د. منير توما: انعكاسات سيكولوجية في رواية “رحلة الى ذات امرأة” للكاتبة صباح بشير
أصدرت الكاتبة صباح بشير مؤخرًا رواية تحت عنوان “رحلة الى ذات امرأة” حيث تشكِّل هذه الرواية سيرة حياة ذاتية لامرأة اطلقت عليها الكاتبة اسم حنان ، فالراوي أو السارد للقصة ينطق بضمير المتكلِّم ، وفي كثير من الأحيان فإنّ المؤلف يكتب عن نفسه وحياته أو شيئًا مفصَّلًا عن سيرته الذاتية (autobiography) بإسمٍ آخر . فالسيرة التي يكتبها المؤلف عن شخص آخر أي ما يُعرف بمصطلح (biography) هي سيرة الإنسان مكتوبة بقلم إنسان آخر . لذلك فقد قيل إنّ «السيرة حياة الإنسان» . ولكنّ هذا القول أو التعريف يتطرَّف الى العمومية المُبالغ فيها ؛ ذلك أنّ السيرة تفرَّعت الى صيغ كثيرة واشكال متعدّدة لا تقتصر على سرد حياة الإنسان سردًا تسجيليًا ميكانيكيا ، بل تهدف الى الاختيار والتركيز والتنصيف ومتابعة خط ذي دلالة معينة في حياة الإنسان . إنّ الكاتبة صباح بشير تخوض في تجربتها الروائية هذه منطقة حرجة تمسّ عصب الوجود النسائي الموجع ، وتجسّ ايقاعه الباطني الحميم ، فالرواية هذه تتلخّص في أنّ راوية القصة أو الساردة للأحداث «حنان» تستعرض مراحل حياتها منذ فترة صباها في مدينة القدس حيث تصف بيت أسرتها الدافئ ومحبة والديها لها ولأولادهما الأخرين مشيرةً الى غيرة اختها «غادة» منها لكون «حنان» تمتار بأنها رشيقة مشيقة واكثر جمالًا ، بعكس «غادة» التي لا تتمتع بجمال ورشاقة «حنان» . وتتحدث «حنان» عن أحلامها ورغبتها الالتحاق بالجامعة . وتتكلّم عن القيود المفروضة على البنات مجتمعيًّا حتى في طفولتهِنَّ . وتذكر بكثيرٍ من الحميمية الإنسانية صداقتها المتينة مع «ماري» الفتاة المسيحية وعلاقتهما الأخوية الصادقة انطلاقًا من تأكيدها على التآخي السائد في القدس بين الجيران بمختلف الانتماءات ، وارتشافهم القهوة والشاي معًا في جو اجتماعي نقيّ النوايا والتوجهات في شتى المناسبات الاجتماعية والدينية . وبتوالي الأحداث يتقدّم شاب يدعى «عُمر» طالبًا يد «حنان» للزواج ، لكنَّ حنان لم تُعجب بهِ وبشخصيته ولم تحبه ابدًا رغم نصائح أمها لها بالقبول بهِ عريسًا ، وبإلحاح أهلها وخصوصًا أمها تضطر أخيرًا للزواج منه ، فتعيش معه حياة بائسة وتتمنّع أحيانًا كثيرة جدًا على المعاشرة الزوجية مما يدفعه الى العنف والقسوة عليها أكثر فأكثر للحصول على مبتغاه ، وبعد كل ذلك تنجب «حنان» طفلة تدعوها «شروق» ، وتتحمّل «حنان» شظفٍ العيش مع زوجها «عمر» الذي يوجِّه لها دائمًا الإهانات ويُعَيِّرها لعدم انجابها له طفلًا ذكرًا . وتَحُثُّها أمها على الصبر ومراعاة زوجها قدر الامكان ، لكنَّ حنان لم يعد بمقدورها أن تستمر في هذه الأوضاع التعيسة مع عُمر فتطلب الطلاق منه ، رافضًا ذلك مرارًا الى أن تحصل أخيرًا على الطلاق عن طريق المحكمة . وقد كانت تعزيتها في الحياة هي ابنتها «شروق» وكذلك صداقتها مع «ماري» التي كانت تخفّف عنها ظروفها الصعبة . وتجد «حنان» عملًا لتعيش وتُمَوِّل دراستها الجامعية ، ولكن رغم نشاطها واجتهادها ونجاحها في عملها ، يقوم طليقها «عمر» بتشويه سمعتها في كلِّ مكان مما أدى الى ادارة المكان الذي تعمل فيه الى الاستغناء عن خدماتها هناك رغم علمهم بنقاء صفحتها وسلوكها . وبعد كل الضيقات التي تعرّضت لها وبمرور الوقت تقرّر حنان أن تترك مدينة القدس وتسافر لتعيش في باريس حيث توجد هناك صديقتها «ماري» التي كانت قد تزوجت من شابٍ في القدس وهاجرا للسكن في باريس . وبتتابع الأحداث نرى أنّ «حنان» تجد هناك عملًا وتتعرّف على رجلٍ عربيٍّ يدعى «نادر» الذي يقع في حبّها مُستلطفةً إياهُ ، فيعرض عليها الزواج ، وتشعر بالحب نحوه ، وبعد استشارة والدها وموافقته يتم الزواج وتعيش مع زوجها «نادر» حياة سعيدة هنيئة برخاء وترف لاسيما أنه قد أفهمها أن لديه شركة إعلامية كبيرة تدرُّ عليهِ أرباحًا طائلة ، ولكن بعد مرور سنة من زواجهما تنقلب الأمور ، ويتضّح ان «نادر» كان منغمسًا في لعب القمار ، فيخسر كل أمواله ويقع فريسة الديون بالملايين ؛ وفي اعقاب ذلك تقتلهُ عصابة كان متورطًا معها بفعل الديون ، فتحزن حنان حزنًا شديدًا لموتهِ نظرًا لمدى محبتها الكبيرة التي كانت تكنّها له رغم كل ما حدث ولم يخبرها بحقيقة أمرهِ . وبعد ذلك كلِّهِ تترك «حنان» باريس وتعود أخيرًا الى موطنها القدس وتستقر هناك ، وتلمس جانبًا من السعادة بزواج ابنتها «شروق» في «ميتشغان» بالولايات المتحدة الأميركية حيث كانت تتعلم هناك في احدى الجامعات ، وبالتالي يُثلج صدر «حنان» وتنتهي الرواية بذلك . مما تقدّم يتضّح أنّ السيرة الذاتية الحقيقية «لحنان» في هذه الرواية لكونها الراوية أو الساردة لأحداث حياتها أو بمثابة المؤلّفة لها ، عبارة عن سرد متماسك منطقي لحياتها باعتبارها الكاتب ، مع التركيز على التأملات والانطباعات ذات الأبعاد المختلفة ، وعلى المعنى الكامن في حياة الكاتب أمام خلفية اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية أشمل منها . وهنا يتبادر الى ذهننا الاستنتاج انّ الكاتبة تقصّ على طريقة القوم من الأدباء المعاصرين قصصًا واحداثًا تصوِّر حياتها، إنْ لم يكن تصويرًا كاملًا ، فهو تصوير لبعض تجاربها ، وكأنها بدلًا من استخدامها ضمير المتكلم في التعبير عن نفسها مباشرةً وبوضوحٍ ظاهر – كما يفعل كلّ كتاب السيرة الذاتية – فإننّا نجدها تنسب ذلك الى امرأة أخرى بإسم حنان – كما سبق ورأينا – أي أنّها انفصلت عن ذاتها واحالتها الى شخصية موضوعية تتحرك أمامها ، في حين ترقبها في تأنٍّ وتُؤدة ، وبذلك تنضم الى صفوف القرّاء كي تتبَّع معهم بطلة السيرة الروائية ، وإن كانت هي البطلة . وهكذا نرى أنّ هذا النوع من السيرة في هذه الرواية يمكن أن يدعى بِ «السيرة الحميمية» (intimate autobiography) ، لأنّها تركِّز على الجوانب الشخصية اكثر من اهتمامها بالمظاهر أو الظواهر العامة . وها نحن نرى أنّ الكاتبة في هذه الرواية بإسم «حنان» التي تروي الأحداث بضمير المتكلّم وتسرد السيرة باستخدام كل الوسائل الممكنة لكي تعيش بكل جوارحها في عالم الشخصيات التي تكتب عنها ، ولا تترك شاردة ولا واردة إلّا وتحاول تحليلها وتمحيصها وربطها بأفكار الشخصيات وأقوالها وافعالها . فالسيرة الروائية هنا أي سيرة البطلة الساردة «حنان» في نهاية الأمر صورة شخصية زاخرة بكل التفاصيل الممكنة .
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.