د. خالد تركي: نافِذَتي تُطِلُّ على “أّسيرُ الثَّلجِ”
د. خالد تركي
نافِذَتي تُطِلُّ على “أّسيرُ الثَّلجِ”
“أَسيرُ الثَّلجِ” هي رواية الكاتب الغزِّيِّ كمال صبح، حيث تروي لنا حياة إنسانٍ يافيٍّ، عاش متنقِّلاً بين مدينة يافا الأَسيرة بعد نكبتها، “كثيرون من هاجروا من يافا وتفرَّقوا في أَصقاع الأَرض”(ص 181) ومدينة هالدن النَّرويجيَّة، متنقِّلاً بين “مدينة البحرِ والشَّمسِ” (ص 61)، ومدينة الثَّلج والبرد والصَّقيع، بين الأعصاب الفاترة والحماس والحَميَّة والكرم، بين إِنسانٍ ينتمي إلى بلاد الحرِّ والقيظِ وإِنسانٍ ينتمي إلى بلاد الثَّلج والزَّمهرير.
يقول يوسف ابن بطل الرِّواية الذي وُلد في بلاد النَّرويج، “أَنا ممزَّقٌ بين قوميَّتين، نصفي العربيُّ كئيبٌ ومؤلمٌ وقاتمٌ، ونصفي النَّرويجيُّ يخاف من هذا الإتِّساعِ في الأُفقِ، أَنا لا أَخشى كومة الثَّلج ولا أَشعر أَنَّها سقطت من السَّماء من أَجلي”(ص 61).
هي رواية يرويها بطلها اليافيُّ إبراهيم عبر مذكَّراته، التي دوَّنها على صفحات دفترٍ قديمٍ، حيث يجدها ابنه وابنته في كوخٍ خشبيٍّ مهترئٍ ومتفسِّخٍ في منجرته لصُنع التحف في مدينة هالدن في النَّرويج، حيث كانت المنجرة في حديقة المنزل الذي كان يسكنه وزوجته جوناس وابنته ريم وابنهما يوسف.
وبعد وفاة الوالد يتمِّم يوسف قراءة مذكَّرات والده.. كذلك وجدا في الصُّندوق بعضَ القِطع النَّقديَّة القديمة من عصر “الفايكنغ”، “..هي فعلاً كَنزٌ..”(ص 28)، أَمَّا الفايكنغ فهم شعوب البِحار وهم أجدادُ سكَّان الدُّول الإسكندنافيَّة حاليًّا..
لقد هرب ابراهيم يوسف عبد الجليل الصَّوَّاف وابنته ريم من زوجته الأولى المتوفَّاة فاطمة، إِلى النَّرويج، بعد أَن ترك زوجته الثَّانية إِيمان باحثًا عن طمأنينةٍ وهدوءٍ، بعد أَن وكَّلته إِيمان الغنيَّة والأَرملة أَملاكها ليُدير شأَن الشَّركة، لكنَّ شرقيَّته وحميَّته العربيَّة منعته من دوام عمله معها..
لقد هرب من واقعه بعد نكبة يافا “كنَّا نخضعُ للحكم المدنيِّ الإسرائيليِّ بعد احتلاله للمدن الكبرى..جزءٌ من عائلتي هاجر إِلى الجنوب والقلَّة المتبقِّية، وأَنا من نسلهم..إختبأنا حتَّى هدأت الحرب وبقينا في بيوتنا”(ص 107)، “..كثيرون هاجروا من يافا، وتفرَّقوا في أَصقاع الأَرض، قُتِل بعضهم، وتاه بعضٌ آخر، كلُّ الذين غابوا نُسجَت الأَساطير حول غيابهم..”(ص 181)..
لقد هاجر ابراهيم وابنته ريم عبر مطار اللد، إلى النَّرويج، ليجد واقعًا أَصعب مما كان عليه في بلاده ولم يستطع التَّأقلم هناك، حيث أَنَّ ابنته ريم، حوَّلت اسمها لريموندا، وخلعت جلدها الشَّرقيَّ وبدَّلته بجلدٍ نرويجيٍّ، وبدأَت حياتها كنرويجيَّة ناسية الشَّرق وعاداته وتقاليده وديانتها المسلمة. لقد تَنَروَجَت ريم وأَصبحت ريموندا..
حال وصوله بدأَ يعمل من أَجل الحصول على مواطَنَةٍ نرويجيَّة وجوازٍ نرويجيٍّ ليبدأ حياته وعمله، إذ كان منح الجواز منوطًا بزواجٍ من نرويجيَّةٍ، فتزوَّج من جوناس، ومعنى الاسم حمامة السَّلام، وأَنجبا طفلاً، ذكرًا، منحه اسم يوسف، فلو كانت طفلةً لمنحتها أُمُّها الاسم..
كم كان يتمنَّى ابراهيم أَن يولد يوسف في يافا بلد البحر والنَّخيل والبرتقال على أَن يولدَ في بلاد البرد والثَّلج..
“..سنسمِّيه يوسف، وكان ردُّها: إن كان ولدًا سنُسمِّيه ما شئتَ ليس لشيئٍ إلا لإرضائك.”(ص 141)..
“أَتدري يا بنيَّ لماذا سمَّيتُك يوسف رغمًا عن جوناس؟ يوسف أَلقاه إِخوتُهُ في غياهب الجبِّ، وأَنا أَلقيتك في الثَّلجِ حيث لا دفء للمشاعر ولا للرِّفاق، هم باعوه بثمنٍ بخسٍ وأَنا بعتك بعجزي وهزيمتي أَمام ذاتي..سمَّيتُك يوسف لأَنِّي لا أُريدك أَن تشبهَني، يوسف النَّبيُّ لم يشبه أَحدًا، كان يُشبه نفسَه..جميل كان كملاكٍ..لا أُريدُك لي..”(ص 182)..
حدث أَن عادت ابنته ريم، في هذا الحدث ابنته ريموندا، فجرًا بعد سهرةٍ ليليَّةٍ، كانت رائحة الكحول والأَدخنة تفوح منها “..اندفق دمٌ ساخنٌ إِلى رأسي شعرتُ بنارٍ تتَّقد في عيناي، وعندما سأَلتها أَين كانت، أَشاحت لي بيدها أَمام وجهي، وكأَنَّها تطرد عن وجهها ذبابةً، هممتُ بضربها، باغتني صوتُ جوناس (زوجته الثَّالثة النَّرويجيًّة)، من شبَّاك غرفتها المطلِّ على الحديقةِ، إِيَّاك أَن تضربها سأَقوم بإبلاغ الشُّرطة إن حاولتَ المساس بها، فانسحبتُ كقطٍ جريحٍ، كنتُ جبانًا وانسحبت” (ص 165).
“كانت هي زهرتي، كنتُ أَرويها لو شاءت بماء القلبِ والعيونِ، ..أَنا كنتُ زهرتَه وكلَّ حياتهِ”(ص 35). شعرت ريم من خلال قراءة المذكَّرات أَنَّها ظلمت والدها..
كان ابراهيم يعمل في يافا أَجيرًا في أَحد المطاعمِ، بعد أَن ترمَّل من زوجته فاطمة، وتولَّى شؤون ابنته، ريم، في كلِّ شيئٍ، فذات مرَّة خرج من عمله ليستقبل ابنته العائدة من المدرسةِ، الأَمر الذي أَزعج صاحب المطعم، وبدأ بالصُّراخ على ابراهيم حيث دبَّ الذُّعرُ والخوفُ في قلب ابنته ريم حيث نعتها بقطَّة جرباء، “..تلك المرَّة الأُولى والأَخيرة التي تتركُ فيها المطعمَ من أَجل قطَّتك الجرباء”. (ص 36)، أزعجه هذا التَّصرُّف من قبل صاحب العمل، فضربه حتَّى أَدماه “..قبضتُ على حجرٍ كان ملقىً بجانب الطَّريق، وضربتُ به جبهته، فاندفق دمٌ حارٌّ يُغطي وجهه..”، “انتصرتُ لكرامتي.. انتصرتُ لخوفها من ذلك الثَّور..”(ص 37)..
وحين عاد إلى البيت حرًّا طليقًا بعد أَن كفله أَهلُ الحارة، وقد شعر أَنَّه دافع عن العمَّال حيث قال عن صاحب العمل، “هو نكرةٌ متسلِّطٌ أَوجد لنفسه المهانة في التَّطاول على العمَّال وإِذلالهم..”(ص 37).
بعد أَن خرج من السِّجن وجد ابنته عند جارته إيمان، التي تزوَّجها لاحقًا، “كنتُ أَرى في زوجها شبيهًا لي، هو تكالبت عليه الأَمراض فمات، وأَنا تكالبت عليَّ الدَّنيا، تريدني ميِّتًا”(ص 49). كانت إِيمان إِنسانةً رائعةً، جميلةً، حسناءَ، مخلصةً وبيضاءَ القلب، غنيَّةً بمالها وأَملاكها ومقتدِرةً، زد على ذلك، “..تكفيني رعايتُك لبنتي ريم.”(ص 70)، “..إِيمان كانت بلسمًا داوى جراحي..”(ص 108)..
نعيش في مجتمع شرقيٍّ لا يرحمُ، في عاداته وتقاليده وتزمُّته وكبته، يكبت نفسه ليبقى متقوقعًا وليُحافظ أَصحابُ السَّطوةِ على مصالحهم، “متيقِّظةً تمشي حذار الجيران والمارَّة.. وتخشى على سُمعتها من مجتمعٍ لا يرحم..دأبُ النَّاس وديدنهم في نسجِ الأَقاويل والحكايات..” (ص 55)، “..خلقنا الله في هذه البيئة القاسية، لنكون رحماء ببعضنا” (ص 100 ).
عمل ابراهيم مع إِيمان في التِّجارةِ، في دكَّانٍ كبيرٍ في حيِّ العجمي بيافا، منها رأسُ المال ومنه العملُ والكدُّ والجهدُ والكدُّ، “أَنا أُساهم بالمال، وأَنت بعملك وإِدارتك لتجارتنا”(ص66).
كان ابراهيم إِنسانًا شهمًا، عزيزَ النَّفسِ حنونًا وودودًا، وما كان يُقلقه من هذا الارتباط مع إِيمان سوى أَن يُقال عنه انتهازيًّا ووصوليًّا، “أَخشى يا إِيمان أَن يُقال أَنَّني تزوَّجتُك من أَجل المال”(ص 92)، لكنَّ أُمور التِّجارة سارت على أَحسن وجه من نجاحٍ وسيطرةٍ على السُّوق الأمر الذي أَخذ منه الوقت الكثير..
حينها بدأَت الأمور تتأَزَّم، إذ بدأَ العمل يأخذُ منه حيِّزًا كبيرًا على حساب عائلته، أَلأَمر الذي أّعاد إِيمان، إِلى ترمُّلها كما قالت له ساعة غضبها “..أَلا ترى أَنَّني عدتُ أَرملةً كما كنتُ، أَنا بالكاد أَراك حين تخرُجُ صباحًا”. (ص 94)، لقد جرحَت إِيمان كرامته التي كان يعتزُّ بها حين قالت له متابعةً وصارخةً بوجههِ بعصبيَّةٍ بغيضةٍ “أَنسيتَ أَنَّك تعمل بمالي؟ وأَنا من يُقرِّر”(ص 95)، “.. ليتني لم أَجعل منك تاجرًا، فلطمتُها، رغمًا عنِّي لطمتُها، وخرجتُ مسرعًا..”(ص 97)، لطمها متأَسِّفًا على فعلته، وخرج بعد أَن شعر أَنَّه عارٍ أَمامها من كلِّ مقوِّمات الرُّجولة، “..زوج الأرملة..”(ص 102) لكنَّه شعر بالنَّدم لاحقًا “أَنتقمُ منها لمجرَّدِ خيالات تطوف برأسي فتُفسدُها، ذلك الفتى حرَّضني بكلمةٍ أَلقاها في وجهي، وحرَّضتني نفسي المريضة وكبريائي المفتعل” (ص 108)..
كبُر يوسف وتزوَّج من إِيلين نرويجيَّة يهوديَّة وكبُرت ريم (ريموندا) وتزوَّجت من شابٍ أَصهبٍ هو الآخر نرويجيٌّ يهوديٌّ..
تزوَّج يوسف من إيلين، نرويجيَّة يهوديَّة، كانت تُقنعه خلال حياتهما معًا بالهجرة إلى بلادي، حيث سيجدا فيها ما يتمنَّان وما يشاءان دون كدٍّ أَو تعبٍ. “أَبي يقول إِنَّ كلَّ ما نشقى للحصول عليه هنا، سنجدُهُ هناك دون عناءٍ”، وهناك أَيضًا سنحصل على كلِّ ما نصبو إِليه ونتمنَّاه “..وأَن نبني هناك كلَّ أَحلامنا” (ص 161).
كان لدى يوسف شعورٌ معارض للهجرة إلى بلادي “..ويكفيني أَنَّني ممزَّقٌ بين بحرِ أَبي وثلجِ أُمِّي..أَنا أَنتمي إلى هنا..ليس لي ما أَفعله هناك..”(ص 161).
لكنَّ يوسف اقتنع مُكرهًا باقتراح إِيلين زوجته بالهجرة، حيث وصلا إلى البلاد وقامت بمساعدتهم هيئة حكوميًّة رسميَّة مختصَّة بشؤون تدبير واستيعاب وإِستقبال المهاجرين، حيث أَسكنوهما في الكيبوتس.
كان الكيبوتس محاطًا بأَسلاكٍ حديديَّة شائكةٍ وكانت هناك أَبراج حراسةٍ “أَشبه ما يكون بمعتقلٍ عسكريٍّ”(ص 193)، لا يُسمح لهم بالخروج أَو الدُّخول إِلا بإذنٍ من إِدارة الكيبوتس، فهذا مكان له قوانينه وضوابطه، بعيد عن الحرِّيَّة..
لقد أَتى من النَّرويج حيث كان هناك حرًّا إِلى بلدٍ يتحكَّم فيه في كلِّ شاردةٍ وواردةٍ، فأَصبح أَسيرًا..
جاء إلى البلاد وزوجته إِيلين وعاشا في الكيبوتس ورُزقا بطفلٍ، كانت تريد تسميته آهارون لكنَّه إعترض على الإسم وطالبها بتغييره لإسحاق أَسميته إسحاق يوسف إِبراهيم يوسف عبد الجليل الصَّوَّاف، وعلى شهادة الولادة كُتب في خانة الدِّيانة: يهودي..
“قبضتُ على الورقةِ بيدٍ غاضبةٍ حتَّى أُمزِّقها، وأَلقيتها في وجه إِيلين، كان إِسحاق واجمًا كصنمٍ، تركتُهم وحملتُ حقيبةَ ملابسي التي كانت دومًا جاهزةً وانطلقتُ نحو المطار” (ص 208)..
عاد ابراهيم يوسف عبد الجليل الصَّوَّاف إلى يافا إِلى إِيمان، التي كانت تُداوي جراحه، وستُداويها الآن أّيضًا، عاش معها في بيتها، لكنَّ يد المنون خطفته منها..
مات ابراهيم في مسقط رأسه يافا ودُفِن في يافا، واحتضنه تراب يافا، لقد وجد من ينوِّحُ عليه ويبكي عليه، ويغسلُه بالماء والكافور، ويكفِّنه ويدفنه، ويُصَلِّي عليه بعد أَن عانى من ظلم الغربة ويُتمها وعنائها وقهرها، “مرَّت أَيامٌ ثقيلةٌ عشتُها في ظلمات: الغربة، والفقر، والحنين، والخوفِ والجُبن، ظلمات خمس أَطبقن على صدري، حتَّى رأَيت نفسي معلَّقًا بحبلٍ ممتدٍّ إلى سقف الكشكِ وجدتُ المسافة بين الحياة والموت تتقلصُ إلى أَدنى حدودها..”(ص 165)..
لقد هرب ابراهيم عام نكبة يافا الأَسيرة، من يافا وفرَّ إلى النَّرويج، كمن يهرب من الدَّلفة إلى تحت المزراب، وكالمستجير من الرَّمضاء بالنَّار وكالهارب من عزرائيل ليأتيه قبَّاض الأَروح..
عاش غريبًا عن ابنته التي تَنَروَجت (أَصبحت تتصرَّف كنرويجيَّة) وتزوَّجت هي الأُخرى من يهوديٍّ نرويجيٍّ وصارت أَقرب لزوجة أَبيها، جوناس، “ريم أَصبحَت أقرب إِليها منِّي” (ص 167).
لقد غلبت هالدن يافا واحتلَّت كلَّ جوارح ريم فأَصبحت ريموندا النَّرويجيَّة، ونسيت يافيَّتها، وهنا يتحمَّل والدها مسؤوليَّة هوية إبنته الجديدة، بعد أَن تمرَّدت عليه، ولم تعُد تحسب له حسابًا إِنسانيًّا ولا أَخلاقيًّا ولا أَبويًّا ولا عاطفيًّا..
أَنكرتِ عليه حقَّه في أَنَّك إِبنتُه، فلذة كبده وبعضٌ من بعضِه..لماذا يا ريموندا..
يقول الإمام زين الدِّين عليٌّ بن الحُسين بن علي بن أّبي طالب (عليهم السَّلام) في رسالة الحقوق عن الوالد:
وأَمَّا حقُّ أبيك فتعلَم أَنَّه أَصلُك، وأَنَّك فرعُهُ، وأَنَّك لولاه لم تكُن، فمهما رأَيتَ في نفسِك ما يُعجبك فاعلَم أَنَّ أباك أصلُ النِّعمة عليك فيه..
كانت زوجته جوناس تطلب منه أَن يترك إِبنته ريموندا وشأنها ليُعطيها كامل الحرِّيَّة وأَن لا يتدخَّل في شؤونها، إذ أَصبحت بالغةً وتعرف إدارة شؤونها، “إِختيارها هو أَحدُ أَركان شخصيَّتها، التي لن نتنازل عنها لمجرَّدِ قيودٍ جلبتَها لنا معك من هناك، لن نعيش في خيمتك، ولن يفصلنا عن الحياة ذلك المحرَّم الذي تَبنُوه للنِّساء، أُتركنا لحياتنا، واذهب إِلى حياتك وللأَغاني العربيَّة التي تصدح بها خلوتك” (ص 150)، عاش في النَّرويج مهانًا ومغلوبًا على أّمره حتَّى أَنَّه لم يجرؤ على الإنتفاضة في وجه هذا الذُّلِّ، فاختار الهروب من أّن يواجه الوضع لتغييره..
“..وخرجتُ أَنا أَجرُّ أَشلاء كرامتي ذليلاً ومهانًا وغريبًا، للمرَّة الأُولى أَشعرُ أَنَّني غريبٌ عن بنتي التي هربتُ بها لأَحفظها كجوهرةٍ بين شغافِ قلبي، ها هي اللؤلؤة المكنونة في الصَّدفِ، تتحوَّلُ إِلى كائنٍ شرسٍ ومخيفٍ” (ص 150).
قال لولده يوسف في مذكَّراته “هناك يا ولدي أَنتَ أَصلُ الأَشياء”(ص 184)..
عاد يوسف إِلى مسقط رأسه، النَّرويج، بعد أَن وضحت له الحقيقة، وقد شعر أَنَّ الوضع غير مستقرٍ، “..الأوضاع السِّياسيَّة والعسكريَّة هنا غير مستقرَّة، لا يخلو الأَمر من نزاع هنا وتصعيدٍ هناك، كما كنَّا نظنُّ، هؤلاء العرب ما زالوا يعتقدون أَنَّ هذه الأرض لهم..”(ص 193). لقد صقلت هذه الزِّيارة يوسف، حيث تنازل عن زوجتِه وابنه، مستنكرًا حقَّهم في بلادي، ليعود إلى حياته الطَّبيعيَّة في مسقطِ رأسه، تاركًا وطنه الثَّاني مسقط رأس والده..
لماذا لم ينجح يوسف في البقاء في أَرض والده واختار العودة إِلى بلاد والدته، خاصَّةً بعد أَن استمع لمذكَّرات والده حين تلتها عليه أُختُه ريم، يجوز لأَنَّ علاقته مع والده كانت جفاءً..
“هو تدرَّب على القسوةِ والجفاءِ،..لم أَحيا يومًا في صحرائه، هو ال1ذي عاش في ثلجنا،..أَراد أَن يمارس سطوةَ السَّيِّد في مكان لا عبيد فيه،..أَرادنا عبيدًا فإذا به يعيش عبوديَّةً محكمةً لعاداتٍ باليةٍ ومعتقداتٍ مهترئةٍ”(ص 168)، لم ينجح في الخروج من عبوديَّة الشَّرق يطفو وفق نظامٍ تمليه عليه الظُّروف ولم يقوَ على نبذِ الظُّروف ليطويها ويُطوِّعها لإمرته ويلويها تحت إبطه..
لقد شعر يوسف بحميميَّة أَهل والده كيف استقبلوه بحفاوة بالغة، وأَحسنوا وفادته وأَكرموه وكرَّموه، وزار قبر والده، واستشاطوا غضبًا حين شعروا أَنَّه يسكن في الكيبوتس مطالبينه بأَن يأتي ليسكن معهم في يافا، في بلده وفي مسقط رأس والده وأهله منه، وشعر الفرق بين حرارة استقبالهم العالية وبين فتور إِستقبال أَهل إِيلين لهما حين وصلا البلاد، “..وأَلقوا بنا في الفندق عند قدومنا..برودة اللقاء والنَّظرات الزُّجاجيَّة الخالية من كلِّ روح..”(ص 207)..
زد على ذلك أَنَّه غضب غضبًا شديدًا حين وجد في حقيبة إِبنه إِسحاق كتابًا تعليميًّا للأَطفال، يتحدَّثون فيه عن شعب الله المختار، من خلال نصوصٍ دينيَّة عن الذين اختارهم الله من بين شعوب الأرض قاطبةً ليكونوا ويسكنوا أَرضه بين ظهراني شعبه وعلى حساب حرِّيَّة شعبه “أَزعجني ما رأيتُ” (ص 207)..
كان حنين ابراهيم دومًا إلى يافا، فعاد إِليها، لقد كتب في مذكَّراته لولده يوسف ولابنته ريم أَنَّهما أَصل البلد وأَهل البلد وأَساس البلد وملح البلد وخميرته “لسنا هامشًا يا ولدي هناك، فنحن متن الكتاب ونصُّه” (ص 196).
إِنَّها رواية “أَسير الثَّلج” وأَسير الشَّمس والبحر..
كان للرِّواية راويان ابراهيم وابنه يوسف في قراءة المُذكَّرات..
لقد أَحبَّا والدهما متأَسفين على ما بدر منهما تجاهه من مُجافاته ومُقاطعته وعقوقه، لقد جاء شعور الذَّنب متأَخِّرًا، لم يأخذ حقَّه واحترامه في حياته من ولدَيه، مات في حسرةٍ واكتئابٍ، بالتَّأكيد كان يحبُّ أَن يراهما بقربه، على الأَقل في ساعاته الأَخيرة..
هكذا كان شعوري في قراءة الرِّواية..
﴿..وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾، ﴿..فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما﴾، ﴿أَكرم أَباك وأُمَّك﴾..
خِتامًا..
تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتب الفلسطينيِّ ابن غزَّة هاشم، كمال صبح بصدور ثمرة قلمه “أَسيرُ الثَّلجِ”.
وهذا هو الإصدار الرَّابع للكاتب الأديب كمال صبح، بعد “إِيفانوف في إِسرائيل”، “أَرتميس”، “وبداية مؤجَّلة”.
أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ..
ملحوظة: صدر هذا الكتاب، عام أَلفين وواحدٍ وعشرين، عن مكتبة سمير منصور للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، غزَّة، فلسطين، من الحجم المتوسِّط، في مائتين وثماني صفحة..
ملحوظة أخرى: كم تمنَّيت أَن تكون المراجعة اللغويَّة للرِّوايةِ جدِّيَّة أَكثر، لتكون القراءة أَمتع وأَجمل وأَحلى ومشوِّقة أَكثر وجلَّ من لا يسهو..
ملحوظة ثالثة: لا أَدري من هو مصمِّم الغلاف. أَظنُّ أّنَّ لون الغلاف فيروزيٌّ يميل بلطفٍ إِلى اللون الأَخضر، يبعث في النَّفس الهدوء والسَّكينة وراحة النَّظر والرَّاحة النَّفسيَّة، وفي وسط الغلاف صورةٌ لإنسان غارقٍ في الثُّلوج يُفتِّش عن خلاصه، يختنقُ تحت الثَّلج، عاريًا متجمِّدًا، متأَلِّمًا، يشعرُ بنهايتِه ويمدُّ يده مستنجدًا بمن يراه، طالبًا منه إِنقاذه، دون إِيجاده، ومن حلاوة الرُّوح يؤدِّي حركاته العشوائيِّة غير الإراديَّة طلبًا للخلاص، لكنَّ أَمل خلاصه لا يظهرُ من الغلاف، والأَرجح أَنَّه وجد نهايته، حالته تُناقض اللون الفيروزيِّ..
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.