د. رنا صبح
“صيّاد.. سمكة وصنّارة” لفؤاد نقّارة- فنّ توثيق التجربة
يكتب فؤاد نقّارة مرويّاته على نهج “مذكّرات”، ربّما لتتّسع لكلّ فكرة، ولكلّ مغزًى، ولكلّ أسلوب، أو ربّما ليفسح لنفسه المجال لعرض ما يختار من أنساق الحضور الإنساني بأبعاده الاجتماعيّة والثقافيّة والفكريّة والحضاريّة؛ فاتّخذ دورين: دور الموثّق الكاشف عن جانب من جوانب الحياة في البحر ومع الصيّادين، ودور الحافظ لذاكرة قد تكون آيلة للاندثار، فقدّم تجربة نفسيّة اجتماعيّة تاريخيّة جغرافية أنثروبولوجيّة ولسانيّة، ليجعل من مرويّاته الموثّقة كينونة إبداعيّة وإنسانيّة شجاعة وصادقة تنقل أفكاره وتصف مشاعره وانفعالاته، وتبوح بمكنونات نفسه، بعيدًا عن التنميق الأدبيّ والاستعراض الفنيّ.
تحضر مرويّات فؤاد نقارة في كتاب “صيّاد .. سمكة وصنّارة” في قالب أقاصيص حقيقيّة تختزل عصارة تجربة حياتيّة، وتلقي الضوء على تفاصيل ذات صلة بالصيد والصّيادين والبحر، فحملت تلك الأقاصيص خصوصيّة جغرافية ولغوية، وارتبطت بطبقة الصيّادين، فرسمت أمامنا صورة واقعية عن حياتهم في البحر، لتكون هذه النصوص توثيقًا فنيّا يكثّف تجربةَ طبقة اجتماعيّة منسيّة أو شبه منسيّة. أمّا عناصر توثيق التجربة في كتاب صيّاد .. سمكة وصنّارة فبرزت في:
-
ذات الكاتب
يروي فؤاد نقّارة ذاته من خلال مقدّمة الكتاب والأقاصيص الواردة بعدها؛ يتذكّر طفولته في عكا على الرمال الذهبيّة، ويصف علاقته بوالده الذي كان له عظيم الأثر في توطيد علاقته بالبحر وكشف أسراره، وفي تنمية هوايته في الصيد. وفي مقدّمة الكتاب يشير الكاتب إلى أنّ النصوص في الكتاب جاءت اختزالا لتجارب شخصيّة وخبرات اكتسبها بنفسه، فيظهر عاشقًا للكلمة وعاشقًا للبحر، تربطه به رابطة وثيقة وعلاقة صداقة تمدّه بالسكينة والمعرفة، ويرى في كلّ رحلة صيد رحلة استكشافية، ويرى في كلّ سمكة لقاءً جديدًا، ويستنبط من كلّ حدث حكمة حياتيّة.
يبدو الكاتب محبًّا للطبيعة، يحترم قِيَم التعاون والمشاركة “فالبحر يجمع مختلف المخلوقات في بيئة واحدة، تتعايش فيها بانسجام”، ويعتمد الصبر والمثابرة؛ لأنّ “البحر لا يكشف أسراره بسهولة”. رفيقة دربه صنّارة تقصّ عليه الحكايات، والصيد بنظره “فلسفة يعايشها، يتعلّم منها مراقبة حركة السمك وحركة الحياة، محاولًا فهم التعقيدات؛ فكما يصبر على السمك، يصبر على تحقيق الأهداف”. من هنا كانت كلّ رحلة صيد بمثابة “إعادة اكتشاف للذات، وتوطيد صلة بهذا العالم”؛ فالصيد كان مدرسته التي تعلّم منها الاعتماد على النفس، احترام الطبيعة، إمعان البصر حتّى الأفق، الاستمتاع وحبّ الحياة، فغنّى كلّ موجة قصيدة على أعتاب عالم جديد من السحر والغموض، وتعلّم أنه جزء صغير من هذا الكون، وأنّ البحر صديق وحضن يشعل شعلة الأمل.
-
التعليق
في توثيق مذكّراته، جعل فؤاد نقّارة التعليق جزءًا من السرد، عارضا لوصف الشخصيّات والأحداث والمشاعر وما قد ينتج عنها، بزاوية السارد العارف بكلّ شيء والمتداخل بسير الحدث؛ ففي بعض المرويّات حاول أن يكون موضوعيّا ولكن في مرويات أخرى علَّق وسجّل وكتب ذاته ومشاعره ووجدانه إزاء الأحداث والأشخاص. ففي الصفحة الفاصلة بين المقدّمة والحكايات يورد تعليقا يختزل فلسفة الكاتب وتجربته وعقيدته “صيد البحر سرّ لا يفقهه إلّا أهله، أولئك الذين يجيدون قراءة لغة الأمواج وفهم رموز التيارات، يجدون في مصارعة الأمواج وصيد الأسماك متعة لا تضاهى وسعادة لا توصف”.
وفي القصّة الأولى حول خلاف الصديقَينِ على سمكة يعلّق: “نسيا لحظة الصيد والهدف منها، وانغمسا في جدال عقيم”، “علت أصواتهما على هدير الموج”، “لم يرق لهم هذا الخلاف، ولم يرق لي أيضًا”، راغبًا في إبراز أهميّة قيمة الأخوّة والتعاون التي تفوق أيّ خلاف ماديّ بين الأصدقاء.
وفي حكاية الصيّاد المبالِغ يبدأ الكاتب بتعليق ينمّ عن معرفته بطبيعة الصيّادين “يُعرَف عن الصيادين، وصيّادي البحر على وجه الخصوص، مبالغتهم في رواية قصص الصيد ومغامراتها وتضخيم الأحداث، والتكثير من غنيمة الصيد…”.
وفي مغامرة خطرة “كانت تلك الرحلة درسًا قاسيًا له”، وفي مغامرة صيد محفوفة بالمخاطر “لقد انتهك هذا الرجل شروط السلامة البحريّة بشكل فادح”.
وفي الصفحة الفاصلة بين القسم السرديّ والقسم الموسوعي للكتاب: جاء التعليق تمهيدًا لموسوعة “أسماك وأحياء البحر الأبيض المتوسّط”: “إنّ أسرار البحار لا تنتهي، ودائما ما نكتشف مخلوقات جديدة، وسلوكيّات مذهلة، تثري معرفتنا بعالمنا الطبيعيّ المدهش، فكلّ سمكة هي كنز ثمين، يجب علينا حمايتها والحفاظ عليها”. ويحتوي هذا التعليق تعبيرا عن حبّ الكاتب للبحر، وإعجابه بأسراره، وبالكائنات الحيّة فيه، ويدعو البشريّة من خلاله الحفاظ على تلك الكائنات. وفي تعليقاته سكب الكاتب ذاكرة ليست حيادية، ليضفي على المرويّات بعدًا ذاتيًّا آخر.
-
خواصّ ثقافيّة عند الصيّادين
يروي فؤاد نقارة حكايات الصيد، ليكشف نوادرها وفذلكاتها وحكمتها وعيوبها، ويصف علاقة الصيادين ببعضهم، وعلاقتهم بالبحر. وإلى جانب المضامين التي تتناول الأحداث التي شهدها الكاتب الصيّاد في رحلاته، فإنّ مرويّاته تمتلك خواصّ ثقافيّة، جعلت من النصوص الموثّقة لوحة ترسم ملامح ثقافة مجتمع الصيّادين. ومن هذه الملامح ما يتعلّق بالعادات، أو بالمعتقدات ومنها ما يتعلّق باللغة الخاصّة بالصيد.
أ. من العادات الشائعة:
– الخروج إلى الصيد بمجموعات، على متن مركب، أداتهم صناراتهم: “على متن مركب.. انطلق سبعة من هواة الصيد… يرمون خيوطهم في أعماق الماء”.
– التبرّع بجزء من الصيد الوفير لصيّاد مُقدِم على الصيد لفتح باب حظّه السعيد: “هذه لك يا صديقي عسى أن تبارك رحلتك القادمة وتجلب لك الحظ السيد”.
– اتّخاذ شروط الحيطة والسلامة بوضع مرساة وبطارية إضافية في مركب الصيد.
– عند سحب سمكة ضخمة يمكن الاستعانة بحبل المرساة وبالغنج.
– الصياد الماهر يعيد السمك الصغير إلى الماء.
ب. من الأفكار والمعتقدات الشائعة
– الفكرة السائدة بأنّ الصياد الماهر لا ينقطع السمك من بيته.
– الاعتقاد بأنّ المبتدئين ينعمون بحظّ وافر في رحلاتهم الأولى.
– التبرّع بجزء من الصيد الوفير لصيّاد مُقدم على الصيد من شأنه أن يفتح باب حظّه السعيد.
ت. من المعجم الخاصّ بلغة الصيّادين
– الاسم الشائع لقائد المركب هو “الريّس”.
– من الأسماء الأخرى الشائعة للصنّارة: الخيط والقصبة، وهي من باب تسمية الكلّ بالجزء.
– في وصف شراهة السمك يقول الصيادون: “السمك فاتح تمو”.
-
ملامح مجتمع الصيّادين
في أقاصيص فؤاد نقّارة حبكة وسرد ومكان وزمان وشخصيّات تساهم في تطوّر الأحداث وتمثل ملامح مجتمع الصيّادين، أما الكاتب فهو الراوي المشارك في الحدث أو الشاهد عليه، فيصف ويفسّر ويعلّق.
يبدو مجتمع الصيادين متكافلا متعاونا في معظم الأحيان، ومن ملامح التكافل والتعاطف والكرم، المشهد الذي قدّم فيه أحد الأصدقاء من صيده “صبيدن” كطعم للسمك، مباركة للحظّ. لكن في بعض الأحيان نجد أنّ التوتّر في العلاقات هو سيّد الموقف؛ فالأقصوصة الأولى تبدأ بمشادّة كلامية بين صيّادَيْنِ بسبب سمكة ضخمة التقطت كلا الطُّعمَيْنِ، فطمع كلّ منهما بالسمكة.
ومن الخواصّ البارزة للصيّادين وفقًا لما جاء في الكتاب، التباهي والمبالغة في الوصف وتضخيم الأحداث لإظهار القدرة على الفوز بصيد وفير. أمّا السذاجة فطغت على بعض الصيّادين، خصوصًا ذلك الصياد الذي لا يعرف تقدير وزن السمك، وذلك العجوز المسكين الذي يرى في السمك الصغير قوتا، وصدَّق ما قاله الراوي من اختصاص الكنائس الشرقيّة والغربيّة وتوزيع مهامها ما بين شؤون بحريّة أو شؤون برّيّة.
انتقى الكاتب أنماطًا سلوكية غير مألوفة لإبرازها؛ فأظهر الجهل أو التعجرف أو السذاجة، ليخرج منها بحكمة حياتيّة. ولكن بدَت تلك السلوكيّات بشكل لا يقبل الشكّ بأنّها خارجة عن الملامح الشائعة والمتعارف عليها لشخصية الصيّاد الذي يتحلّى عادة بالكرم، الشجاعة، التكافل، والمسؤولية الجماعيّة.
-
حِكَم حياتيّة
تتميّز الأقاصيص أو المرويّات في الكتاب بأنها تنتمي إلى مجال جغرافيّ محدّد يحيط بالراوي وبأشخاص الكتاب، ولكنّها سرعان ما تتجاوز حدود البحر لتتحوّل حكاياتهم إلى عبر ودروس في الحياة. ومن هذه العبر والحكم ما جاء مباشرة على لسان الراوي ومنها ما استُنتج من سياق الحدث أو المفارقة التي تسبّبت في اضطراب الحدث. وقد جاءت الأقاصيص مذيّلة بالحكم والدروس الحياتيّة لتتحوّل إلى جزء من السرد. ومن الحكم التي رغب الكاتب في إبرازها:
– الأخوّة والتعاون أهمّ من المكاسب الماديّة، ولا ينبغي التفريط بالصداقة لأجل سمكة أو أي متاع زائل.
– المبالغة في الوصف أو التباهي الزائد يجلب المتاعب.
– كم من يد كريمة تسعد قلبا، وكم من لفتة طيبة تضفي على الآخرين فرحا.
– ضرورة التحلي بالحكمة والشجاعة في مواجهة المخاطر.
– الغرور والمكابرة لا طائل منهما أمام قوى الطبيعة.
– الاستماع إلى نصائح المختصين أمر ضروريّ لضمان السلامة.
الخلاصة
قدّم فؤاد نقّارة في كتابه عصارة تجربته مع البحر.. فعرض سردًا لتلك التجربة المميّزة ورسم خطوطًا عريضة لحياة الصيّادين، وخرج منها بحكم حياتيّة. وجاءت أقاصيصه لتحكي رحلات في حياة موازية، ألم يكن البحر حياة أخرى، ألم يكن الصيد سيرًا في المجهول وهرولةً نحو الأحلام، ألم تكن الصنارة صبرًا وتفكُّرًا ، وأداة لتحقيق تلك الأحلام! لذا فحين نقرأ فؤاد نقّارة لا نقرأه بصفته الفردية فحسب، ولكن نقرأ أيضًا خصوصية الأحداث التي يشهدها أو يشارك فيها، أو يسهم في تطوّرها، أو يفسرها، أو يترك لنا انطباعًا عنها، فيتجاوز كتابة التجربة الذاتية إلى إضاءةٍ على سيرة جماعية متكاملة الملامح، قد تتحوّل يومًا ما إلى وثيقة تاريخيّة، اجتماعيّة وأنثروبولوجيّة.