د. رباب سرحان: كوكتيل ثقافيّ لفتحي فوراني

د. رباب سرحان

كوكتيل ثقافيّ لفتحي فوراني

(نصّ المداخلة التي أُلقيت في أمسية إشهار الكتاب في “نادي حيفا الثّقافيّ” بتاريخ 18.4.2024)

يفتتح فتحي فوراني كتابه “كوكتيل ثقافيّ” بمقدّمة جميلة، يطرح في بدايتها مشكلة حقيقيّة يعاني منها، أعتقد، جميع من يتعامل مع الكتابة، ولا سيّما في مجالَي الأدب والنّقد. هذه المشكلة تتجسّد في المعاناة الفكريّة والشّعوريّة الصّعبة التي يكابدها الكاتب حين ينوي فعل الكتابة، إذ يسيطر عليه شعور بالقلق والتوتّر والحيرة وتشتّت الأفكار وتلاشي اللّغة وهروبها، وعدم القدرة على الإمساك بها والقبض على مفرداتها وتعابيرها. يقول:

“مرة أخرى أجد نفسي في ورطة. وأعترف أمامكم أنني كلّما أقدمت على استنهاض الكلمات النائمة لكتابة الحروف الأولى تخونني خيول اللغة وترتكب الكبوة تلو الأخرى وتعلن العصيان الأبجديّ، ولا يسعفني الحظّ للإمساك بها وامتطاء صهوتها للكتابة الإبداعيّة. فما العمل؟ أحاول أن أستدرجها للامتثال إلى رغبتي، فتزداد منعة وإباء وكبرياء وتتحصّن في قلعتها. وأجد نفسي أمامها فارسًا أعزل تائهًا في صحراء الأبجديّات الضّائعة..”.

بهذه اللّغة الجميلة والأسلوب الشّائق، يفتتح فتحي فوراني كتابه، خالقًا منذ البداية علاقة قرب وودّ مع القارئ، وهو يبوح له ويشاركه بحالة القلق والتّوتّر التي تسيطر عليه لحظة الكتابة. فتأخذنا هذه الحالة إلى بيت الشّعر المعروف للمتنبّي:

“على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي   أُوَجِّهُها جَنوبا أو شَمالا”.

والقلق هنا هو الاضطراب والانزعاج وعدم الاستقرار. وهذا القلق يرافقنا حين نمسك القلم ونبدأ بجمع أطراف الفكرة، فنعجز عن القبض عليها، ونعود ونعصر عقولنا ونحاول من جديد، كأنّما الكتابة خصم لنا، تعاندنا ونعاندها. وربّما أراد فتحي فوراني هنا أن يُذكّر القارئ بمعاناة الكاتب، وأنّ الكتابة ليست بالأمر الهيّن والسّهل، بل هي فعل جسور ودخول عوالم تحتاج إلى فارس يمتطي أحصنة من أفكار ورؤى مختلفة. وهي فعل قلق كما قال المتنبّي، إذ يكون الكاتب على قلق كأنّما تهزّه الرّيح وتشدّه من عباءته ولا يعرف الاستقرار حتى يكتب.

يكشف فتحي فوراني في المقدّمة عن جنس الكتاب ومحتواه. فيُقدّم للقارئ صورة واضحة عن هذا المحتوى. يقول: “تعالوا نفلح الآفاق لنشرف على أبجديّة جديدة تخبّئ في عبّها باقات من ألوان الفرح الإبداعي.. وتحمل لافتة كُتب عليها بماء الورد الشّذيّ “كوكتيل ثقافي””. ولا يكتفي الكاتب بذلك، ونراه مصرًّا على تزويد القارئ بكلّ المعلومات الأساسيّة عن الكتاب، ولا يخفى أنّ هذا التّوضيح يسهم كثيرًا في إقبال القارئ على الكتاب وفي انجذابه إليه. فالقارئ، بصفة عامّة، يُريحه الوضوح ويمدّه بشعور الثّقة والأريحيّة إزاء ما يقرأ.

يقول: “ولأوّل مرّة أقف على المشارف المطلّة على عالم زاخر بألوان شتّى من ضروب التأليف والإبداع. إنّه عالم يحتوي على أشكال وألوان من الإبداعات الأدبيّة والثقافيّة التي تصبّ في كأس من الشراب العذب تحتلّ جبينه شارة صغيرة كتب عليها “الكوكتيل الثقافي”، وفيه الإغراء والطموح لمعاقرة البابليّة الثقافيّة الشهيّة والرغبة في اكتشاف دنيا جديدة”.

هكذا، ومنذ المقدّمة، يشوّق فتحي فوراني القارئ ويعده بالكثير، حيث يكشف عن قدرته على اجتذاب جمهور القرّاء عن طريق سلاسة السّرد وتدفّقه وثراء المعرفة وسعة الثّقافة. كما ينجح في بناء نوع من الألفة الخاصّة مع القارئ تُمكّنه من مخاطبة قارئه مباشرة بتوجيه الحديث اليه لكي يجذب انتباهه عن طريق استخدام ضمير المخاطب أو صيغة السّؤال، ويتحدّث اليه بحميميّة عن رحلته في تأليف الكتاب، فيكشف عن مكنون ذاته قبل الكتابة بأسلوب رقيق يخاطب الأحاسيس.

يذهب رولان بارت إلى القول إنّ النصّ هو نقطة تشابك بين الذّاكرة الاجتماعيّة الخاصّة بمجتمع معيّن، والذّاكرة الفرديّة الخاصّة بشخص ما، والتّجارب الإنسانيّة التي يشترك بها النّاس أجمعين. وكتاب فوراني يؤكّد هذا. فصفحاته تُلخّص تجربة حياة غنيّة ومثيرة، وصورة للمجتمع الذي عاش فيه الكاتب وعمل على التّأثير عليه والتّغيير فيه، وما حفلت به أيّامه من تجارب وخبرات وتحدّيات، ثمّ مدى تأثيرها عليه وما تركته من علامات في روحه وعقله. والقارئ، كونه يعيش في المجتمع نفسه، يتفاعل مع العمل ويصنع نوعًا من المشاركة مع المؤلف. إذ يمنح الكتاب القارئ وجهة نظر خاصّة في كثير من الأمور، ويضيف الى وعيه من خبرات الكاتب. هذا بالإضافة إلى أنّه يمنحه المتعة والإفادة والغنى، كما يجد فيه وسيلة للابتعاد عن الواقع المرّ ليُحلّق إلى زمان جميل مشتهى، يحمل عبق الماضي وسيرة الحنين والأمل والفرح.

يُقدم الكتاب للقارئ رحلة متعدّدة المقاصد، ممّا يُتيح له انتقاء ما يرغب بقراءته. فهناك النصّ الأدبيّ، التّقرير التوثيقيّ، الرّسائل، الذّكريات، وجميع هذه الألوان الكتابيّة تحمل جانبًا من التّجربة الإنسانيّة للكاتب. فنراه، في فاتحة الكتاب، ومن باب الوفاء، يذكر أسماء كوكبة من مربّي الأجيال الذين غرسوا بذور الخير والأخلاق والعلم والمعرفة في طلّابهم، والكاتب واحد منهم، وتركوا بصماتهم الخضراء على وعيهم وثقافتهم. ثمّ في فصل “حدائق الياسمين” نلتقي نخبة من رموز الفنّ والموسيقى والتّربية والأدب والثّقافة، يذكر منهم: د. هاني صبّاغ، الموسيقار نبيل عزام، الكاتب توفيق فيّاض، الشاعر سعود الأسدي، المربّون: مارون قعبور وإميل العبد ويوسف صادر، الشاعر سميح القاسم، الكاتب والناقد عادل الأسطة والأستاذ المحامي فؤاد نقارة، مؤسّس نادي حيفا الثقافيّ، مشيدًا بعمله الدّؤوب وتضحياته ونجاحه اللاّفت في قيادة سفينة “نادي حيفا الثقافي”.

وما بين فصل/عنوان “حدائق الياسمين” وفصل “من ينابيع الخير الحاتميّة تولد المواسم وسنابل الآمال” تتبدّل الأدوار ويصبح التّلميذ العاشق للّغة أستاذًا ومعلّمًا لها. ليحمل الرّسالة ويتابع مسيرة القدماء. فتُطالعنا كلمات لعدد من طلّابه المجتمعين على حبّ أستاذهم، لما كان له من دور هامّ في صقل شخصيّاتهم وتحبيبهم بلغتهم، وبالتّالي تعزيز انتمائهم الوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ.

يعترف فتحي فوراني بعشقه لمهنة التّعليم، وبإيمانه أنّه حامل رسالة سامية، وأنّ عليه واجبًا تجاه مجتمعه وشعبه يقتضي النّهوض باللّغة العربيّة وترسيخها في نفوس الأجيال الصّاعدة، والتّصدّي للسّهام المصوّبة إلى هويّتنا الثّقافيّة. فحمل الرّسالة عن قناعة ومحبّة، ونجح في بناء أجيال مسلّحة بالوعي والعلم والمعرفة والكرامة على امتداد سنوات عديدة جاوزت الثّلاثين عامًا، عمل فيها مدرّسًا للّغة العربيّة وآدابها في الكلّيّة الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا. هذه الكلّيّة التي اعتبرها وطنه الثّاني الذي يعتزّ بالانتماء إليه. فتحي فوراني يعتبر طلاّبه ثروته الأكبر ويرى فيهم حلمه المتحقَّق واكتفاءه الذّاتيّ. فالمعلّم المخلص لذاته ولأجيال شعبه، كما قال الشّاعر حنّا أبو حنّا في حفل تكريم فتحي فوراني، “يجد في هذا الدور أكبر تعويض عمّا يبذل من جهد ويحرق من أعصاب ويعاني من كلّ ما عانى منه إبراهيم طوقان في قصيدته عن المعلّم”. (ص 296)

فتحي فوراني يُدرك جيّدًّا عظم تأثير المعلّم على طلّابه للمدى البعيد، ومدى أهميّة دوره في صقل شخصيّة الطّالب وفي تشجيعه ودفعه إلى تحقيق ذاته وطموحاته، وذلك للتأثير الكبير الذي كان لمعلّميه عليه منذ كان طفلًا. فيستذكر في الفصل المسمّى “بدايات” حين بشّره الأستاذ ميشيل حدّاد أنّ مادّته عن أشعب أمير الطفيليّين ستُنشر في اليوم التّالي في صفحة الطّالب في صحيفة “حقيقة الأمر”. وفي تلك الليلة لم ينم فتحي فوراني وكان طالبًا في الصّفّ الخامس. يقول: “أرأيتم ما يفعله تشجيع المعلّم لطالب ما زال في طفولته الأدبيّة في الصف الخامس؟ كانت هذه الطّلقة الأولى”. حمل فوراني هذه الذّكرى منذ أكثر من خمسين عامًا، ورأى من واجبه أن يفتح الأبواب أمام المواهب الواعدة ويأخذ بيدها كما أخذ الآخرون بيده.

ويبدو واضحًا أنّ فوراني يريد، من خلال الحديث عن مسألة المعلّم ودوره، ومن خلال استعادة ذكرياته في المدرسة كتلميذ وكمعلّم لاحقًا، أن يقول لنا إنّ المعلّم ليس فقط من يُمرّر المادّة ويُقدّم المعلومة، بل هو المثال والقدوة. هو الإنسان قبل كلّ شيء. وبحرقة أقول: شتّان ما بين معلّم زمان ومعلّم اليوم. المعلّمون اليوم، وأنا لا أُعمّم، للأسف “موظّفون” في المدرسة. لم يعد المعلم كما كان.

فتحي فوراني هذا الإنسان الهادئ المتّزن، المتسامح والمبتسم، والذي لا نراه غاضبًا أو مُهاجمًا، ولا نسمعه لائمًا أو معاتبًا أو صارخًا، هو في الحقيقة، يحمل هموم مجتمعه وشعبه، ويتألّم لما وصل إليه هذا المجتمع من درجات التّدنّي. فهو شاهد على انحلال هذا المجتمع وضعفه وتخاذله وعلى دماره التّدريجيّ، على تفشّي العنف والكذب والنّفاق والفساد، على الانحطاط وتراجع القيم والأخلاق. فنراه في فصل “ابتسامات” يرى ويتألّم ويحزن ويسخر من عمق الألم، من مظاهر وظواهر نشهدها في مجتمعنا تعمل على تدميره وتجريده من القيم والأخلاق. فمن خلال توظيفه للأسلوب السّاخر، وللساتيرا حين يلجأ إلى حيل لغويّة أو مبالغات، وكذلك الأسلوب الفكاهيّ والوصف المضحك، ينتقد الكاتب مثلًا الشّهادات المزيّفة التي ملأت السّوق الأكاديميّة على الصّعيد المحلّيّ والقطريّ والإقليميّ والعالميّ. كما ينتقد عادة “طقّ الحنك” التي تُعتبر من الثّوابت القوميّة التي نحافظ عليها ولا نتخلّى عنها أبدًا، على حدّ قوله. وإذا لم نمارس مهنة طقّ الحنك، نطقّ ونفقع وننفجر. ويتابع في وصف مشاهد هذا الواقع المرّ وكيف أصبحنا لا نُعير أهمّيّة لجوهر الأمور والأشياء والأشخاص، وعَمَت بصرَنا وبصيرتَنا المظاهر الزّائفة والكاذبة. فالشّخص المستقيم، صاحب المبادئ يُهمَّش، وفي المقابل، يرفعُ المجتمع الشخص الكاذب والمنافق وحتى المجرم، ويتبوّأ النّصّابون المناصب المختلفة كرئاسة السّلطات المحلّيّة والبلديّات ليتحكّموا في رقاب العباد، فيستلم المناصب من لا يستحقّها، ويتكلّم السُّفهاء باسم الدّين.

 والكاتب المُحبّ لوطنه وشعبه، والغيور على لغته وهويّته، قلق وغاضب ومتألّم وهو يشهد على عمليّة السّطو التّاريخيّة على الأسماء العربيّة وتشويه وجهها وطمس معالمها. ذلك لإدراكه أنّ تدمير ثقافة شعب ما ومحو لغته، هو تمهيد لتهميشه بشكل نهائيّ وصولًا إلى إبادته أو محوه.

وكونه أديبًا، يتابع ويراقب ما يحدث على السّاحة الأدبيّة المحلّيّة، نراه حزينًا ومتأسّفًا على بعض الظّواهر السّلبيّة التي تغزو عالم الأدب، فينتقد ظاهرة “اللطش الأدبيّ”، على حدّ تعبيره، ويرى وجوب رفع قضايا على مرتكبي عمليّات السّطو الإبداعيّ. وهو مستاء من كثرة، وتكاثر هؤلاء الذين يرتدون حلّة الأدب والأدب بريء منهم.

والحقيقة، أنّ جميعنا يشهد كميّة الأدب الغثّ التي تتزايد، ولا يخفى علينا دور مواقع التّواصل الاجتماعيّ في تفاقم هذه الظّاهرة وسط كلّ اللّايكات وعبارات المدح والنّفاق والكذب والمجاملات، فيُصدّق الشّاعر أو الكاتب الكذبة ولا تعود قوّة في الدّنيا تقنعه بغيرها!

ويُقدّم فوراني في عنوان “الوصايا العشر إلى شعراء ما بعد الحداثة” إحدى عشرة وصيّة لهؤلاء الشّعراء والشّاعرات الذين يُشوّهون مفهوم الشّعر ولا يفقهون كنهه وأصوله. أقتبس بعضًا منها:

  • “اجعل الغموض دينك وديدنك وليكن الإبهام المطلق سيّد الموقف شريطة أن لا يفهمك أحد”.

  • “عزّز قصيدتك بكمّ كبير من الأسماء الغريبة المستقاة من الأساطير والرموز اليونانيّة والصريّة والفينيقيّة والفرعونيّة والآراميّة والخنتريشيّة.. التي لا علاقة لها بالسياق.. ولكنّها مُقحمة إقحامًا مُغتصبًا يوهم القارئ المسكين “الضحيّة” أنّك مثقّف واسع الاطّلاع”!

  • “إيّاك ثمّ إيّاك أن تكون سهلًا واضحًا حتى لا تُتّهم بالبساطة المبتذلة. وإيّاك والإيحاء الشفّاف الذي يقتل العمل الأدبيّ والذي يعتبره النقّاد المحدثون “خيانة” للإبداع.. وتآمرًا على الحداثة وما بعد بعد الحداثة!”. (ص 132-133)

كلّ هذا يجعلنا نتوقّف ونتساءل: ما هي المعايير التي على أساسها يكون الشّاعر شاعرًا؟ وكم من قصيدة تُكتب وتكون مفتقدة وخالية من روح الشّعر ولا تلامس مكامن النّشوة في وجداننا فتستثيرها. الأمر الأكيد أنّ الشّعر الحقيقيّ يغوص عميقًا في دواخلنا، ليس ليكتشف الذّات فحسب، بل ليرينا المشاعر والانفعالات الدّفينة في أعماقنا، ويقذف بها إلى تخوم البوح والاشتعال. ويجعلنا أشدّ التصاقًا بقلوبنا وأرواحنا، وأكثر امتلاء بالحركة والتّفاعل والحياة. فالشّعر يجدّد الحياة، وبقدر ما يكون الشّعر أصيلًا صادقًا وبليغًا وتثقيفيًّا، بقدر ما يكون أداة فاعلة للتّغيير والتّنوير والتّطوير، وهو تغيير حضاريّ وثقافيّ وإنسانيّ، وتأكيد على الفعل الثّقافيّ والإبداع الإنسانيّ.

في ظلّ هذه الأوضاع المتردّية والآخذة بالتردّي أكثر فأكثر، يغمر كاتبنا حنين جارف إلى الزّمن الجميل. يقول: “يقتلني الحنين إلى أيام الزمن الجميل”. وكأنّ الكاتب يقصد استعادة كلّ هذه الذّكريات لتمدّه بالأمل ولتعينه على عيش هذا الحاضر الأسود. فنتذكّر عبارته في سيرته الذاتيّة “بين مدينتين”: “سقى الله أيّام زمان”، ويبقى في القلب “حنين دافئ.. لا يخلو من حسرة على أيام مضت.. مليئة بالأحلام! لا أحلى ولا أطيب من أيام زمان”. فيصير ذلك الماضي زادًا أو كما قال: “مخزن قوّة نمتح منه لنصبر على هذا الزّمن الرّديء”.

في الفصل المعنوَن ب “أقواس 2” يُشاركنا الكاتب حدثًا مأساويًّا مرّ به في حياته وهو وفاة أخته وفاء. في هذا الفصل يلفّنا جوّ من الحزن العميق ونشارك الكاتب حزنه ونلتمس ألمه على فقدان أخته وفاء- تفاحة القلب. وفاء الوفيّة، المهذّبة، الإنسانة، وفاء الخلوقة والعفيفة الشريفة والصادقة كما وصفها الأستاذ المحامي علي رافع في الكلمة التي ألقاها في تشييعها عام 1983.

ولأنّ فتحي فوراني إنسان متفائل، لا يرضى أن يهزمه الحزن، سرعان ما يأخذنا من هذا الجوّ المفعم بالألم والحسرة لينقلنا إلى جوّ الفرح والمحبّة والامتنان الذي يشيعه محبّوه من خلال كتاباتهم عن شخصه وعن أدبه في فصل “رسائل وإضاءات”. فنجدهم، جميعهم، متّفقون على محبّة هذا الشّخص وعلى دماثة أخلاقه ولطف معاملته وتواضعه ومحبّته للنّاس. على اتّزانه وهدوئه وإنسانيّته وعطائه لشعبه ولمجتمعه، وكونه قامة أدبيّة واجتماعيّة وثقافيّة، له بصمته الهامّة ودوره المؤثّر.

وفي نظرة شكليّة إلى الكتاب، نرى أنّه يخاطب العقل والعين، وذلك بتضمينه الصّور المختلفة المرافقة للنّصوص. وبدون شكّ، إنّ الاهتمام بالنّصّ، يُصاحبهُ اهتمام مُماثل بتطوير تنظيمهِ وشكلهِ، لما لذلك من دور في مساعدة القارئ على لمس سحرهِ والاقتراب من جوانبهِ. والصّور هنا، تندرج بدورها ضمن ما عرّفه جيرار جينيت ب “العتبات النصّيّة” أو “النصّ الموازي” وهو “فضاء يشمل كلّ ما له علاقة بالنّصّ ويحيط بهِ من سياج أوّليّ وعتبات لُغويّة وبصريّة” (بنيس، 2001، ص188). ونعني بالنّصّ الموازي أيّ المتوازي مع النّصّ، المحاذي والمحيط به، وليس المندمج فيه أو المتوحّد معه أو هو مجموع العناصر النّصّيّة، وغير النّصّيّة الّتي لا تندرج في صلب النّصّ السّرديّ، لكنّها به متعلّقة، وفيه تصبّ”، مثل: العنوان والعنوان الفرعيّ، المقدّمة، والحواشي، والصّور وغيرها. وعليه، فإنّ الصّور التي ضمّنها الكاتب كتابه والتي تُصنّف ضمن العتبات البصريّة، تُقيم، بالضّرورة، علاقة ودّيّة مع النّصّ، وتنشئ ارتباطًا وثيقًا به كونها رسالة بصريّة تُضاعف الفكرة والمعنى، فتُثير القارئ وتوقظ انفعالاته.

وبعد،

يضع فتحي فوراني بين أيدينا كتابًا مميّزًا بما يحمله من قدرة على الجذب والتّشويق والإفادة والغنى، بحيث يجعل القارئ منحازا له ولكلّ ما شابهه من إبداع إنسانيّ جميل.

أمّا عن فتحي فوراني الإنسان، فقد قلنا بعض أشياء عن إنسانيّته الفائضة، عن عشقه للّغة العربيّة وتغزّله بها، وحرصه عليها، واجتهاده في نشرها ودعمها والارتقاء بها، إيمانًا منه أنّ العربيّة مفخرة لأنّ فيها من الخصال والمزايا ما يجعلها لغة تفيض بالحيويّة والإنسانيّة والرّقيّ، وتزخر بالإشراق والتّواصل والحوار. وهي الحافظة للهويّة والثّقافة والتّراث، لأنّ قوّة اللّغة في أمّة ما، كما قال ابن خلدون، “تعني استمراريّة هذه الأمّة بأخذ دورها بين بقيّة الأمم، لأنّ غلبة اللّغة بغلبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم”.

وأخيرًا،

رحلة قراءة ممتعة وغنيّة يقدّمها هذا الكتاب. باختصار، كتاب كلّه محبّة، كلّه عطاء من أوّله إلى آخره. كتابٌ يُمثّل كاتبَه فتحي فوراني الإنسان المُحبّ، المتفائل والمعطاء. وهنا، اللّيلة، في هذه القاعة، جميعنا مجتمعون لردّ المحبّة وردّ العطاء.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

إياد خليليّة: فؤاد نقّارة.. إلى البحر يحملني

    إياد خليليّة فؤاد نقّارة.. إلى البحر يحملني   هذا المذهل الجميل، صاحب الابتسامة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *