راوية جرجورة بربارة: قراءة في كتاب “صفحات من الذّكريات” عبد الرّحيم الشّيخ يوسف

صفحات من الذكريات حول الماضي والحاضر وكلّ ما هو آت

نص المداخلة التي ألقيت في الأمسية التّكريميّة للأديب عبد الرّحيم الشيخ يوسف في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ: 29.05.2025

 

 

مساؤكم مساءٌ مختارٌ، حاوَرَ فيه يسوع حوارييه وصَعَد إلى السّماء، وفي مثل هذا اليوم المبارك، ما بين طبرية وجبل الزيتون وحيفا، نعرّج في طريقنا على الطيّبة، ولا أفهم لماذا قالوا: “كلّ الطيّبات لله ما عدا طيّبة بني صعب”، فقد رأيت الطيّبة من عينيّ ابنها البارّ عبد الرحيم الشيخ يوسف مختلفةً، مغايرة، لا تشبه طيّبة اليومِ إلّا في طيبةِ أهلها، في نبلِهم وكرم أخلاقهم، في محبّتهم وتواصلهم، قرأتهم في الذكريات يعانون الفقر، ورغمًا عنه يعلّمون أولادهم، يتعلّمون صباحًا في مكانٍ بعيدٍ ناءٍ في غرف مستأجَرة، ويحرُسون أراضي الزيتون بعد المدرسة، التي يذهبون إليها حفاةً حتّى تدمى أرجلهم؛ رأيت الطيّبة تاريخًا حافلًا بالتحدّي والتضامن أيّام الانقسام وضمّ أجزاء منها إلى الضفّة الغربيّة، وأيّام الحكم العسكريّ والتصاريح، رأيتهم فلّاحين يزرعون الأرض ويأكلون من خيراتها، يوثّق عبد الرحيم ذلك قائلًا: “لأَنَّ الفلاح كان جُزءًا من الأَرض، ولأَنَّ أَرضَ خالي بحسب الخطّ الأَخضر كانت ضمن حدود الضّفّة الغربيّة، هاجر خالي بشكل رسميّ ومرخّص من قِبَل الحُكم العسكريّ، وبالتّنسيق مع الحُكم الأُردنّيّ، وكانت هجرته من طريق الطّيّبة طولكرم، وحين دخولِه المنطقة الأُردنّيّة، سكن قريةَ فرعون في دار من غُرفتين وساحة صغيرة أَمامهما، وكان الشّوق يدفعنا إِلى كسر القانون، فنجتاز الحدود بين إِسرائيل والأَردنّ، وهي قريبة جدًّا من الطّيّبة ونتسلّل لزّيارة بعضنا مُعرَّضين للخطر، ورُبمّا خطر الحياة.”

 وكلّ هذه الذكريات سردها لنا عبد الرحيم بذاكرةِ الولد ابن الصفّ الأوّل والثاني والثالث والرابع، ذاكرةِ طفلٍ شهد موتَ والدِه شابًّا صغيرًا، تاركًا أطفالًا أكبرهم في الخامسة عشرة من عمره، كبروا وترعرعوا بقواهم الذاتيّة، بقوّة أرملةٍ أعالتهم مع ابنها الأكبر، فتنحني هاماتُنا لمثل هذا العطاء، وهذه الأمومة، فهؤلاء هنّ نساؤنا، يطعمن الدجاج، ويقطفن الزيتون، ويعجنّ ويخبزنّ ويربّين ويكبّرنَ، وينشئنَ جيلًا شاكرًا، صابرًا، قنوعًا، طموحًا؛ ومثلُ هذا التاريخ، ومثل هذه الذكريات يجب أن تعلَّم في مدارسِنا، لتكون عبرةً لأولادِنا المدلّلين أولادِ جيل الألفا والجاما، الذين لا يأبهون إلّا لملاعق الذهب في أفواههم، الجيل الذي لم يستحمّ في وعاء ويليّف من القمل والدود، الجيل الذي لم ينتظر مياه المزراب لتتجمّع كمياه للاستحمام،  والمؤن التي”توزَّع على العائلات بحسب مقدار معيّن من قِبَل الأُمم المتّحدة ووكالة الغوث، فالفقر كان له أَنياب كثيرة، فالحذاء كندرة، أَو صندل « الشاروخ » كان يُرقّع عند مُرقّع خاصّ يجلس في الشَّارع، يتّخذ مكانًا ثابتًا له.”

هذه الموادّ يجب أن يقرأها الأهل، والأمّهات ليعرفن بأنّنا نعيش في ألف نعمةٍ، وبأنّ متطلّباتنا العصريّة ليست من الضروريّات، بل هي كماليّاتٌ تعيننا على الرفاهيّة أثناء عملنا اليوميّ.

  إذًا هذه السيرة على قدْرِ ذاتيّتها هي سيرة غيريّة، بل هي سيرة جمعيّة، سيرة شعبٍ كان وما زال هنا ينبض حياةً ويتأقلم ويتغيّر ويتقبّل، ولماذا أصرّ عبد الرحيم الشيخ يوسف أن يكتب ذكرياتِه؟ لأنّ الكتابةَ بوحٌ لا بدَّ منه، لأنّ الكتابةَ كما تتجلّى عند أستاذنا عبد الرحيم الشيخ يوسف، تفريغٌ خوفَ أن يغُصَّ بذكرى أو ينساها… الكتابة عنده توثيقٌ مجتمعيّ، عائليّ، تربويّ، ودروسٌ عن حاضرنا من خلال الماضي القريب، وعن التغيّرات الهائلة والسريعة التي طرأت على عتبة الباطون وأرضيّة الباطون فأصبحت من الشايش والرخام، الكتابة عن الذكريات هي تمهيدٌ لمستقبلٍ ستكون فيها ايّامُنا الحاضرة تشبه ماضينا ببدائيّته لمَن سيخلِفُنا، الكتابة تحرّرٌ من أعباءٍ أثقلت كواهلنا، من ارتكاباتِ تاريخٍ، وانقساماتِ جغرافيا وارتباكاتِ مشاعر…

 الكتابةُ عمليّةُ استرجاعٍ للأحداثِ، للعادات، للتقاليد، للاجتماعيّات، لنفهمَها، لنستوعبَها، لندرسَها، لنتخلّص منها وقد أودعناها أمانةً في يد القرّاء.

 الكتابةُ عمليّةُ تطهيرٍ للنفسِ من شوائبَ ما عانته، وإلّا كيف يمكننا أن نتخطّى معاناتِنا دون البوح عنها؟ فالجلسةُ للكتابة هي جلسةٌ عند طبيبٍ نفسيّ، يداويك من أزماتكَ الفرديّة والجمعيّة، ويحرّرك نحو انطلاقاتٍ أخرى…

 والكتابةُ من ذاكرتنا هي توثيقٌ اجتماعيٌّ، تاريخيٌّ، جغرافيٌّ، سياسيٌّ، حضاريٌّ، “وإلّا أكلتنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة” (سلمان ناطور)، الكتابةُ إذًا ليست مجرّدَ إلهامٍ يأتينا في وادي عبقر، وليست مجرّدَ أداةٍ لتحقيق الذات، الكتابة مسؤوليّةٌ حين نتبنّاها كفعلٍ اختياريّ غيرِ ملهَمٍ.

إذًا هي سيرةٌ تمتدّ على امتدادٍ تاريخيّ جغرافيّ، محاوِلةً أن تمسحَ الغبارَ عمّا فات، وأن تغربلَ التاريخ بطروحاته المختلفة، وأن تعرضَه من أفواه مَن عاشوه، وأن تطهّر هذا التاريخ من قصصٍ وحكاياتٍ لا شبق له فيها ولا عبق.

  هذا الذكريات هي إغراقٌ في المحليّة، وهذا الإغراق في المحليّة والخصوصيّة هو سرُّ نجاح الكاتب المبدع الذي يعطي مِن ذاته، لشعبه وتاريخه ليكون صادقًا أكثر، ألم يكن هذا الإغراق في المحليّة أحدَ أسباب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب؟ ألم يكن هذا الإغراق في المحليّة سببًا لانتشار أدب ماركيز؟ ألم يكن هذا الإغراق في حياتنا الماضية، وهذا العطاء المدروس الجمّ هو سبب استمراريّتك، وحبّ القرّاء لك، وتكريمك اليوم، فماذا يريد الكاتبُ أكثر؟

فماذا أخرج لنا عبد الرحيم من ذاكرته؟ وما هي الأمور التي تحفظها لنا الذاكرة، ما هي الأمور التي تنساها أو تتناساها؟ يعتبر فرويد الذاكرة “مجمل الأحداث المنسيّة والمشاعر والانطباعات والمتع والشروخ والهواجس والمخاوف والأهوال التي اعتورت حياة الإنسان”  أمّا هنري برغسون فيقول “إنّ الذاكرة ليست مستودعًا للذكريات الجامدة، بل هي نخبة من الأحاسيس تستثير العديد من المشاعر” [1]

  فممّا جاش من مشاعرَ وأحاسيسَ وثّق لنا عبد الرحيم وكتب، من هذه الذاكرة يوثّق عبد الرحيم ظواهر أنا شخصيًّا لم أكن أعرفها عن المعلّمين اليهود العراقيّين، عن عدم وجود مدارس لتأهيل المعلّمين، عن عدم وجود ثانويّات في كلّ البلاد، كلّ هذا العدم كان واقعًا مرًّا، لكن هذا العدم يتركنا الآن مع مفاهيم مختلفة، وكأنّنا مجتمع جديد، مختلف تمامًا عمّا كان، كلّ هذا التطوّر الذي نحياه الآن، وُلِدَ بعد عدم، لن أقول وُلِد من العدم، وهذا يفسّر لي سبب تأخّرنا في أمور عديدة، دراسيًّا وثقافيًّا وحياتيًّا وتحصيلًا، لأنّ ما نتّكئ عليه في العديد من القرى والمدن العربيّة في بلادنا هو حديثٌ وحداثيّ، وما زال يحاول أن يتحرّر من ثقَل عباءة الأجداد بعاداتها وتقاليدها؛ يقول عبد الرحيم: “كان مُربّي صفّي المعلّم سَلْمان «اليهوديّ العراقيّ » وهو مُدرّس اللّغة العبريّة. كانت ظاهرة ظهور وعمل المعلّمين العراقيّين اليهود بارزة، لأَنَّهم كانوا بِعَدَدٍ وافر من مُهاجري العراق، ومن خرّيجي دار المعلّمين في بغداد. ولم يكن في القرى العربيّة في إِسرائيل مسار تخريج وإِعداد معلّمين للابتدائيّات، مع العلم أَنَّ الثّانويّات كانت معدومة، كانت ثانويّة في النّاصرة فقط وفي عام 1950 بدأت نُواة المدرسة الثّانويّة في الطّيّبة بواسطة الصّفّ التّاسع، حيث كان الصّفّ الثّامن جزءًا من المدرسة الابتدائيّة”

  وما فعله أستاذ عبد الرحيم، أنّه حَمَل لنا في كتابه صورًا حيّة عن أماكننا التي كانت لنا، وغيّرت ناسَها وأسماءَها؛ عن أحداثنا الاجتماعيّة التي لم نعِشها، بل عاشها أجدادنا وآباؤنا ونحن ورثناها عاداتٍ وتقاليدَ وطرائقَ تفكير، وطرائقَ حياة؛ عن التاريخ الذي لم يُكتَب ولم يؤرّخ إلّا في ذاكرتنا الشفويّة أو في أدبنا، عن السياسات المختلفة التي أوصلَتنا إلى حاضِرنا، تلك السياسات التي لم نتعلّمها في المدرسة، ولم نسمعها قصصًا تُروى من أهالينا، فجاء وحرسَها من الاندثار، وحماها من النسيان والضياع؛  حفظ لنا عبد الر حيم أسماء العائلات والأشخاص الذين سبقونا ببساطتهم، بطيبتهم، بمعتقداتهم، بتأثيرهم الشخصيّ عليه، وبتأثيرهم على مجتمعهم، وشرح لنا ما مرّ عليهم، شرح أوضاعَهم، وكيف كانت حياتُهم حين وقعوا تحت الحكم العسكريّ، لنقرّر هل هم جزء ممّا نحن فيه اليوم؟ هل كانوا يستطيعون تغيير الواقع آنذاك؟ إذ كتب لنا ما حدث وراء الكواليس، لنفهم الأدوار التي نمثّلها نحن اليوم على مسرح الحياة. ففي مقطعٍ يذكر حادثةً عن مصادرة الشاي والسّكر: “وهمست أُمّي في أُذني وطلبت منِّي أَنْ أَتسلّل إِلى البيت الخشبيّ، حيث خزانتها وأخفي الهديّة الموجودة في أَسفل الخزانة، فولجت إِلى البيت الخشبيّ وفرائصي ترتعد، وتناولت بعض الأَقمشة ومنها ثوب «الشّافون » الفرنسيّ، ورميتهما في مخزن التّبن الواقع وراء مصطبة النّوم، وبعد أَنْ انتهى إِسحاق من تفتيش البيت الّذي يرقد فيه والدي المريض، قرّر مُغادرة الدَّار، وفي مُنتصف ساحة الدَّار نظرا يمنة فرأيا الباب الخشبيّ لبيت الخشب فاتّجها إِلى باب البيت ودخلا فضاءَه، ومباشرة إِلى خزانة أُمّي، وقع إِسحاق على )قنابل الخطر(: السُّكّر والحلويّات والقماش، وصودرت هذه «المحرّمات »، ولا تزال ورقة المصادرة لديّ مع توقيع والدي وتوثيق رجل الجمارك إِسحاق، كُنتُ أَحلم بإرجاع كمّيّة السُكّر لأَنَّ الشّاي كان غذاءنا مع الخبز كلّ صباح قبل أَنْ نُغادر إِلى المدرسة.

كَتبْتُ عن هذه الحادثة قصيدة وسميّتُها ب «الورقة الغاضبة”

لا يمكنك أن تقرأَ  سرديّاتِنا دون الخاصّ جدًّا: لهجاتِنا، أمثالِنا الشعبيّة، أفكارِنا، تصرّفاتنا، حياتنا اليوميّة، أشجارِنا، نباتاتِنا، أماكنِنا، ماضينا الذي ترك لنا العديدَ من علامات الاستفهام، والكثيرَ الكثير من الأسئلة التي وجدنا عنها إجابات فيما يسمّى “أدبَ الذاكرة”، في هذا الأدب الذي نجد فيه حكاياتِ شعبٍ: يقول عبد الرحيم “نعود لحكايات التّهريب، كانت محفوفة بالمخاطر، لأَنَّ حرس الحدود الإِسرائيليّين كانوا يلْقون القبض على من يستطيعون ذلك، أَو إِطلاق النَّار عليهم، وقد وقعت حوادث قتل في هذا الباب ورأيت أحدهم يُقتل، كان ثمن البضائع يُسدّد إِمّا نقدًا بالعملة والنّقود الأَردنيّة أَو بالذَّهب، أَو بالتّبادل مع بضائع موجودة في إِسرائيل، وأَحيانًا كان البرتقال المحلّيّ من بيَّارات قلنسوة آل الجيّوسي، يَسدّ مسدّ النّقود، ويُذكر أَنَّ شجرة الحمضيّات لم تكن متواجدة في الضّفّة الغربيّة“.

 هو مقطع صغير من الكتاب، فيه معلومات عن التهريب، وعن حرس الحدود والملاحقات، والتجارة، وتسديد الأثمان بالنقد الأردنيّ أو الذهب، أو حتّى بالمقايضة مع البرتقال من بيّارات آل الجيّوسي في قلنسوة، وأنّ الضفة الغربيّة لم يكن فيها أشجار حمضيّات.

 إذًا عرفتم لماذا كان يسمّى البرتقال بالذهب الأصفر؟ عرفتم لماذا كان شعبُنا يهرّب الغذاء؟ عرفتُم كيف كانت تسدّد الديون؟ ومن أين لنا الدينار الأردنيّ؟  كانت كلّ هذه المعلومات في مقطع صغير من عدّة سطور، فما بالكم بكتابٍ من كتب “أدب الذاكرة”، يؤرّخ ويوثّق ويشهد على تاريخنا و ماضينا وحاضرنا.

بوركت الجهود في تدوين هذا التأريخ الشفاهيّ

بوركت الهمم التي حوّلت الفلّاحين إلى مثقّفين وأدباء

بورك النادي الثقافيّ حيفا منبرًا يجمع الكتّاب والمؤرّخين والموثّقين والمهتمّين والقرّاء والمثقّفين.

كلّ عيد صعود وأنتم بألف خير

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافِذَتي تُطلُّ على مجموعةٍ قصصيَّةٍ “عند منتصف الليل”

د. خالد تركي  نافِذَتي تُطلُّ على مجموعةٍ قصصيَّةٍ “عند منتصف الليل” “عِندَ منتصَفِ الليلِ” هي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *