د خالد تركي: نافِذَتي تُطِلُّ على رِوايَة “منزل الذِّكريات”

نافِذَتي تُطِلُّ على رِوايَة “منزل الذِّكريات”

د خالد تركي 

تبدأُ الرِّواية الجميلة، التي تدور أَحداثها في مدينة القُدس الرَّازحة تحت الإِحتلال البغيض، بوفاة سناء، في فصل الخريف، ساعة غروب الشَّمسِ، في مراسيم دفنٍ مختصرةٍ، خوفًا وحفاظًا على سلامة النَّاس من العدوى بالفيروس الفتَّاك، “ماتت سناء قبل غروب الشَّمس بثلاث ساعات” (ص 9)، إِنطفأَ الضَّوء السَّاطع، إِنطفأَ السَّناء، ماتت سناء، ساعة غروب الشَّمس، فبموتها غابت جسدًا لكنَّها كانت حاضرة في كلِّ ثنايا زوجها محمَّد الأصغر، على فنجان قهوة الصَّباح وفي غرفة الحمَّام وهي تغتسل وعلى فراش النَّوم حين يخلد لراحته، حاضرة معه بُكُرةً وأَصيلا، حاضرة معه أَينما حلَّ، في حلِّه وترحاله، لكنَّ كاتبنا يزرع فينا الأَمل الذي لا يموت، ففي نهاية الرِّواية يقول “أَمَّا جنود الإِحتلال فقَد ذابوا في ثنايا الليل مثل عِصابةٍ من لصوصٍ أَو مثل قُطَّاع طرقٍ نهَّابين. كُنَّا أَنا ورهوان نَستقبلُ شمسَ ذلك النَّهار ونضحكُ باستمتاع مثل طفلَين خارجَين لتَوِّهما من متاهات العَتمةِ إِلى فضاء النُّور في رغبةٍ جامحةٍ واندفاعٍ من أجل حياةٍ كريمةٍ مبرَّأَة من القيود، وعلى مقربةٍ منَّا وقَفَت أَسمهان مبتسمةً مشجِّعةً، وقد تحرَّرت من سطوة أَخيها المجرم الشَّيطان”(ص 176)..

بداية الرِّواية موت زؤامٌ ونهايتها نصرٌ مؤزَّرٌ..

“لكنَّنا نتشبَّث بالأَمل وإِن كان غائبًا..لعلَّ أُمنياتنا تتحقَّق..”(رواية بداية مؤجَّلة، كمال صبح، ص 26).

“والأَمل يصبح حقيقة، من فتاة زيِّ الرِّجال، الأَمل يصبح حقيقة، من  سواعد العُمَّال، الأَمل يصبح حقيقة، من فلاح يزرع الجبال”(الفنَّان المقدسيُّ، المقاوِم والملتزم بقضايا وهموم شعبه مصطفى الكُرد)..

“..والنَّظر إِلى المستقبل بتفاؤلٍ ما”(ص 11)..

وقد جاء في الحديث الشَّريف “تفاءلوا بالخَير تجِدوه”..

الإِحتلال إِلى زوال مهما تمادى المحتلُّ في غِيِّه، وهذه هي حتميَّة تاريخيَّة، تشهد عليها جميع الشُّعوب التي تحرَّرت من رجس ونير الإِحتلال، من كوبا الأَبيَّة إِلى الفييتنام، من الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد إلى نيكاراغوا، إِلى بوليفيا، وإِلى النَّصر السُّوفييتي الكبير، يوم انتصار الجيش السُّوفييتي على أَلمانيا النَّازيَّة، هذا النَّصر الذي غيَّر وجه التَّاريخ، وحرَّر الإِنسانيَّة من رجس هتلر وظُلم زبانيَّته، بعد أَن دفعَت الشُّعوب السُّوفييتيَّة ثمن نصرها الباهظ أَربعةً وعشرين مليون شهيدٍ أَو يزيد..

لا دوام للإِحتلال..

كانت تقول والدتي أُمُّ خالد إِنَّ الدِّستَ (وعاء للطَّهي) يرتكز على ثلاث دعائم حتَّى تكون وضعيَّته ثابتة فوق النَّار، أَمَّا في رواية رفيقنا الكاتب محمود شقير فإِنَّ روايته ترتكز على ثلاثٍ، سرديَّته الجميلة والمشوِّقة من خلال “منزل الذِّكريات”، الدَّعامة الثَّانية هي رواية “الجميلات النائمات” للرِّوائيِّ اليابانيِّ ياسوناري كواباتا والدَّعامة الثَّالثة هي رواية “ذكريات غانياتي الحزينات” للرِّوائيِّ الكولومبيِّ غابرييل غارسيا ماركيز وقد طلبتُ من مكتبة “كلِّ شيئ”، تزويدي بهاتين الرِّوايتين، إِذ شوَّقني

الكاتب العزيز أَبو خالد لقراءتهما، مشكورًا..

لقد داوم الكاتب على إِحضارهما وذكرهما ولقائهما والتَّحدُّث إِلى بَطَلي الرِّوايتين العجوزين ويستحضرهما في الرِّواية، الأَمر الذي زاد من جمال سرد روايته الرَّائعة منزل الذِّكريات، ويكون رفيقي الكاتب أَبو خالد محمود شقير قد فتح نافذتي على مصراعيها على هاتين الرِّوايتين، لترتكز نافذتي بثبات على ثلاث روايات جميلات، ولتدخل عروستنا وجميلتنا وهي في منزلها إِلى العالميَّة، بعد أَن تُطلَّ على قُدسنا الحبيبة المُقدَّسة وعلى اليابان وكولومبيا.

تدور أَحداث الرِّواية في مدينة القُدس، الرَّازحة تحت الإِحتلال، حيث يواجه الشَّعب الإِحتلالَ البغيض، وعملاءَه من أَبناء جلدته ويواجهون كذلك عصابات الإِجرام المتمثِّلة بجميحان البلطجي الذي باع شرفه، حين زوَّج اخته الأَرملة، من محمَّد الأَصغر الأَرمل زوج سناء، بعد وفاتها حيث فرضها عليه عنوةً ببلطجيَّته “واستلباطًا” على حقوقهم، إِذ كان شرط الزَّواج أَن يكتب كلَّ ما يملك على الإِطلاق لزوجته الجديدة أَسمهان، أُخت جميحان، لكنَّ الحقيقة المُرَّة كانت بأَنَّ أَملاكه انتقلت إِلى أَخيها، بعد أَن أَجبرهما على الطَّلاق..

“..وَضَعَ العِصمة بيدِها..”(ص 67)..

“..لكنَّه جُور الزَّمان الذي يسوِّغ زواجًا بناءً على حلمٍ لا يُعوَّل عليه على الإِطلاق.”(ص 108)..

يَمنعون الإِنسان حتَّى من أَن يحلم، فكيف لو كان هذا الحلم حقيقةً..

ويُجبر محمَّد الأَصغر على أَن يقطع وعدًا جادًّا “..بأَلا أَحلم أَحلامًا

تمسُّ قدسيَّة الزَّواج.”(ص 128)، حتَّى أَنَّه بدأَ يخاف النَّوم كي لا يحلم، أَصبح يخافُ من أَحلامهِ..

لقد اختار الكاتب لهذا الأَزعر اسمًا غريبًا يدلُّ على صفاته، جميحان، يتناغم و يتجانس مع صفات عربدته البلطجيَّة وعمالته الدَّنيئة حيث يعمل تحت كنف الإِحتلال ودعمه حيث يمنحه حرِّيَّة العمل “بالسَّلبطة” والسَّرقة والاستغلال دون محاسبة أَو رادع، فيستمرُّ في طغيانه على أَهل بلده وشعبه..

لأَن الإِحتلال يشجِّع الشَّباب على الإِنحراف “فأَصبح جميحان من محترفي الجريمة بكلِّ صلفٍ واندفاعٍ”(ص 89)..

ويُشير كيف تستبد وتتحكَّم الأُصوليَّة الدِّينيَّة في أَرزاق النَّاس وتقطع مصدر معيشتهم، “..ثمَّ اضطرَّ إِلى إِغلاقه تحت الوعيد والتَّهديد من جماعةٍ أُصوليَّةٍ متطرِّفةٍ ..”(ص 9)، حيث أَجبروا صاحب مقهى على إِغلاقه..

يُظهر لنا كاتب الرِّواية غيابَ القانون وتفشِّي الفوضى حيث يرزح شعبي هناك تحت الإِحتلال الغاشم، وتحت سُلطة زعران السُّلطة، وتحت ظُلم الحركات الدِّينيَّة المتطرِّفة والتَّكفيريَّة..

يواجه شعبي ثلاث ركائز الإِحتلال البغيض، زعران السُّلطة وظُلم الحركات التَّكفيريَّة الدِّينيَّة الإِلغائيَّة..

لكنَّ الأَنكى من هذا كلِّه أَنَّ جميحان الأَزعر يُجبر صهره محمَّد الأَصغر وزوجته، أّخته، أَسمهان، على أَداء فريضة العُمرة وفريضة الصَّلاة الخمس في الجامع حتَّى يراه خلق الله، ظانًّا منه أَنَّه بهذه الطَّريقة يحارب شيوعيَّته، كيف يمكن لهذا الأَمر أَن يستوي، محمَّد الأَصغر المُقاوم والمُدافع عن بلده ويواجه جنود الإِحتلال بشاعة وبأسٍ يخضع لجميحان دون أَيِّ اعتراضٍ، فقد سلبه أَرضه وبيته وكلَّ ما يملك..

لكنَّه في نهاية الأَمر ينتصر الحقُّ على الباطلِ..

﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾

إِنَّ جميحان يُحارب محمَّد الأَصغر في مبدئه وعقيدته وحياته اليوميَّة “أَنا أَعرفكم يا شيوعيَّة، الواحد منكم يغشى أُمَّه وأُخته مثلما يغشى زوجته من دون تمييز، لا أَخلاق لكم، ويلكم عند الله.”(ص 65)، هذا ما كان يقوله لي والدي عندما كان رجال الدِّين يُحرِّضون النَّاس على الشُّيوعيِّين الذين يقفون دومًا مساندين لشعبهم في كلِّ ضائقة وفي كلِّ محنة وفي كلِّ قضاياه اليوميَّة من أَجل حقوقه..

وحين قال له جميحان مهدِّدا بضرورة الصَّلاة في الجامع في الأَوقات الخمس حتَّى يُظهر للحيِّ أَنَّه ليس شوعيًّا (كما يسمِّيهم جميحان) وأَنَّ الصَّلاة في البيت لا تكفي، لأَنَّ صلاته يجب أَن تظهر للنَّاس، حتَّى يُظهر لهم إِيمانه “عندي حلٌّ يكسر عيون المُغرضين: نُصلِّي الأَوقات الخمسة في الجامع القريب.”(ص 80)، لقد “أَقنعه” تحت تهديده له بسكِّينٍ في خاصرته. “ضغط على خاصرتي بالسِّكِّين.”(ص 80)، ويذكر لنا كيف أَنَّه في الجامع يلتقي بالأَتقياء والأَنقياء والشُّرفاء ومستقيمي السُّلوك وفي ناحية أُخرى يلتقي بنفرٍ من الخونة والعملاء والكَذَبة والسِّارقين والمارقين وسماسرة الأَراضي والعقارات، (في باب أَخيار

وأشرار ص 81).

إِنَّها حالة الإِحباط والضَّعف والوهن التي أَصابت شعبي، بعد عملية “كسر الظَّهر” ليعود وينفخ فينا روح التَّحدِّي والتَّصدِّي والصُّمود، ﴿..ونَفَخَ في آَنفِهِ نَسمةَ حياةٍ﴾، ويذكِّرنا بأَقوال الصَّالحين والأتقياء النُّجباء من الخلفاء الرَّاشدين والصَّحابة، بقول الخليفة عمر بن الخطَّاب “متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أُمَّهاتهم أَحرارًا”، وقول أَبي ذرِّ الغفاريِّ “عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرجُ على النَّاس شاهرًا سيفه”، وقول الإِمام عليٍّ بن أَبي طالب “النَّاس نيامٌ فإِذا ماتوا انتبهوا” (ص 86)..

وما زال النَّوم سارقنا، وما زال السَّيف يسكُن غمدَه، وما زالت شعوبنا مستَعبَدة..

أَين نحن من الآية الكريمة ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾..

أَين أَنت يا أَخي وأَين أَنت يا شقيقي..

يصف لنا الكاتب حالة الحضيض بتصرُّف شلة من أَبناء ذوي القُربى، والبلوى التي ابتُلينا بها في هذا الزَّمن العربي الرَّديء الذي لم يشهد شعبي مثله أَبدًا في سابق العصور فيقول “الزّمن الّذي ابتُلينا فيه بطُفَيليِّين زعران، وتجَّار مخدَّرات وعملاء، يحملون السِّلاح يهدِّدون به أَبناء جلدتهم من المواطنين العزَّل” (ص 58).

محمَّد الأَصغر وأَسمهان يكرهان جميحان لكنَّهما يخافانه فقد اعترفت لزوجها مرَّةً، بعد أَن كان أَخوها مخبأَ أَسرارها “إِنَّها ليست على وفاقٍ مع أَخيها جميحان، فهو يتدخَّل في حياتها على شكلٍ مقيتٍ، وهي تخشاه ولا تستطيع أَن تخالفه أَو تخرج على رأيٍ له أَو قرار”(ص 87)..

وحين طلب محمَّد الأَصغر النَّجدة والمساعدة والمساندة من أَهله لم يجد منهم ردًّا داعمًا يشدُّ من عزيمته، “شعرتُ بأَنَّ أَبناء عائلتي لا يملكون ردًّا على ما تعرَّضتُ له..”(ص 59)، وهذا ما أَصاب أَبناء شعبي..

“..أَنَّنا نعيش تحت وطأَة احتلالٍ استعماريٍّ طاغٍ..”(ص 45)..

“..وقد تحرَّرت من سطوة أَخيها المجرم الشَّيطان”(ص 176).

“..وأَنَّ الإِحتلال أَفسد حياتنا.”(ص 59)..

إِنَّ صدمة فقدان زوجته سناء بشكلٍ مفاجئٍ بمرض الكورونا، أّثَّرت عليه، حيث بدأَ يشكُّ في وفاتها، وفي دفنها، متسائلاً هل دُفِنَت حيَّةً، هل ما زالت على قيد الحياة وهي مدفونة في التُّراب، أَثاره الشَّك وأَراد اليقين، وحتَّى يُبعدَ عنه الشَّكَّ، أَراد نبش قبرها ليتأَكَّد من وفاتها، وهنا يستذكر حادثًا مشابهًا لخليل السَّكاكيني في موت زوجته وعشيقته سُلطانة، التي تركته في قمَّة سعادتهما، “..إِذ داوم على زيارة قبرها كلَّ يومٍ مدَّة سنتين كاملتين”(ص 18)، ناكرًا وفاتها..

صحيح أَنَّها مات ودُفِنت، لكنَّها لم تتركه للحظةٍ، حيث كانت تظهر له وتشاركه حياته، “..ثمَّ جاءت سناء. من أَين جاءت؟..ربَّما خرجت من قبرها وجاءت. “(ص 16)، إِلى أَن دخلت حياته الأَرملة أَسمهان أُخت جميحان، التي وجدَت به وليفًا وأَنيسًا وزوجًا..

لكنَّها اتَّهمته، بعد ذلك، بأَنَّه يحلم بها، ويعاشرها ويدخُلها، الأَمر الذي أَثار حفيظة أَخيها جميحان، قالت “نعم وأَنت تتنعَّم بجسدي وما تقول إِلا ماهو حلال عليك”، فيُجيبها “يا أَسمهان، هل تعلِّقين على حلمٍ عابرٍ؟” فتُجيبُهُ “لازم تصلِّح الخطأ الذي ارتكبته أَو أَرفع الأَمر إِلى أَخي جميحان. أَنت تعرفه وأَنا لا أَكتمُ عنه أَيَّ خبرٍ”(ص 54)، فكان الزَّواج على مضضٍ تحت التَّهديد والوعيد..

بداية لم يتخيَّل أَنَّ إِمرأَةً أُخرى ستدخل حياته بعد سناء، حيث قال لأَسمهان “ربَّما لن أَعيش بعد سناء سوى سنةٍ واحدةٍ أَو سنتين، وأَنا أَشعر بضراوة الفقدِ..”(ص 10)،  لكنَّها أَجابته “اليوم تقول هذا الكلام وبُكرة الله أَعلم ماذا ستقول.”(ص 22)، وهنا يدخل قريبه رهوان مواسيًا ليُخرجه من عزلتهِ “..عليك الخروج من حالة الحزنِ التي تدفن نفسك فيها..ومن واجبك أَلا تدفن نفسك وأَنت حيٌّ.”(ص24)، لكنَّ سناء كانت حاضرة في حضوره حتَّى عندما ذهب ورهوان إِلى بيت المُتعة عند فريال وسميرة بجانب المستوطنة، “..إِلى أَين يأخذك هذا الدَّاشر وأَنت طاعنٌ في السِّنِّ”(ص 31)، كان محمَّد الأَصغر يتجنَّب تجربة العجوزين في الرِّوايتين لماركيز وكاواباتا الذين كانا يحاولان إِعادة شبابهما في بيوت المُتعة، وذلك خوفًا من المحتلِّين وأَدواته بقوله “وقد أَتعرَّض ذات يومٍ لأَذىً على أَيدي عسكر المُحتلِّين، قد أَتعرَّضُ للأَذى على أَيدي المتطرِّفين الأُصوليِّين المتزمِّتين من بني قومنا الذين يتحيَّنون أَيَّ فرصةٍ للشَّتم والذَّمِّ والانتقام”(ص 34)، أَرادها أَن تنام إِلى جانبه دون أَن يدخلها، ليُمتِّع ناظِريه بجسدها الرَّقيق النَّاعم، بعد أَن يعطيها حبَّة منوِّم “إِذهبي يا أَمُّورة إِلى السَّرير واخلعي فستانك ونامي. تنامين بعد أَن تبتلعي هذه الحبَّة.”(ص 36)، لكنَّها تعترف أَنَّها لم تنم البتَّة، ويرمز الكاتب بهذا إِلى عمليَّة تجارة الأَدوية الفاسدة في الضِّفَّة من قبل المحتلِّين والتُّجَّار من عملائهم “..أَكيد حبَّة المنَّوم مغشوشة “(ص 39)، ينام قربها دون المسَّ بها بهدف تهييج ذاكرته فيتذكَّر نشاطه وفحولته في شبابه، حيث ينام إِلى جوارها دون أَن يتسبَّب لها بأَذىً، ودون أَن يمسَّها، أَراد أَن يُحارب شيخوخته بأَحلامه ليستعيد حياة الشَّباب، لكنَّ الإِنسان لا يستطيعُ أَن يعيشَ جيله وجيل غيره، “يرتادُ إِيغوشي هذا المنزل كلَّما شعر بأَنَّ يأس الشَّيخوخة بات غير محتمل.” (ص 147)، لكنَّ أُمنيته تبقى:

أَلاَ لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا  لِأُخْبِرَهُ بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ

يثير كاتبنا العزيز في الرِّواية قضيَّة الإِحتلال وعنف رجال الشُّرطة والعسكر وأَدوات الإِحتلال من العملاء وعنفهم وإِجرامهم وتهديدهم ووعيدهم حتَّى يجد أَهل البلد وجميع المواطنين المخرج من هذا الغبن أَلا وهو الهروب، إِلى خارج الباد، إِلى خارج الوطن، لكنَّه يجد في الهروب من الغبن جبنًا، كما هو حال أَهل بلدي بقولهم “بطَّلت هاي البلاد إِلنا” فيهربون من هذا الواقع، “أَليس في المغادرة جبنٌ، وخورٌ وضعفُ إِرادةٍ وخواءٌ؟ أَليس فيها ما يُفرح المحتلِّين وهم يسعون إِلى إِفراغ فلسطين من أَهلها الأَصليِّين؟” (ص 133)، وهنا بدأَت صحوة أَسمهان، وانتفاضتها على الظُّلم والطُّغاة حيث تنفض عنها غبار الضَّعف والهوان والاستسلام وتطلبُ من زوجها أَن ينام كما يشاء وأَن يحلمَ كما يحلو له قائلةً مُطمئِنته “وليخسأ هذا اللئيم في الدُّنيا والآخرة، نعم، ليخسأ” (ص 136)..

فيقول له عجوز ماركيز “عليك أَن تصبر يا صديقي وتحتمل إِلى أَن تتغيَّر هذه الأَحوال، وإِلى أَن تجدوا خلاصكم من هذا الإِحتلال الذي تنمو على حوافه تلك الظَّواهر الشَّيطانيَّة” (ص 102).

حاول الإِحتلال تجنيد رهوان، قريب محمَّد الأَصغر، للعمل مع مخابرات الإِحتلال، فرفض طلبهم قائلاً “طُز في هيك محتلِّين وفي هيك إِحتلال”(ص 158). ويقول محمَّد الأَصغر في ردِّه على اتِّهامات سلطات الإِحتلال له “جوابي هو أّنَّني لن أَرضخَ لأَيِّ اضطهادٍ وسيكون صمودي في وجه العسف هو الجواب” (ص 164).

تحدِّثنا الرِّواية عن شقيقين محمَّد الأصغر ومحمَّد الأكبر وعن شقيق ثالث هو محمود، وأَظنُّهم شخصًا واحدًا، فكيف يمكنه أَين يكون محمَّدان شقيقين في بيت واحد، إِلا إِذا كان في البيت تعدُّدُ زوجات، فمحمَّد الأَكبر شُيوعيُّ، ومحمَّد الأصغر بطل الرِّواية، ملتزم بقضايا شعبه ومناهض للإِحتلال لكنَّه لا يسير في مسار أَخيه الأكبر، ويُنكر أَنَّه شيوعيٌّ، على الأَقل حين يسأَله جميحان عن شيوعيَّته، إِلا إِذا كانا نفس الشَّخص ووجد ضالَّته بعد أَن أَصبح كبيرًا..

يُحدِّث سيمون بوليفار محمَّد الأَصغر بعد أَن عرفه من فلسطين، متضامنًا “أُحبُّ هذه البلاد، أُحبُّ شعبها الذي يبذلُ الغالي والنَّفيس منذ أَكثر من مائة عام من أّجلِ حرِّيَّته. أُعلن تضامني مع شعبكم في غزَّة الذي يتعرَّضُ الآن لأَبشع عدوان. فيكم الخيرُ يا ولدي. فيكم الخير”(ص 175)..

أَمَّا منزل الذِّكريات فهو البيت الذي سرقه جميحان من محمَّد الأَصغر

“جاء متسلِّلاً أَو هذا ما شعرتُ به في لحظةٍ فارقةٍ تشهدُ آخر لحظةٍ لي  في هذا البيت، وآخر نظرة وداع لمنزلي، منزل الذِّكريات.”(ص 172)، وعندما سلَّمه مفتاح البيت شعر أَنَّه سلَّم كيانه ووجوده وحاضره وماضيه وكلَّ ما يحتوي منزله من ذكريات “..أُسلِّم تاريخي وتاريخ سناء، وذكرياتنا التي كانت لنا في هذا البيت” (ص 172).

علينا أَن نحافظ على ذكرياتنا وذاكرتنا ونحفظها في منازلنا، في قلوبنا، ونتعلَّم منها لتكون لنا عبرة للمستقبل، نستقى العبر من تجاربنا، حتَّى لا “تأكلنا الضِّباع”..

“أَمَّا جنود الإِحتلال فقد ذابوا في ثنايا الليل مثل عصابةٍ من لصوصٍ أَو مثل قُطَّاع طرق نهَّابين.”(ص 176)..

 “يسقط الإِحتلال واللعنة على المحتلِّين”(ص 45).

خِتامًا..

تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتب الفلسطينيِّ المقدسيِّ، ابن جبل المكبِّر الصَّامد، الرَّفيق محمود شقير أَبو خالد، بصدور ثمرة قلمه “منزل الذِّكريات”، أَعتزُّ بك وبنهجك وبطريقك القويم الصَّائب إِلى الحرِّيَّة والاستقلال والعدالة الإِجتماعيَّة..

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ..

ملحوظة: صدرت هذه الرِّواية، عام أَلفين واربعٍ وعشرين، عن دار نوفل، دمغة النَّاشر هاشيت أَنطوان ش.م.ل، (بيروت، لبنان) من

الحجم المتوسِّط، في مائة وستٍّ وسبعين صفحة..

ملحوظة أخرى: تصميم الغلاف من الدَّاخل الفنَّانة ماري تريز مرعب، من مواليد زحلة، لبنان. تحرير ومتابعة نشر، الصَّحفيَّة اللبنانيَّة روان عزِّ الدِّين.

ملحوظة ثالثة: لا أَدري من هو مصمِّم الغلاف. لكنَّ صورة الغلاف تُصوِّر لنا رجلاً متقدِّمًا في السِّنِّ، يعتمد على عكَّازٍ في مشيَته، يلبس لباسًا دافئًا، معطفًا طويلاً أَسود اللون، يظهر في صورة الغلاف الجزء السُّفلي من جسده، يسير على أَرضٍ ترابيَّةٍ جرداء جافَّة، وخياله يتحرَّك أَمامه، يفتِّش في الأَرض القاحلة عن منزله وعن ذكرياته ويفتِّشُ عن رمزٍ لإِحياء الأَرض، لعلَّه يجد وردةً أَو نبتةً أَو غُصن زيتون أَخضر إِشارة حياة تدلُّة على أَملٍ لحياةٍ جميلة أَفضل، على هذه الأَرض التي نفتديها بروحنا ودمنا..

ملحوظة رابعة: سيمون بوليفار (1783-1830) هو قائد الثَّورات الإِستقلاليَّة والمحرِّر لعدَّة دولٍ في أَمريكا اللاتينيَّة (كولومبيا، فنزويلا، الإِكوادور، بيرو وبنما من رجس الإِحتلال الإِسبانيِّ، وهو بطلُها وأُسطورتها، وعلى اسمه سُمِّيت بوليفيا، وغيَّرت فنزويلا اسمها إِلى جمهوريَّة فنزويلا البوليفاريَّة..

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. رنا صبح: نادي حيفا الثقافي، محضن للثقافة المستدامة

  د. رنا صبح نادي حيفا الثقافي محضن للثقافة المستدامة   إنّ المتابع لنشاطات نادي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *