د. خالد تركي
نافِذتي تُطِلُّ على رواية “إِحتضارٌ عندَ حافَّةِ الذَّاكرة”
الزَّمان، هو من بداية العقد الثَّاني، من القرن العشرين، إلى العام أَلفٍ وتسعمائةٍ وثلاثةٍ وخمسين، فترة السَّفر برلك..
المكان، هو “الدَّولة العثمانيَّة ولاية بيروت مُتصرَّفيَّة القدس قضاء الخليل” (ص 9)، مدينة خليل الرَّحمن، والهروب من بطش آل عثمان إِلى روسيا ومن بعدها عاصمة جورجيا، تبليسي، الإتِّحاد السُّوفييتي..
السُّكَّان هم أَهل مدينة الخليل العرب، بكلِّ طوائفهم من مسلمين ومسيحيِّين ويهود، من رجالٍ ونساءٍ وأَطفال، عاشوا بتحابٍّ وإِخاءٍ وتعاضُدٍ وتعاونٍ، يدًا واحدةً ضدَّ الإحتلال العُثمانيِّ لبلادي في حركةٍ مقاومةٍ ضدَّ تتريكِ العربِ وضدَّ الإحتلال والظُّلم..
عندما تولَّت ميسون، زوجة المختار، تربية ابنة ليئا، ليلى، بعد وفاة والدتها، قالت ميسون تعقيبًا على ما قالوه لها عن علاقتها بليئا “ليش طول عمرنا بندير بالنا ع أَولاد اليهود وهم بيديروا بالهم ع ولادنا، عمري ما طلعت مشوار بعيد إِلا أَحط ولادي عند رفقة مَرْت الخواجة سلُّوم، وهي لمَّا تروح ع الكنيس يوم السَّبت بتحط بنتها عنَّا، ..” هذه هي أَخلاقنا (ص 59).
تذكَّرتُ ابنتي القابلة مي في غرفة الولادة..
حين ولدت ليئا ابنتها، قطعت الحبل السِّرِّيِّ، ورمته على ميسون زوجة المختار، قائلةً “بقطع حبل السُّرَّة لإبنك”(ص 15)، حيث كانت هذه العادة مُتَّبعة، إِذ حين يُرمى الحبل على امرأَة حاضرةٍ الولادة، يعني هذا أَنَّ الأُمَّ تُزوِّج ابنتها لإبن تلك المرأَة التي تناولت الحبل السِّرِّيِّ، أَو تُزوِّج ابنها لإبنة تلك المرأة التي تناولت الحبلَ السِّرِّيِّ، أَي أَنَّ ليئا اليهوديَّة أَرادت أَن تزوِّج ابنتها اليهوديَّة لإبن المختار المسلم، لقد كانت العادة كذلك في طار العائلة وأَبناء وبنات العمومة، وداخل أَبناء الملَّة أَو الدِّين، لكنَّها تجاوزت العادة وتحدَّت المتَّبع، لقد كسرت الحواجز، العقبات والمُسلَّمات..
إِنَّها علاقة الجوار الطَّيِّبة بحلَّةٍ نقيضةٍ لما نحن عليه اليوم..
وهذا يدلُّ على أَنَّ ليئا تكفُر بالعادات والتَّقاليد..
وتقول ميسون عن ليئا بعد وفاتها “فهي الصَّديقة التي ترمي على كتفها كلَّ ما تحمله في نفسها من شعور بالغُربةِ أَو الضَّجر أَو حتَّى بالفرح المقطوع من شجرةٍ طويلةٍ من أُمنيات ظلَّت مؤجَّلةً”(ص 54)..
كان إِيلي زوج ليئا والمختار وغيرهم من أَبناء الخليل أَحرارًا وشرفاءَ وأُباةً ومقاومين لسياسة عسكر عثمان في التَّتريك إذ رفضوا تجنيدهم في جيش العثمانيِّين ليُحاربوا، ولذلك اعتُقلوا وسُجنوا، ونُقِلوا بعدها إِلى بيروت، ليتمَّ الحكم عليهم بالإعدام في ساحة البرج، والتي أَصبحت تُسمى بعد التَّحرير بساحة الشُّهداء، وذلك بأَمرٍ من جمال باشا السَّفَّاح الجائر والطَّاغية..
كما هو معروف عادةً أَنَّ المختار هو متعاونٌ ومطيعٌ ومنفِّذٌ لما تُملي عليه السُّلطة أَو المستعمر، لكنَّه هنا عكس ذلك، إِذ يختار المختار أَن يكونَ في صفوف المقاومين..
“..خلعوا الطَّرابيش الحمراء ولبِسوا الكوفيَّة العربيَّة ليُعلنوا عزمَهم على الإنفكاك عن سلطة الدَّولة العثمانيَّة..”(ص 13).
بعض اليهود في الخليل فرضوا الحرمان على إيلي وليئا وغيرهم من اليهود وذلك لتضامنهم مع باقي أَهل الخليل العرب ضد المستعمر العثمانيِّ، فنبذوهم وحُرموا من الصَّلاة في الكنيس، وأَعلنوا الحرمان عليهم..
كان يقول الحاخام عن ابنة إِيلي وليئا “خذيها هاي من نسل ملعون” (ص 57)، “هي ابنة اليهوديَّة المنبوذة”(ص 55)، ” بعد موت أُمِّها ليئا رفضت نساء الطَّائفة إِرضاعها لأَنَّ أُمَّها لم تعد يهوديَّة وماتت وهي منشقَّة عن الكنيس والطَّائفة”(ص 55)، لقد شعر إِيلي خطر الحركة الصَّهيونيَّة على البلاد، حيث كان يُحضر الجرائد من مدينة يافا ويقرأها على الحضور في المقهى، يقرأ ما يكتبه الصَّحافيُّون، الأمر الذي أَثار حفيظة الحاخام وطلب منه أَن لا يُحضر الصُّحف ولا يقرأَها على روَّاد المقهى إِذ كانت هناك أَنباء عن إِقامة وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين..
“فهي التي شجَّعته على فعل ذلك قبل أَن يُصبح مطلوبًا للحكومة العُثمانيَّة بعد الإنقلاب على السُّلطان عبد الحميد الثَّاني..”(ص 13).. لقد كانت ليئا “قويَّةً وجميلةً ومفعمةً بالحياةِ”، وحين رفض الحاخام تزويجها لإيلي “..بصقت في وجهه وأَخبرته بأَنَّ الله يعلم بأَنَّها زوجته الآن ولا تريد مباركته”(ص 89)..
لقد كانوا يعيشون سويَّة، أَهل الخليل بكلِّ طوائفه، في طمأنينة وسلام وودٍّ، إِلى أَن بدأَت الحركة الصَّهيونيَّة بعد مؤتمرها الأوَّل في مدينة بازل، سويسرا، تدعو إلى إِقامة وطنٍ لهم في بلادي، وتَجمَع فيه جميع يهود العالم في فلسطين، “كانت نظرات الحاضرين تطالع وجوه كلِّ اليهود الموجودين في القهوة ذلك المساء بشيء من الحنق، ما جعل اليهود يغادرون القهوة تباعًا بشكلٍ فاضحٍ،..لم يكونوا على درايةِ ما يحدثُ خارج حدود المدينة” (ص 37).
لقد اعتمد حاخام الخليل كما نصحه الوكيل من القدس، من الحركة الصَّهيونيَّة، والذي كان يدعم بأَموال الحركة حكومة الإتِّحاد التَّرقِّي لتمرير مشاريع الحركة الصَّهيونيَّة جديدة النَّشأَة بعد مؤتمرها الأَوَّل، شراء ذمم اليهود كي يطوِّعهم تحت إِمرته لخدمة مصالح الحركة وأَطماعها في بلادي، من استيطانٍ وسيطرةٍ وهيمنة “بلِّش إِكسَب ودَّ الطَّائفة قبل ما تحكي معهم بالموضوع، هاي الفلوس عشان تشتريلهم أَكل، بس يتعوَّدوا ع الشَّبع راح يعملوا المستحيل لحتَّى ما يجوعوا” (ص 38)..
كان المختار وزوجته على علاقة طيِّبة مع الكاهن اليهوديِّ سلونيم وزوجته، حيث كانوا يقومون برحلات مشتركة، وقد تحدَّثوا فيما تحدَّثوه عن البريموس، الاختراع الكبير الذي يُساعد النِّساء في الطَّهي والغسيل.. “كانت زوجة المختار قد سمعت عن هذا الاختراع من زوجة الكاهن اليهوديِّ سلونيم، الذي قابلته مع زوجها في إحدى رحلاتهم إِلى صوفيا وعندما عادت شرحت عن ذلك الشَّيء أَمام كلِّ نساء الخليل..”(ص 19)..
حين بدأتُ بقراءة الرِّواية، مرَّ بخاطري، وأَمام عيناي، كتابي سفر برلك وقد أَسعدني ذلك، إذ أَعادني إِلى ذاتي، إلى الذين فقدتهم وأَفتقدهم، وإِلى ذكرياتي مع أّجدادي الثَّلاثة، الذين عاشوا تلك الفترة الصَّعبة، حيث كثيرًا ما حدَّثوني عن معاناة شعبي في بلادي، من إذلالٍ وتجويعٍ واستبدادٍ واضطهادٍ تحت وطأَة الحكم العثماني البغيض، حيث تفنَّن في لؤمه وكرهه وظُلمه وسفالته لشعبي..
لقد قوبلت حركة التَّجنيد بمعارضةٍ شديدةٍ وبمقاومةٍ شعبيَّة، منهم من سُجن ومنهم من قُتل وشُنق، ومنهم من فرَّ إِلى البراري المحيطة بأَماكن سكنه، ومنهم من برطل الوالي، المتصرِّف، بأَربعين مجيدية ومنهم من أّعاق نفسه بجرحٍ أَو قطع عضوٍ من أَعضائه “لم تستطع زوجته تسديد مبلغ الإعفاء من التَّجنيد البالغ أَربعين ليرة عثمانيَّة، بالرَّغم من أَنَّها باعت مصاغها الذَّهبيِّ..”(ص 41)..
لقد اختبأ المختار وإِيلي والمقاومون في الكنيسة، “فهي الملاذ الأَوَّل والأخيرلهم في الوقت الرَّاهن قبل السَّفر إِلى بيروت”(ص 87) الأمر الذي أَرعب الكاهن ولم يدرِ ماذا يفعل “فإن عرفَت السُّلطة العُثمانيَّة بأَمرهم فسيتَسبَّب ذلك بأَزمة سياسيَّة كبيرة بين روسيا والعُثمانيِّين، خاصَّةً مع بداية بزوغِ نجم الحركات الإنفصاليَّة عن الحكم التُّركيِّ.”(ص 63)، مع أَنَّ الرُّهبان كانوا مسرورين جدًّا لفكرة خروج العثمانيِّين من الأَراضي المقدَّسة، “ولذلك لم يتدخَّل في أَيِّ أَمرٍ يتعلَّق بإيواء الفارِّين من السُّلطة العثمانيَّة، إِلا إِذا شعر بأَنَّه يُهدِّد أَمن الرُّهبان والكنيسة.”(ص 64)..
ويا ويلو اللي بعلق تحت إِيديهن، بقَعدوا على خازوق بطلع من نافوخو..
وهذا على عكس ما شعرته من الأب الكاهن في كنيسة يافا في رواية “إِيفانوف في إسرائيل” للكاتب الغزِّيِّ كمال صبح، حيث أَختبؤا في الكنيسة وأَحسن وفادتهم في سرِّيَّةٍ تامَّةٍ وقام بإمدادهم بالعدِّ والعتاد، والمأكلِ والمشربِ وقاوم معهم..
تذكَّرتُ جدِّي سمعان الفراري، وجدِّي يوسف الجنديَّ في عسكر عثمان، وجدِّي جريس أّصغر إِخوته سنًّا، حيث كان يمدُّ الثُّوَّار والفراري بالأَخبار وبالزَّاد، بالماء والشَّراب، بخفَّةٍ ومهنيَّة دون أَن تطاله يدُ العساكر ودون أَن تلحَظَه عيونُ العسس، تعلمت منهم حبَّ الوطن والذَّود عن حياضه وأَيضًا تعلَّمتُ بعض الأَناشيد التُّركيَّة والقصص والجُمل والكلمات، وكنتُ قد كتبتُ عن ذلك في كتابي “سفر برلك”..
حين سأَلتُ جدِّي يوسف، أَبو تركي، يومًا، شو رجَّعك يا سيدي، ع بلادنا، أَجاب: حبُّ الوطن قتَّال..
لقد جاء عام الجراد، العام الذي زاد الفقراء فقرًا، والبؤساء بؤسًا،
والمعتازين عوزًا، والمحرومين حرمانًا واستفحل الجوع والعطش والظُّلمُ والمعاناةُ، حيث أَجبروا السُّكَّان على جمع بيض الجراد، كلٌّ بحسب عدد أّعضاء العائلة ومن لم يستطع الجمعَ كان عليه دفع غرامة، لقد أَصدر مدحت باشا “مرسومًا يقضي بإلزام كلِّ شخصٍ بجمع ما مقداره عشرين كيلوغرامًا من بيض الجراد في اليوم، ومن لا يلتزم يُغرَّمُ بأَربعة جنيهات..مصيبة حلَّت على رؤوس هؤلاء المساكين. “(ص 102)..
يُحكى أَنَّ النَّاس كانت تُفتِّش في روث الدَّواب عن حبوبِ القمحِ كي تغسلها وتجدُ فيها قوتها، أَو حتَّى كانوا يُقايضون ما يملكون مقابل رطلٍ من القمح لسدِّ حاجتهم، وصدِّ جوعهم، وهناك من زوَّج ابنته بعد أَن كيَّل له رطلَ قمح في المكيال، “ماعنديش ولا حبَّة قمح يا بنتي شوفي ولاد الخواجات، اللي زينا بياكلو خرا، خرا الدَّواب مش البني آدميِّين”(ص 105).
لقد اجتمع البؤس والفاقة والعوز والبطالة والظُّلم على النَّاس وفوق كلِّ هذا كان عليهم التَّفرُّغ لجمع بيض الجراد..
يا حزيط من وين يجيب مصاري..
كان الأطفال يثيرون الضجَّة بالضَّرب على التَّنك أَو الصُّراخ لإخافة الجراد، “رأَت الأطفال يحملون التَّنك المعدنيِّ ويطرقون عليه، وكأّنَّهم في احتفالٍ، ..لاحقًا ستعرف أَنَّها كانت محاولة منهم لطرد الجراد وإِفزاعه كي يرحل”(ص 102).
وضع الكاتب أَحمد الحرباوي يده على الجُرح المؤلم، حين أَبرَزَ الصِّراع في روايته بين الأفنديَّة وفقراء الشَّعب، لقد كان ظلم الفقراء مضاعفًا، ظلمٌ من الأغنياء من أَهل البلد ومن العثمانيِّين الغزاة الطُّغاة، من جهةٍ أُخرى..
وهنا برز الصِّراع الطَّبقيُّ بين الأفنديَّة والإقطاعيِّين من جهة وبين فقراء الشَّعب والخَدَم من جهةٍ أُخرى، لقد انتصرت لمياء الخادمة على الظَّالمين بعون بريجيتا الأَجنبيَّة، انتصرت على حياة الذُّلِّ والإهانة والعبوديَّة..
صراع بين الإقطاعي والأَفندي والخادمة في بيتهم..
اعتاد حفيد الأفنديَّة، عصمت، وهو طالب في المدرسة الرَّشيديَّة في استانبول أَن يعود إِلى بيته للعطلة، في كلِّ عام، وصادف أَن رأى الخدَّامة لمياء تخدم أَهله، من غسيلٍ وطهيٍ وتنظيفٍ، أُعجب بها وكذلك هي، وبصمت وهدوء اجتمعا وتبادلا الحب في المخزن برضاهما دون أَن ينبُسا بكلمةٍ، هو ذات السَّطوة وهي الفقيرة المغلوبة، يجوز أَنَّها شعرت بأَنَّها تنتفض عليه وعلى الأفنديَّة، حين منحته جسدها، أَو أنَّها ظنَّت أَنَّ وضعها سيتحسَّن، الأمر لم يحدث، إذ استمرَّ في اعتدائه عليها، إلى أَن انتفضت عليه “وكحشتهُ” ومنعته من الإقتراب إِليها فغضب عليها وقال “يا بنت الحرام بتسوقي الشَّرف على أَسيادك، أَنا بفرجيك قيمتك وانسحب خارجًا”(ص 40)، انتصرت عليه مرحليًّا، وبدأَت تفكِّر بحالها وماذا ينتظرها خاصَّةً بعد وفاة والدتها، لكنَّ بريجيتا أَنقذتها من سيف الأفنديَّة، التي كانت تمضي جلَّ وقتها معها في المطبخ، أَمَّا بريجيتا الحسناء الجميلة والمنقذة، فهي فرنسيَّة من أُمٍّ روسيَّة، وتحمل الجنسيَّة الرُّوسيَّة أَيضًا، أَتت بلادي للعمل ضمن حركةٍ تبشيريَّةٍ فرنسيَّةٍ، تساند الثُّوَّار وقد ساهمت بشكلٍ مباشرٍ في تهريب لمياء والطِّفلة، ليلى، إبنة ليئا التي توفيت، بحادثةٍ والتي تولَّت تربيتها، بعد ذلك، ميسون زوجة المختار، لكن بعد وفاة ميسون وابنها في حادثٍ مؤسفٍ مروِعٍ، وجدت عند لمياء الحضن الدَّافئ..
لقد انتفضت لمياء على الظُّلم بقلبها وهو أَضعف الإيمان، وبلسانها حين قالت “الأَفندي كلب ومرتو كلبة وولادو كلاب “(ص 72)، وبفعلها وتغيير الوضع بيدها حين هربت..
يتمُّ تهريب لمياء وليلى بمساعدة بريجيتا عبر القُدسِ وميناء حيفا وتستقرن في جورجيا.
وحين شعرت لمياء بقرب أَجلها جلست تكتب مذكَّراتها، توصي فيها ليلى بالذِّهاب إِلى الخليل لدفن والدتها (والدة لمياء) ونقل رفاتها من المغارة في الجبل كما أَراد الأفندي، ونقلها إِلى مدافن الكرنتينا كما أَرادت لمياء..
الظَّالم مضى وولَّى وبقي المظلوم منتصرًا..
قالت لها وكتبت لها “بتروحي ع لوزا عند قصر دار عمَّار، قبال القصر في قبور رومانيَّة بتفتحي القبر وبتلمِّي العظام وبتدفنيهم ع مقبرة الكرنتينا” (ص 130)..
ما أَروع هذه اللحظة حين تطلب لمياء من ليلى أَن تُعيد دفن والدتها وجيهة في المكان الذي أَرادت أَن تُدفنَ فيه، “..يا رب أَموت بتربةِ الخليل عشتُ بعيدةً عنها وبدِّي أَموت فيها”(ص 115)، كما أَرادت الخادمة وليس كما أَراد الأَفندي..
لقد كانت أُمنية لمياء والتي تحقَّقت “..كي تقولَ للرَّبِّ إِنَّها ستعودُ ذات يومٍ كي تنقل قبر أُمِّها إِلى حيث أَرادَت وإِنَّها لاتريد شيئًا منه سوى مساعدتها لتحقيق ذلك”(ص 126)..
كُتِبت الوصيَّة من ذاكرة لمياء لحظة إحتضارها..
لقد أَثرى الكاتب أَحمد الحرباوي معلوماتنا بأَناشيد الجدَّات القديمة، وبالمأكولات الشهية وكيف يُحضِّرونها، بالعادات والأَمثال الشَّعبيَّة والتَّقاليد، وكذلك كانت الهوامش غنيَّةً إِذ قام بترجمة جمل وكلمات محكيَّة وخاصَّة بلهجة أَهل الخليل وبفنِّ البناء..
نرى على صورة الغلاف ثلاثة سيقانٍ وعلى كلِّ ساقٍ ورقتان أَو ثلاثة أَوراقٍ وسط بركةِ ماءٍ راكدةٍ هادئةٍ، ويظهر ظلَّهم على وجه الماء، ليئا وليلى، ميسون وابنها، وجيهة ولمياء، أَمَّا الماء فهي الحياة الجميلة الجديدة التي كُتبت لليلى ولمياء بدعم ومساعدة واهتمام بريجيت، “هاد البحر هو بير المي تبع الله أَنا متأَكِّدة..”(ص 125)، ويجوز أَنَّ الوردات الثَّلاث على سطح الماء هنَّ بريجيتا، لمياء وليلى…
﴿ ..وَجَعَلنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ..﴾
ختامًا..
تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتب الفلسطينيِّ أَحمد حرباوي، ابن مدينة خليل الرَّحمن، بصدور ثمرة قلمه “إِحتضارٌ عند حافَّة الذَّاكرة”، وإلى مزيدٍ من العطاء الجميل والمُثمر والملتزم..
الكاتب هو باحث دكتوراه في مجال سيسولوجيا الرِّواية والأنثروبولوجيا الثَّقافيَّة، وفي مختبر السَّرديَّات الفلسطينيِّ، وعضو إِداريٌّ في نادة النَّدوة الثَّقافيِّ.
أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ
ملحوظة: صدرت الرِّواية “إِحتضارٌ عند حافَّة الذَّاكرة ” عام أَلفين وإِثنين وعشرين، عن نوفل، دار هاشيت أَنطوان ش.م.ل. (بيروت، لبنان)، من الحجم المتوسِّط، في مائتين وأَثنتي وثلاثين صفحة، حيث أَنَّ صورة الغلاف فيكتوريا هاك، تصميم الدَّاخل للفنَّانة ماري تريز مرعب، من مواليد زحلة، لبنان، تحرير ومتابعة نشر رنا حايك، مديرة التَّحرير، لبنان..