د. صالح عبّود: المنهجيّة السنداويّة في كتاب دراسات الشيعة الإماميّة

د. صالح عبّود:

المنهجيّة السنداويّة في كتاب دراسات الشيعة الإماميّة

 

شرَفٌ يُطاولُ ما أرومُ طَويلا         يا سائِلًا أينَ التقَيْتَ دَليلًا

في خالِدٍ أستاذِنا وَدليلِنا            في الباحثينَ البارعينَ فَضيلًا

عَلَّمْتَني وَوَجَدْتَني في بارِحٍ            واليَوْمَ تُقْبِلُ في المساءِ جَليلًا

في نادي حَيْفا نَلتَقيكَ مُبَجَّلًا      وَنَفيكَ وَعْدًا صالِحًا وَجَميلًا

فَلَكَمْ كَتَبْتُمْ في البُحوثِ مُوَفَّقًا    ما فيهِ يَشفي ظامِئًا وَغَليلًا

دُمْتمْ عَطاءً لا يُرامُ نِهايةً            يا حاذِقًا بينَ العُقولِ جَزيلًا

إنّي قرأتُ كتابَكُم وَفصولَهُ            وَوَجَدْتُ فيهِ للثناءِ سَبيلًا

فَالنفعُ فيهِ باسطٌ أَطْرافَهُ           يُغْني المُحَنَّكَ مُفردًا وَقبيلًا

والآنَ أنثرُ في اللقاءِ حَصافةً       رَأْيًا لِصالحَ في الكتابِ كَميلًا

السيّدات والسادة، شكرا للأستاذ صاحب الفضل.

سأقدّم ورقتي هذه بعنوان: المنهجيّة السنداويّة في كتاب دراسات الشيعة الإماميّة، والله وليّ توفيقنا؛

وَقديمًا درج السلف من شيوخنا في دراسة الأدب العامّ ولا سيّما التاريخيّ الذي يؤرّخ للنصّ والإنسان، على الربط بين المضامين التي يدرسونها والسياق التاريخيّ المحيط بها، وهذا الذي دفع جلّهم إلى تقسيم الأدب والتراث إلى مراحلَ وعصورٍ تاريخيّةٍ متتابعةٍ منذ فترة الجاهليّة إلى يومنا هذا.

ويعتمد الباحثون وفق المنهج التاريخيّ على الصلة الوطيدة بين التاريخ والأدب، فالنصّ الأدبيّ يشكّل رافدًا تاريخيًّا عند الباحث، وهو في الوقت ذاته يعبّر تعبيرًا صادقًا عن الحال التاريخيّ والاجتماعيّ والاعتقاديّ، وليسَ ببعيدٍ عنّا تلك الباقةُ الأدبيّة الرفيعة التي خلّفها شعراء وأدباء أتباع الفرق الإسلاميّة السياسيّة على غرار الشيعة والخوارج والأمويّين وغيرهم، والتي تعبّر بشكلٍ صادقٍ وموضوعيٍّ، رغم الذاتيّة التي تتحكّم بها، عن الحالة السياسيّة السائدة وتجاذباتِها آنذاك.

في الواقع، لا مُشاحَّةَ أنَّ مادّة الأدب تخدم المؤرّخ كثيرًا، فهي التي تُيسّر له الفرصَ لسبر غورِ القضايا العالقةِ والإشكاليّاتِ المتعقّدةِ كي ينشطَ منها ويُصْدِرَ أحكامًا مُحْكَمَةً وفرضيّاتٍ وكيدةً سديدةً.

وهذا ما رأيته في دراستك المعدّةِ بعنوان دراسات في الشيعة الإماميّة، وأنا بذلك يا أستاذي زعيمٌ.

السيّدات والسادة:

من المعلوم أنّ جلّ المستشرقين الغربيّين قد اهتمّوا بدراسة التشيّع والتيّار الشيعيّ الإسلاميّ بصفتهِ فرقةً عقديّةً من الفرق الإسلاميّة الباكرة منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، وقد ازداد شغف الباحثين ببحث الشيعة وفكرهم وتراثهم وما يرتبط بهما، خلال القرن الماضي بشكلٍ ملحوظٍ، إذ كثّفوا جهودهم ووسّعوا دوائر اهتمامهم وعمّقوا غَورَ بحوثهم بعد صعود نجم الشيعة عَقِبَ نجاح الثورة الإيرانيّة وازدهار النموذج السلطويّ الشيعيّ في إيرانَ مع ثمانيناتِ القرن العشرين، وهنا ينبغي التذكير أنّ أولى محاولات الاستشراق لاكتشاف العالَمِ الشيعيّ من الغربيّين الوافدين إلى المشرق العربيّ الإسلاميّ كانت قد بدأت مع تأسيس الدولة الصَفويّة الشيعيّة الإماميّة في فارسَ عام 1500م فصاعدًا، وقد خصّص الأب رافائيل دومانس رئيس صومعة كابوجينو بأَصْبَهانَ الجديدةِ فصلًا مُطوّلًا من كتابه عن تاريخ إيران عام 1660م بذكر عقائد الشيعة وتوصيف أعيادهم، ومن بعدِهِ خَلَفَهُ جمهرةٌ من الدارسين والرحّالةِ والرهبانِ في ذلك.

بَيدَ أنّ جيلًا متأخّرًا من الدارسين والباحثين في زوايا مختلفةٍ ممّن يحملونَ توجّهاتٍ وآراءَ متنوّعةً وبدواعٍ متفاوتةٍ مغايرةٍ، قد شرعوا في دراسة التراث الشيعيّ من خلال منطلقاتٍ يغلب عليها طابع التعصّب والخصومة والتفنيدِ والتنقيب عن مثالبَ ومطاعنَ يُطعنُ بها نظامُ الحضارة الدينيّة والفِرَقِيّةِ عندَ المسلمينَ، رغم أنّ السواد الأعظم من دراساتهم وبحوثهم يَزْعُم تصويرَهُ الوصفيَّ للفرقِ الشيعيّةِ ولا سيّما الإماميّةَ منها، معتمدينَ في ذلك على مناهجَ ذات بِنًى سوسيولوجيّةٍ وتجريبيّةٍ نجحَ بعضها وأخفقَ الآخرُ.

أمّا في الفترة الحديثة، فقد انبرى كوكبةٌ من الباحثين الأكاديميّين الجدّيين لدراسة الشيعة ووضعوا بصماتهم الباقيةَ من خلال بحوثٍ رصينةٍ شكّلت قاعدةً لمن خَلَفوهم، ولعلّ من أبرزهم: كوربان، مومن، هالم، ريتشارد، هودجسون، مادلونغ، جفري، أمير معزّي، ومن هذه البلاد إيتان كولبرغ.

لقد وَهبَ الأستاذ القدير خالد سنداوي وقتهُ ومُكنتهُ من أجل دراسة الشيعة من خلال نصوصهم وتراثهم الأدبيّ القديم والمعاصر، وقد ألّفَ وحبّرَ كثيرًا من الكتب والدراسات والمقالات والموادّ الموسوعيّة التخصّصيّة التي تكشف سعةَ معرفته واطّلاعه على التراث الشيعيّ الإماميّ بشكلٍ فريدٍ قلّ نظيره، حتّى صار واحدًا من أساطين دراسات الشيعة عالميًّا، وهذا بفضل جهوده الكثيفة وبحوثه الغزيرة التي تُنبئُ عن منجزٍ بحثيٍّ قَيّمٍ أهلٍ بكلِّ ثناءٍ وتقديرٍ.

يمكن تركيز منهجيّة بروفيسور سنداوي في كتابه دراسات في الشيعة ببعض العناصر الموجّهة ومن أبرزها:

  1. التوطئة التاريخيّة- سياسيّة قبيل الولوج في الإشكاليّة أو القضيّة محلّ البحث، وهذا يغلب على معظم مادّة دراسته، ويُكْسِبُ قُرّاءَه ومريديهِ انكشافًا قَبليًّا حيويًّا للقضيّة بِرمّتها، وهذا ما نجده ماثلًا ومُمَثَّلًا في دراسته الماتعة حول سياسة الخليفة المتوكّل العبّاسيّ إزاء الشيعة في عصره، إذ قدّم قراءةً تمهيديّةً نموذجيّةً شافيةً لفرقة الشيعة وتطورّها تاريخيًّا وعقديًّا، كما قدّم مادّةً وافيةً تُعْتبرُ عتبةً ممتازةً للتعرّف على الخليفة المتوكّل العبّاسيّ، وتشهد دراستهُ التامّةُ حول ترجمة أبي مخنف لوط بن يحيى الأزديّ على ذلك المرتكز التمهيديّ، إذ استهلّ وقفته مع إشكاليّة مدى صحّة رواياته بترجمةٍ موفّقةٍ كافيةٍ، تعين الدراسة على التحقّق من القضيّة بما يعكس وعي الباحث سنداوي بأدوات البحث ومنهجيّته، وفق ما يَلْزمُ الدراسة من أسباب الوصول إلى استنتاجاتٍ قد تقلب ظهر المجنّ على ما اعتمده غير واحدٍ من الدارسين من قبلُ، فكنت جريئًا في مخاض التنقيب والاستقصاءِ حتّى خرجت من ذلك برأيٍ حول نسبة كتاب المقتل لأبي مخنف، وهو تجديدٌ حَفِيٌّ من باحثٍ أَلْمَعِيٍّ.

  2. استعانة الباحث سنداوي وبرويّةٍ بما للفترة التاريخيّة والحالة السياسيّة-فكريّة من تأثيرٍ على القضيّة أو الشخصيّة محلّ الاهتمام في البحث، فتناول المعطى التاريخيّ-بحثيّ من خلال الترجمة للشخصيّات التاريخيّة بشاكلةٍ خاصّةٍ وعامّةٍ، وهذا ما يُسمّى منهج النقد التاريخيّ الخارجيّ الذي يهتمّ بدراسة النصّ الأدبيّ أو التاريخيّ أو القضيّة التاريخيّة من خلال الأحوال الخارجيّة المحيطة به، ويكشف مدى تأثيرها فيه.

السيّدات والسادة:

يستند الباحث في مادّة الكتاب إلى نوعيّةٍ صحّيّةٍ سليمةٍ من القرائن والبراهين لدى تناوله القضايا والإشكاليّات في متون الكتاب وتضاعيفِهِ.

يقتفي أستاذنا سنداوي مسار الحياديّة في التعاطي مع النصّ والقضيّة التي يتناولها في كتابه، وهو ديدنه في سائر أبحاثه، فلا ينحاز ولا يميل إلى مَيلٍ ليسَ له أصلٌ علميٌّ يُتورّكُ عليهِ، وهذه صفةُ الدارس الفَطنِ المُحترزِ غيرِ الغافلِ المُغتَرِّ.

لكنّ الكمال من خصائص الكاملِ وحدهُ، وقد تنبّهت إلى بعض العَثْرات التي كبا بها فرسُ أستاذنا، ولكلّ فارسٍ كبوتُهُ كما أنّ لكلِّ صارمٍ نبوتُهُ، فلو سمّنَ دراسته حول المرجعيّة الدينيّة الشيعيّة بمزيدٍ من المراجع لعزّزَ ما ورد فيها بما يدعمُ مقالته الواسعة، ولو عقد خاتمةً في الدراسة المذكورة آنفًا وفي دراسته حول أبي مخنفٍ لكان أثبتَ وَأقومَ منهُ، وليتكَ لم تسهُ عن تلك الهفوات الطباعيّة في بعض المواطن القليلة كي يكون الكتاب معصومًا منها.

السيّدات والسادة:

استخدم أستاذنا، كما تبيّن وجاءَ مُصَرّحًا به في بعض مواضع كتابه، مَنْهَجَيِ الاستقراء والوصف، إذ برعَ في توظيفهما وامتطائهما مطيّةً تُبلّغُهُ بُغيتهُ وتجيبُه عن أسئلته المحوريّةِ غالبًا، فهما منهجينِ مُقنعينِ احترفهما أستاذنا ووظّفهما توظيفًا سنداويًّا مُيسَّرًا مُيَسِّرًا.

استطعت أستاذنا العزيز، بمهارتك العلميّة تجاوز عيوب المنهج التاريخيّ والتي حالت بين كثيرٍ من الباحثين وتوفيقهم في معالجاتهم البحثيّة، لم تكن عقبةً أمامكَ أستاذنا أبا أحمد، وكي أذكّرَ، من باب أنّ الذكرى منفعةٌ تُطلبُ، ببعض تلك العيوب، فمنها إغفال الجانب الجماليّ والدلاليّ في النصوص، وذلك نزولًا عند التركيز على الجوانب التاريخيّة في الدرجة الأولى، على حساب العناية بالنواحي الفنّيّة المتّصلة بالنصّ الأدبيّ ونقده ببيان ما فيه من حُسنٍ أو قُبحٍ، وما ينطوي عليه من تقويمٍ بينَ مدحٍ أو قَدْحٍ، وهذا ما استطعت تجاوزه بحِرَفيّةٍ سنداويّةٍ في دراستك حول شعيرة التطبير ومواقف علماء الشيعة منها، والتطبير عند القوم (أي الشيعة) هو عادة ضرب أعضاء الجسد الفوقيّة بآلةٍ معدنيّةٍ حتّى إسالة الدم منها تعبيرًا عن الحزن والندم على مقتل الحسين، وجاءت سرديّة الكتاب حول أصول عقيدة التطبير في المشرق القديم والغرب الوسيط حُجَّةً على تأثّر الشيعة الإماميّة بغيرهم في كثيرٍ من الطقوسِ والتقاليدِ التي دامت عندهم واندرست عند غيرهم ممّن اقترنت بهم دون سائر الملل والشعوب.

العيب الثاني يقع مع صعوبة الجزم في بعض المعطيات التاريخيّة، ولا سيّما ما كان منها محلَّ الاختلاف والخلاف، وهذا ما يكثر في حالة الأدب والتراث الشيعيّ الإماميّ، فهو تراثٌ إشكاليٌّ في بعض جوانبه ومساحات نصوصه التاريخيّة والأدبيّة شعرًا ونثرًا، وهي أكثر من ذلك عند تناول النصوص الدينيّة والعقديّة فيه، وقد نجحت في تناول بعض تلك القضايا ببراعةٍ واعيةٍ أعانتك في الوصول إلى بعض النتائج التجديديّة في خزانة البحث الشيعيّة، ولعلّ خير مثالٍ على ذلك ما ورد في دراستك حول نسبة التشيّع للشاعر العبّاسيّ المعروف الحسن بن هانئ أبي نُواس، إذ فصلتَ فيه القول وفنّدت ما ورد عند غيرك من مقالاتٍ حول تشيّعهِ في سيرته وشعره.

العيب الثالث الذي يصحب بعض الدراسات التاريخيّة يكمن في الافتقار إلى الاقتدار المُحكم في تحديد التفسيرات الحياديّة للظواهر الأدبيّة، أو الدوافع الذاتيّة عند الشخصيّة التي تشكّل عيّنة البحث والدراسة، فالتتبّع التاريخيّ قد لا يؤتي ثمارًا ناضجةً يانعةً تمام النضج، بل قد تكون فَجّةً نيّئةً عند حديثي العهد به، وقد نبّهت دراستك الموسّعة حول المرجعيّة الدينيّة الشيعيّة المعاصرة وخاصّةً ما يرتبط بمواقفها المبدئيّة من الاحتلال الإمبرياليّ إلى ذلك تنبيهًا جليًّا.

السيّدات والسادة، أعرض أمامكم الآن وضمن حدود ما ورد في كتاب المحتفى به أستاذنا القدير بروفيسور خالد سنداوي بعض فوائد كتاب دراسات في الشيعة الإماميّة، فأقولُ وحديثي لكَ في هذا مقصِّرٌ غير مكتملٍ:

إنّ قراءة مادّةِ كتابك يا أستاذنا نافعةٌ مفيدةٌ تسهم كثيرًا في فهم كثيرٍ من القضايا الأدبيّة والتاريخيّة والعقديّة وتعليلِها بالضوابطِ والاتّجاهات العامّة التي أَرْسَتْها، فبقدَرِ ما عَرَّضته في دراستك أَتَحتَ أمامنا مجالَ الانتفاعِ على النحوِ الآتي:

أثريتنا كثيرًا في مقالتك حول المتوكّل والشيعة، فَكَمُّ المصادر والمراجع المستعملةِ يُبهر القارئ والطالب للفائدة من مظانّها وأصولها الأمّ، كما قيّضت لنا فهمًا متكاملًا للحالة الوضعيّة التي هيمنت على العلاقات المركّبة بين العبّاسيّين وخلفائهم وآل البيت والأئمّة.

أمّا مقالتكَ حول أبي مِخنَف الأزديّ فقد ألْهَمَتنا ووجَّهَتنا إلى عدم التسليم بآراء من سبقونا وإن كانوا أهلًا للتقدير والثناءِ، فلسنا أئمّةً معصومينَ كما يؤمن الشيعةُ الإماميّةُ، والأصلُ هو ما صنعه أستاذنا في تناوله بعض القضايا بعين المتفحّصِ المشكّكِ المرتابِ الذي يرومُ ضآلتهُ بآلةِ اليقينِ والتثبّتِ، وهذا عَينه ما لامسناه في مقالتك حول أبي نواسٍ وتشيّعهِ، وقد دلّلتَ بما يقطعُ على فقرِ وركاكةِ وضعفِ الادّعاءِ بتشيّعهِ شعرًا واعتقادًا.

يشكّل كتابكَ لؤلؤةً إضافيّةً في عِقْدِكَ الفريدِ ودراساتك الرصينة في الشيعة وتراثهم الأدبيّ والعقديّ، وأرجو لك ما يكفيكَ من البُلغةِ حتّى تفيض بالمزيد، وأنا أعلم جيّدًا أنّك تسمو لقادمٍ تضيف فيه ومن خلاله ما لا يستطيعهُ غيركَ..

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

إياد خليليّة: فؤاد نقّارة.. إلى البحر يحملني

    إياد خليليّة فؤاد نقّارة.. إلى البحر يحملني   هذا المذهل الجميل، صاحب الابتسامة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *