د. أليف فرانش: رواية “فرصة ثانية” لصباح بشير: ثلاثيّة الموت والفِراق والحياة

د. أليف فرانش

رواية “فرصة ثانية” لصباح بشير: ثلاثيّة الموت والفراق والحياة

إنّها رواية تبدأ بخلاف المألوف، وتنتهي بنقيض التوقّع، فيها عدّة محاور، سأتطرّق لثلاثة منها:

 

  1. التوازي والتقاطع في مشاهد وقصص الرواية: هذه التقنيّة تمنح الكاتب مرونة لاستكشاف شخصيّات متعدّدة وأحداث متشابكة، بينما تسمح للقارئ بخوض تجربة سرديّة غنيّة تعكس تعقيدات الحياة.

المشاهد والقصص المتوازية تتّبع خيوطًا سرديّة منفصلة، إذ تتطوّر الأحداث بشكل مستقلّ نسبيًّا لكنّها تشترك في موضوع أو فكرة عامّة. وهذا ما كان لنا في الرواية من قصص الحبّ والارتباط، ما بين مصطفى مع هدى، وإبراهيم مع نهاية، وعبدالله مع لبنى؟ غالبًا ما تُستخدم هذه التقنيّة لاستكشاف زوايا متعدّدة في الحبكة، لبناء حبكة متعدّدة تصبّ كلّها، في النهاية، في مجرى الأدلجة أو الفكرة المرجوّة، مستعينة بالمقارنة ما بين شخصيّات مختلفة أو أزمنة متعدّدة. هذه المقارنة ترافق القارئ طيلة الحدث، وتمنح كلّ قصّة بعدًا جديدًا يُضاف إلى المعنى المنبثق عن العلاقة نفسها. تتلقّى العلاقة قوّة إضافيّة من خلال هذه المقارنة التي يقوم بها القارئ ما بين القصص المتوازية، منتظرًا المصبّ الأخير لها.

على النقيض من ذلك، فالقصص المتداخلة تعني أنّ الشخصيّات أو الأحداث تتشابك بطرق تؤثّر على بعضها البعض بشكل مباشر أو غير مباشر. يُبرز استخدام هذا الأسلوب الترابط ما بين عناصر الحياة أو دور الصدفة أو المصير في رسم حياة الشخصيّات، وفي بناء توليفة من العلاقات المكملة؛ يجنّدها القارئ ليصل بذهنه على صورة ومعنى، أي صورة شاملة من بازل القصص المتوازية فالمتداخلة، ويبحث لها عن معنى أو خيط يُشكّل قاسمًا مشتركًا فيما بينها.

في جمْع صباح بشير ما بين القصص المتوازية والمتداخلة، فقد خلقت طبقات متعدّدة من السرد. تبدأ القصص بشكل منفصل ثمّ تتقاطع بطرق غير متوقّعة، معزّزة من عنصر المفاجأة ومن وجود روابط خفيّة بين الشخصيّات المختلفة والأحداث المرتبطة بها؛ موصلة القارئ إلى استبصار مُجمل يتفتّق عن المعنى في هذه الروابط، بعد أن قام سابقًا بالمقارنة فيما بينها؛ لتوصله الكاتبة إلى استنتاج أو حقيقة يَمْثلان أمامه بعد مسيرة القصص المتعدّدة، إن كانت متوازية أو متداخلة، فيرتاح ذهنه وقد اكتملت السرديّة أمامه.

فقد كشفت له بشير عمق الشخصيّات باستكشاف دوافعها وعوالمها الداخليّة، وساهمت في توقيع الإيقاع السرديّ للنصّ من خلال التنقّل ما بين القصص مانحة الرواية إيقاعًا ديناميكيًّا، وعزّزت الرؤية الواقعيّة للرواية وللحياة فالتعقيد والترابط اللذين نجدهما في الرواية قائمان فعلًا في الحياة اليوميّة.

  1. التوليفة السرديّة ما بين التناقضات: تقوم الرواية على سرديّات الموت والفِراق والبقاء (موت فاتن الزوجة الأولى لمصطفى)، فراق عن سناء صديقته، وبقائه مع هدى أخت زوجته. يوازيها طبعًا قصّتا إبراهيم- نهاية وعبدالله- لبنى في الفراق والبعاد والتخاصم ثمّ البقاء والثبات. تحمل هذه التوليفة السرديّة في طيّاتها جوانب مختلفة من التجربة الإنسانيّة بتناقضاتها وتعاقبها، وتعمل على استكشاف مفاهيم الحياة والمصير والعلاقات، وتبرز الروابط العميقة بين الألم والأمل، وبين التقارب والتباعد، وما بين النهاية والبداية.

قصة الموت: النهاية بوصفها تحوّلًا

في سرد الموت، ينصبّ التركيز على فكرة النهاية، سواء كانت موتًا جسديًّا أو رمزيًّا. في استحضار عنصر الموت في بداية الرواية استكشاف للفقد، للفناء، ولكن الخلود من جهة أخرى. في رمزيّة الموت تحوّل روحيّ  ونفسيّ واجتماعيّ، وهو بذلك يمثّل موت فكرة، أو علاقة، أو حتّى هويّة، لكنّه، في المقابل، يفتح الأفق على ولادات جديدة، هو فعل البعث التي يتجلّى في انبعاث روح مصطفى من جديد بعد شقاء الفقدان، باحثًا عن الحياة في جسد سناء أو في روح هدى مكملًا صورة العنقاء التي تخرج من رمادها حاملًا يحيى ومسنودًا بهدى، وسأتطرّق إلى الرقم ثلاثة لاحقًا.

الموت يغيّر الأشخاص سواء بالتفكّك أو النموّ، لكنّه أيضًا يبعث الأمل إذ تنشأ حياة جديدة من رحيل حياة أخرى. الفراق، سواء كان عاطفيًّا، جغرافيًّا، أو اجتماعيًّا، يمثّل تجربة إنسانيّة شديدة التعقيد؛ ففيه: الشوق والحسرة: كيف تؤثّر المسافات على القلوب والعقول. والتحوّلات الداخليّة: كيف ينمو الشخص أو ينهار تحت وطأة الفقد. النهايات المفتوحة: هل يحمل الفراق فرصة للعودة أم هو باب مغلق للأبد؟

قصّة البقاء: التحدّي والاستمرار، فالبقاء يمثّل الكفاح في وجه الظروف، كلّ هذا عصف في روح مصطفى وفكره وحتّى جسده، إذ لم تكفِه العلاقة الجسديّة مع سناء، ولم يغنِه ماله عن البحث عن معنى متجدّد للحياة متمثّلًا بالحبّ الذي وجده مع هدى، وقد اهتدى بها إلى الطريق التي أنقذته من نفسه ومن الضمور في حلقة مفرغة. البقاء في علاقة ثابتة مع هدى كان لمصطفى بمثابة البقاء، وكان البقاء مختلف الأوجه: البقاء كنجاة-التغلّب على مأساة شخصيّة أو كارثة جماعيّة. البقاء كمعنى- البحث عن أسباب الاستمرار رغم الصعوبات. البقاء احتفالًا بالحياة- بالإصرار عليها في أبسط تفاصيلها. وهكذا نرى الموت في البداية، والفراق في الوسط، والبقاء في النهاية. وهذه المحاور المفصليّة شكّلت توليفة سرديّة في الصعود والهبوط من حيث منسوب القلق في الرواية، إن كان القلق الذي عايشته الشخصيّات، أو القلق الذي عايشه القرّاء.

وعندما ينجم عن الموت، والفراق، والبقاء قصص حبّ ثابتة، فإنّنا أمام رؤية عميقة للحبّ بوصفه قوّة تتجاوز الأزمات، وتعيد تعريف التجارب الإنسانيّة الكبرى، لا سيّما في بحث الإنسان عن الحبّ، أو بتوصيف أوسع: ببحث الإنسان عن معنى لحياته يجده في علاقة الحبّ، “لتغدو الأرض مكانًا يستحقّ الحياة”. هذه التوليفة تجعل من الحبّ العنصر الذي يربط البدايات المؤلمة بنهايات مليئة بالأمل، ما يمنح السرد بُعدًا إنسانيًّا شاملاً، ومريحًا للنفس البشريّة التي تهاب الضياع، وتخشى الفراق، وتتوجّس الانقطاع.

ويُطرح السؤال: كيف تنبثق قصص الحبّ من الموت؟ الإجابة:

الحبّ كإرث عاطفيّ، والحبّ كمولّد للبدايات، والحبّ لمصالحة مع الفقدان.

عندما يموت شخص عزيز، يبقى الحبّ كذكرى خالدة تعيد تشكيل حيوات الشخصيّات الأخرى. يظهر هذا في شخصيات تكرّم ذكرى الفقيد عبر استمرارها في العيش بحبّ وإخلاص، وكأنّ مصطفى وهدى قد تعاهدا على الحفاظ على إرث فاتن كذكرى وكذرّيّة متمثّلة بيحيى، وبهذا يكون ارتباطهما تجسيدًا لحبّهما لبعضهما، وليحيى، ولكن لفاتن أيضًا؛ هكذا يتحوّل الموت مولّدا لحياة جديدة، نابعة عن الحبّ، ومتجسّدًا بالبعث والقيامة. يتصالح كلّ من مصطفى وهدى مع فقدان فاتن من خلال ارتباطهما مشكّلين دفيئة للحياة الجديدة التي تمثّلت بولادة يحيى، وبهذا يكون الحبّ كخاتمة للألم.

  1. الرقم ثلاثة (ودلالاته) محور أساسيّ في معماريّة النصّ: يشير تكرار الرقم ثلاثة في معماريّة النصّ الروائيّ إلى بنية سرديّة مقصودة قد تكون رمزيّة وعميقة في دلالاتها. هذا الرقم يحمل عبر التاريخ والثقافات رمزيّة قويّة، وغالبًا ما يرتبط بالاكتمال والتوازن. في الرواية التي تتناول ثلاث قصص حبّ، ثلاثة أصدقاء، ثلاثة ارتباطات، وثلاثة أطفال، يمكن قراءة الرقم ثلاثة من زوايا أدبيّة وفلسفيّة متعدّدة. تكرار الرقم ثلاثة في الرواية ليس مجرّد مصادفة ولا فكرة اعتباطيّة في البناء السرديّ، بل يُظهر تخطيطًا سرديًّا محكمًا يحمل أبعادًا رمزيّة ومعنويّة. إنّه يخلق توازنًا في الحبكات، ويُضفي على النصّ بنية تنقل للقارئ إحساسًا بالاكتمال. الرقم ثلاثة يربط ما بين الشخصيّات، والأحداث، والتحوّلات، ما يجعل الرواية غنيّة بالتأمّلات الإنسانيّة والدلالات الفلسفيّة.

الرقم ثلاثة رمز للدورة الكاملة للحياة، حيث يولّد الألم الأمل، والفقد يقود إلى النموّ، والماضي يعيد تشكيل الحاضر والمستقبل. ثلاثيّة الموت، والفراق، والبقاء ليست نهايات، بل طرقًا تؤدّي إلى حبّ ثابت واستمراريّة الحياة عبر جسر الأجيال الجديدة، مثل المولود يحيى.

الرقم ثلاثة يُعبّر عن الحياة؛ كون الأسرة لا تتكوّن، ولا تستمرّ إلّا به: الأب والأمّ وذرّيّتهما (ذكرًا أو أنثى). وفي علم الاجتماع تتشكّل المجموعة المتينة من ثلاثة أعضاء: “التريادا”، بخلاف “الديادا” الضعيفة المعرّضة للتفكّك كونها مكوّنة من عضويْن فقط.

بهذا، وبتثليث العلاقات في النصّ، تزرع بشير بُعد الحياة في زواياه، على الرغم من البداية الموقّعة بالموت كمثل “الريكفيوم” في الموسيقى الكلاسيكيّة، في جنائزيّة مُقلِقة للقارئ ولشخوص الرواية. ويمكن للقارئ أن يحيل ذلك إلى سيرورات حياتيّة مختلفة: ولادة، نموّ، موت/ فكر، شعور، جسد/ أرض، هواء، سماء… وغير ذلك، إلى آخره. وإذا ما نظرنا إلى العنوان فسنجده ثلاثيًّا أيضًا، على الرغم من تكوّنه من كلمتين: فرصة ثانية، أمّا الكلمة الثالثة فهي كلمة يُضيفها القارئ المضمر الذي يُحيل العنوان فينسبه إلى نفسه في عمليّة إسقاط نفسيّة كحيلة دفاعيّة تجاه الخوف من المصير المبهم. “فرصة ثانية لي”، هكذا يقرأ كلّ منّا العنوان، وإن كان بشكل لا واعٍ؛ فكلّ منّا يبحث عن فرصة ثانية كدرعٍ يقينا الهواجس والذعر. هكذا يتماهى القارئ مع العنوان، ويتمنّاه، ويتّخذه مقياسًا يقيس به الأحداث التي تتعرّض لها الشخصيّات، لكن في المقابل، يتفحّص ما يحدث مع شخوص الرواية مقارنة بما يحدث معه، وبهذا يتحوّل النصّ مرآة لمكاشفة الذات مكاشفة لا يتجرّأ على القيام بها كلّ واحد من شخوص الرواية. هذه المكاشفة التي تقوم على التردّد أوّلًا والشفافية لاحقًا… وهي التي تقود النصّ بشخوصه إلى البقاء حبًّا.

بانتظار الفرصة التالية لقراءة الرواية الثالثة من صباح بشير.

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

صباح بشير: رحلة في أعماق الذّاكرة والوجدان: قراءة في رواية “منزل الذّكريات” للأديب محمود شقير.

صباح بشير رحلة في أعماق الذّاكرة والوجدان قراءة في رواية “منزل الذّكريات” للأديب محمود شقير …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *