليين، وبشكل عام فالدّيالكتيك المادّي يستخدم لدراسة مختلف الظّواهر الطّبيعيّة والمجتمعيّة، فهو أداة تحليليّة قويّة يمكن استخدامها لفهم العالم من حولنا، وهو يوفّر الفهم العميق للتغيّر والتطوّر.
المفكّر محمد عابد الجابري قدّم مساهماته في تحليل المعرفة في الثّقافة العربيّة ونقد العقل العربيّ، عبر دراسة المكوّنات والبنى الثّقافيّة واللّغويّة، ودراسة العقل السّياسيّ ثمّ الأخلاقيّ، ابتكر مصطلح “العقل المستقيل” ذلك العقل الّذي يتجنّب مناقشة القضايا المحوريّة الهامّة، مشيرا إلى العقليّة العربيّة وحاجتها إلى الابتكار.
يرى “أدونيس” أنّ العرب في القرن العشرين، عندما يحاولون دراسة تراثهم الماضي فإنّهم ينجذبون بشكل خاصّ إلى الإنتاج الّذي يرتبط بالتّغيير والتّحوّل.
هذا الإنتاج هو الّذي رفضه أسلاف العرب في الماضي، ولا يزال حتّى اليوم خارج بنية المجتمع العربيّ الأساسيّة، يشير أدونيس إلى أنّ هذا التّناقض هو أساس المشكلة.
في كتابه الأصول الاجتماعيّة للإسلام، طرح أستاذ علم الاجتماع محمد باميّة العديد من الأسئلة، وضّح الحاجة إلى الشّجاعة وكسر الحواجز والتابوهات؛ للوصول إلى الفهم الصّحيح، وإلى المزيد من الإثباتات التّاريخيّة والأدلّة الأركيولوجيّة، وعلم الآثار ودراسة البقايا المادّية للحضارات السّابقة، ودراسة الهياكل والأماكن الّتي بناها الإنسان مثل المدن والمعابد والمقابر، خاصّة وأنّ التّراث الفكريّ العربيّ في مجمله ضدّ الحداثة، أمّا المفكّر هشام شرابي فقد تناول التغيّرات الهيكليّة داخل العالم العربيّ خلال القرن الماضي، الّتي أدّت إلى “النّظام الأبويّ الجديد” بدلا من الحداثة، وفسّر ذلك بأنّ النّظام الأبويّ أنتجه التّفكير المجتمعيّ المفتقر إلى الإحساس بالأصالة، كما تناول السّلوكيات الاجتماعيّة، هيكل العائلة العربيّة، العجز، التّبعيّة، الوعي، المثقّف العربيّ وتحدّيات العصر.
في الواقع نحن ضحايا الموروث الفكريّ الّذي يقف حائلا بيننا وبين الحداثة، يحرمنا من الخوض في مسائل جديدة، إذ يقدّس النّاس القائم ولا يسعون إلى تغييره، ولا يفكّرون بجدواه أو صحّته، وبالتّالي فقدنا فعل الحريّة، وافتقدنا إلى التّفكير النّقدي الّذي يقودنا إلى الإبداع والابتكار.
الماورائيّات والتّراث الأدبيّ العربيّ:
تأثّرت بعض الرّوايات العربيّة بالماورائيّات، والتّراث الأدبيّ العربيّ الّذي قدّم فكرة السّحر والشّعوذة مثلا، هو تراث قديم وثريّ بالقصص والحكايا، ومن أقدم الأمثلة على ذلك هو الشّعر العربيّ القديم الّذي تطوّر من الأناشيد، الّتي توجّهوا بها إلى الآلهة.
في بدايات الشّعر الجاهليّ، ارتبط الإبداع بالإلهام، ثم تحوّل تدريجيّا إلى مهارة يتقنها الشّعراء من خلال الصّقل والتدرّب، وقد استلهم الشّعراء الجاهليّون قسوة الحروب وأساطير الأجداد، وتأثّرت نفوسهم باللّاشعور الجمعيّ، فظهرت في أشعارهم رموز وأيقونات تعكس عمق النّفس الجماعيّة، وقد شكّل الدّين والأسطورة خيالهم الشّعريّ، وبهذا، نرى أنّ الإبداع الشّعريّ في العصر الجاهليّ كان نتاجا لتفاعل معقّد بين الشّاعر ومحيطه، حتّى بدأ الشّعر ينفصل عن المعتقد، ليصبح فنّا أدبيّا مستقلّا.
في رحلة استكشاف جذور الكهانة عند العرب، يرى جرجي زيدان أنّ هذا العلم الغامض قد حمله الكلدان إلى أرض العرب جنبا إلى جنب مع علم النّجوم، تاركين بصمتهم على ثقافة المنطقة، ويستدلّ زيدان على ذلك باللّفظ العربيّ المستخدم للدّلالة على الكاهن، وهو “حازي” أو “حزاء”، وهي كلمة كلدانيّة الأصل تحمل في طيّاتها معنى “الرّائي” أو “النّاظر” أو “البصير”، كما لو أنّ الكاهن يمتلك عينا ثاقبة تخترق حجب الغيب.
تثير الكهانة جدلا واسعا بين النّاس، فبينما يعتقد البعض بصدقها ويؤمن بقدرتها على كشف المجهول، يشكك آخرون في صحّتها ويرونها مجرّد خرافات، وعلى الرّغم من انتشارها عبر العصور، إلّا أنّ العلم الحديث لم يجد أيّ دليل يثبت صحّة ادّعاءات الكهانة، فقد خضعت هذه الممارسات للعديد من الدّراسات والأبحاث، لكنّها لم تسفر عن أيّ نتائج تؤكّد فعاليّتها، فهل تُعدّ الكهانة مجرّد وهم يسلّي العقول، أم أنّها نافذة حقيقيّة على عالم الغيب؟
يبقى هذا السّؤال مفتوحا، تاركا لكلّ فرد حرّيّة الاعتقاد بما يراه مناسبا.
من الأمثلة الأخرى على التّراث الأدبيّ العربيّ الّذي قدّم فكرة السّحر والشّعوذة هي الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة، مثل ألف ليلة وليلة، الّتي تضمّنت مجموعة من القصص الخياليّة.
في العصر الحديث، استمرّت فكرة الغيبيّات والماورائيّات في الظّهور في الأدب العربيّ، وخاصّة في الخيال العلميّ والفانتازيا، فقد استخدمت هذه الأنواع الأدبيّة لخلق عوالم خياليّة مليئة بالمغامرات والإثارة.
يمكن القول أيضا، إنّ فكرة الغيبيّات هي فكرة عالميّة، ظهرت في العديد من الثّقافات المختلفة حول العالم، وقد لعبت هذه الفكرة دورا مهمّا في الأدب العربيّ، وفي تشكيل الثّقافة العربيّة، واستخدمت لخلق عوالم خياليّة مليئة بالمغامرات والإثارة.
في الختام:
لعلّ عملية إنتاج رواية تعتمد على فكرة غيبيّة أو ماورائيّة، هو عمل يتطلّب جرأة كبيرة من الكاتب، ومعرفة وثقافة واسعة؛ وذلك لإقناع القارئ بمضمونها ومحتواها، وهو ما يتطلّب أيضا مهارة في تناول العناصر الخياليّة والرّوحانيّة بطريقة مغايرة، تثير الفضول وتلامس الوجدان.
يتمثل التّحدّي الأكبر في جعل أفكار العمل ملهمة وجذّابة ومشوّقة؛ لتعيش في ذهن القارئ، بعد الانتهاء من القراءة وإغلاق الصّفحات، كما فعلت رواية “حيوات سحيقة” الّتي أثارت تساؤلات حول ماهيّة الوجود والحياة والموت.