بروفيسور خالد سِــــنداوي
نصّ المداخلة التي ألقيت في أمسية إشهار كتاب: “دعوة إلى تيسير تعليميّة اللّغة العربيّة من وجهة نظر ألسنيّة تطبيقية- دعوة أنيس فريحة أنموذجا”، في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ: 20.06.2024
الحضور الكريم مع حفظ الألقاب والمناصب
أسعد الله مساءكم بكلّ خير؛
يسعدني أن أقف أمامكم في هذه الأمسية المخصّصة لإشهار كتاب “دعوة إلى تيسير تعليميّة اللغة العربية من وجهة نظر ألسنيّة تطبيقية: دعوة أنيس فريحة أنموذجا” للباحثة لورين إسعيد.
قبل أن استهلّ كلمتي لا بدّ من توجيه كلمة شكر للنادي الثقافي في حيفا على الدور الجبّار الذي يقوم به من نشر الثقافة في مجتمعنا بشكل دوري دون كلل أو ملل، داعيا له بالاستمراريّة في جهوده، هذا النادي ممثّلا بكادره الرائع وبرئيسه الأخ المحامي فؤاد نقّارة هذه الهامة السامقة التي وضعت نصب عينيها رفع راية الثقافة في هذا الصرح المبارك الذي يتضوّع مسكا ويفيض بـيانا، شكرا لك يا فؤادٌ، فلقد أغدقتَ أفئدتَنا بنور المعرفة وسوابغَ الثقافة يا عاليَ الهمّةِ، لقد زهتْكَ الأوسمةُ، يا فولاذيَ الإرادة، ويا عصاميَ النفسِ، والذي تنصهر أمام همّته العالية المهمّات، وتنفلُّ أمامَ إرادته المعضلات.
في بداية كلمتي -ومن أجل الشفافيّة- أشير إلى أنّني قد نلتُ شرفَ مزاملة مؤلّفة الكتاب المربّية الفاضلة لورين إسعيد في مدرسة الرامةّ الثانويّة الزراعيّة لعدّة سنوات، في أواخر الثمانيّنيات وأوائل التسعينيّات من القرن الماضي، وقد عرفتُ فيها سِعة الاطّلاع والمعرفة الجمّة، والعطاء الكبير والتفاني، والمهنيّة العالية والأخلاق الحميدة، يشهد لها الزمان والمكان والنّفس والوجدان.
الكتاب الذي نحن بصدده وسمته المؤلّفة بـِــ ” “دعوة إلى تيسير تعليميّة اللغة العربيّة من وجهة نظر ألسنيّة تطبيقيّة: دعوة أنيس فريحة أنموذجا” وأصل الكتاب رسالة ماجستير قدّمتها الباحثة لقسم اللغة العربيّة وآدابها في جامعة حيفا لاستكمال متطلّبات الحصول على شهادة الماجستير في اللغة العربيّة، وقد أشرف على رسالتها البروفيسور أهرون جـيـبع-كلاينبرغ أستاذ النحو واللسانيّات في قسم اللغة العربيّة في جامعة حيفا، وقد صدر هذا الكتاب للتوّ من تحت سنابك مطبعة المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت، وهو من القطع الوزيري ويقع في ثلاثِ مائةٍ وستِّ صفحاتٍ، مجلّدٌ بغلاف مقوّى، وبحلّة قشيـبة، صمّم الغلاف يوسف الصرايرة من الأردن، وجاء في تظهير الكتاب على الغلاف الأخير سبب تأليف الكتاب، وموضوع الكتاب، وهو الدعوة إلى التيسير اللغوي اتخذت الباحثة من أنيس فريحة أنموذجا، وتوضّح أنّه بالرغم من أنّ محاولة أنيس فريحة لم يكتب لها النّجاح، ولكنّها تعتبَر خطوة مهمّة في تيسير تعليميّة اللغة العربيّة على حدّ رأي المؤلّفة.
موضوع الكتاب: مناقشة دعوة أنيس فريحة إلى تيسير العربيّة، من خلال أعماله العديدة في هذا المجال.
وتعلّل الباحثة في تمهيد الدراسة (ص 15) لماذا اختارت محاولات أنيس فريحة موضوعا لدراستها؛ لكونه ألّف الكثير في هذا المضمار، ولأنّه كان جريئا في آرائه الناقدة مقارنة بالمحاولات الأخرى التي سبقته في هذا المضمار، ولأنّ فريحة تناول عدّة مشكلات تعاني منها العربيّة؛ كالازدواجيّة، تدريس القواعد، تدريس الأدب، معلّم العربية، الكتاب المدرسي، الخطّ العربي طريقة وضع المعاجم العربية، وعجز العربيّة عن مواكبة العلوم والفنون.
توزعّت دراسة إسعيد على خمسة فصول متساوقة طولا شذّ عنها الفصل الرابع الذي امتدّ على مائةٍ وعشرِ صفحاتٍ (وهذا من مآخذ الدراسة).
الفصل الأوّل: يقدّم خلفيّة عامّة عن الدعوى العامّة بصعوبة اللغة العربية والدعوة إلى تيسير نحوها، قسّمته الباحثة إلى بابَين:
الأوّل: مفهوم صعوبة اللغة من منظور ألسنيّ وصعوبة العربيّة كلغة أولى وثانية. أمّا الباب الثاني فقد تناول الدعوة العامّة القديمة الحديثة إلى تيسير النّحو، مستعرضا إشكاليّات النحو والمقترحات التي قُدّمت لحلّها بدءا من القرن الثامن وحتّى أواخر الثمانينيّات من القرن الماضي، وقد ذكرت ْآراء ثلة من الإصلاحيّـين.
الفصل الثاني: (توزّع على الصفحات83-108) وعنوانه “الألسني والأنثروبولوجي اللبناني أنيس فريحة” قدّمت فيه ترجمة مسهبة لأنيس فريحة وإنتاجه الأدبي والبحثي ومساهماته العلميّة، ودوافعه للإصلاح اللغوي، ويبيّن أسس المنج الأنثروبولوجي الذي اتبعه فريحة في قسم كبير من مؤلّفاته، وصورته لدى الدارسين.
الفصل الثالث: جاء تحت عنوان: “معالجة فريحة لمشكلة ازدواجيّة العربيّة من منظور الألسنيّة الاجتماعية التطبيقيّة” (امتدّ على الصفحات109- 142) عالجت فيه الباحثة تقويم محاولة فريحة تيسير العربية، وناقشت فيه أيضا معالجة فريحة لقضيّة الازدواجيّة اللغوية من منظور ألسني اجتماعي تطبيقي، معدّدة الآثار السلبية للازدواجيّة والمقترَح الذي يقدّمه فريحة لحلّ هذه الإشكاليّة، والأسس الألسنيّة التي اعتمدها فيه والخطوات التطبيقيّة التي انتهجها، معتمدا على عدّة مداخل في الألسنية الاجتماعيّة لعبده الراجحي، وهادي نهر، وريم بسيوني وجانيت هولمز.
كما ويُعنى هذا الفصل بتقويم الباحثة لمقترّح فريحة لحلّ مشكلة الازدواجيّة من وجهة تعاقبيّة وتقيم الباحثة حلّا كهذا في سياقه التاريخي في مناطق مختلفة في العالم وتتبّع مسار تطوّره في العالم العربي بعد فريحة.
قال أنيس فريحة” إنّ العربيّة الفصحى لم تكن يوما لغة الكلام كما هو شائع في التقليد العربي، بل كانت لغته أدبية للشعر والغناء” (فريحة، تبسيط العربية،13)
وللردّ على فريحة نقول:
أوّلا: القرآن الكريم نزل بلغة العرب، ولم ينزل بلغة شعرائهم.
ثانيا: ثبت في أكثر من رواية أنّ العرب كانت تتكلّم الفصحى، ومن يخطئ بها ينسب له اللحنُ، ومنها ما روي أنّ ابنةَ أبي الأسودِ الدؤليِ قالت لأبيها: يا أبتِ ما أجملُ السماءِ، فقال لها: نجومُها، فقالت: ما هذا أردتُ وإنما أردتُ أن أتعجبَ من جمالِ السماءِ، فقال لها: قولي إذن: ما أجملَ السماءَ!.
ثالثا: صنّف القدماء مصنّفات أطلقوا عليها (ما تلحن به العامّة) كما فعل الكسائي، وهذا دليل على أنّهم كانوا يتكلّمون الفصحى، لكنّهم يلحنون في بعض الكلمات، فجاءت هذه المصنّفات لتصحّح لفظهم.
رابعا:كانت العرب بعد ظهور التدوين يدونوا كلّ شيء حتى أنّهم دوّنوا “أخبار الحمقى والمغفّلين”، فلو كانوا يتكلّمون بلغة ويستعملون لغة غير الفصحى لدوّنوا بها، ولم يصلنا إلى الآن أيّ نص يدلّ على أنّ العرب قد استعملوا لغة غير الفصحى في حياتهم.
يشار في هذا السياق إلى أنّ بعضًا من المفكّرين والأدباء العرب قد وجدوا نفَحاتِ اللغة لفحاتٍ فوصموها بالجمود والتحجّر، وعابوا عليها ألفاظها المتكلّفة ومعانيها المستغلقةِ على الفهم الـمُطمرةِ بالمحسنّاتِ والاستعاراتِ الثقيلة التي تحجبها عن العقل وتُثقلُ الفهمَ، لتُصبحَ لغةً تحتاج إلى فهمٍ بدلًا من أن تُعين عليه. وكانت مشكلتُهم الكبرى التي أثاروا غبارها هي عُجمةُ اللغةِ وصعوبةُ تعلّمِها من قبل أبنائها فضلا عن غير الناطقين بها، ووجود لغةٍ تُستعمل في حياتهم اليوميّة ومصالحهم العامّة وأخرى خاصّة بالتدوين يستعملها ثُلّة من المتعلّمين، فكان هذا السبب الرئيس الذي دعاهم إلى تيسيرها، وهجر ألفاظها غير المأنوسة إلى أخرى مأنوسة، وهي اللهجة العاميّة. ويرى بعض الباحثين أنّ هذه الدعوة هي نتيجة حتميّة للاستعمار وقتذاك، وثمرة عُطْبَة متوقّعة نتيجة الجهل والأميّة التي كانت تعمي أبصار عدد غفير من عامّة الشعوب العربيّة. وقد تواترت دعوات تنافحُ العاميّةَ البسيطة وتستحسنها، وتستثقل الفصحى وتنشد هجرَها. واستفحل الأمر ممّا دفع مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة عام 1944 إلى وضع جائزة قدرُها ألفُ جُنَيهٍ تكون من نصيب صاحب أفضل اقتراح قابل للتطبيق لتيسير الكتابة بالعربيّة، وكانت جميع المقترحات كالقول الغثِّ أُنكرتْ جميعها، ولم يفلح أيّ منها ممّا اضطر المجمع إلى إلغاء الجائزة.
وكان من بين الذين قدّموا الاقتراحات:
1.عبد العزيز فهمي: كان فهمي من هواة قراءة الشعر ونظمِه، وأحد أعضاء مجمع اللغة العربية وقد تقدّم باقتراح من شأنه تيسير اللغة إلى المجلس، لكنّه كان اقتراح فيه شيء من الغرابة، فأوضح في مقترحه أنّها لغة جامدة أعيتْ مُتحدّثيها ودارسيها ووُضِعت أمامهم كعقبة في طريق العلم والتقدم. وكان من أهمّ مظاهر صعوبتها -على حدّ رأيه- حروفها وطريقة كتابتها وخلوّها من أحرف العلّة والتي استعاض عنها الأولون بعلامات التشكيل كالضّمة والكسرة، ونحو ذلك لكنّه أوضح أنّ لا فائدة منها لأنّها في الغالب تُهمَل فيستعصى على القارئ في أحايين كثيرة ضبطَ النصِّ وقراءته قراءة صحيحة فتختلط عليه أمور، ويضلُّ عن الفَهم السليم والمعنى القويم. ولحلِّ هذا الإشكال اقترح استبدال الحروف اللاتينيّة بالحروف العربيّة -فيما يُعرف الآن بالفرانكو- ولم يكن أوّل من دعا إلى الأمر هذا، لكنّه كان من المتحمّسين له أشدّ الحماس فشحذ له همّمه وبذل مجهودات كبيرة في صياغة فكرته وتطبيقها عمليًّا، وأرسى للأمر قواعد بيّنها في مقاله. واستعان بالتجربة التركيّة في تحويل أحرف لغتهم من العربيّة إلى اللاتينيّة كدليل على صواب رأيه وصدق مقترحه، مشيرًا إلى الصعوبات التي واجهتهم في بادئ الأمر وتقدّمهم ولحاقهم بركب الحضارة بعد ذلك. وأضاف إن كان ما يحيل بيننا وبين التنفيذ هو أنّ أمّهات الكتب والتراث مكتوبة بحروف عربيّة فيمكن إعادة نسخها بحروف لاتينيّة حتى لا يكون هناك فجوة بيننا وبينها وليتسنّى للأجيال القادمة الاطّلاع عليها. ضرب أعضاء المجلس بمقترحه عرض الحائط كما توقّع هو، وهاجموه هجومًا شديدًا ونقدوه نقدًا دقيقًا ورفُض المقترح نصًّا وموضوعًا.
2.أحمد لطفي السيّد:كان لطفي من أقدم الدَّاعين إلى الكتابة العاميّة بدلا من الفصحى، وقد ذكر رأيه عام 1891 بمجلّة “الموسوعة” واقترح بها تيسير اللغة العربيّة عن طريق إدخال الحركات في الكلمات كحروف ملحقة بها تدخل في بنيانها، فنكتب “مُحَمَّدٌ” مثلا “موحا مما دون”، ونكتب “ساعدون” بدلا من «سَعْدٌ»، لكنّ قراره رُفض بحجّة الغرابة وعدم استئناس الصورة الجديدة، وتغييرها من بنيةِ الكلمات ممّا سيخلق فجوة بين القديم والحديث.
-
أحمد أمين:قدّم أمين مقترحًا إلى مؤتمر المجمع عام 1951 تحت عنوان “اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة”، هاجم فيه اللغة العربيّة وعلماءَها متّهمًا إياهم بالجمود والتعصّب واقترح إصدار حكم الإعدام على ألفاظ اللغة المترادفة والمؤدِّية إلى المعنى نفسه ليُفسَح المجال أمامَ صكِّ مصطلحات جديدة تناسب العصر الحديث وتفي بأغراضه، وشددّ على وجوب إماتة الألفاظ القديمة حتى لا تزداد اللغة تورمًا على تورّمها، وأضاف أنّنا لسنا في حاجة إلى أن يكون للسيفِ نيِّفٌ وخمسون اسمًا، وللعسلِ ثمانون اسمًا، مشيرًا إلى أهميّة المترادفات في نظم الشعر وأنّ وحدة القافية تُلزم استخدام مترادفات، لذا أشار على الشعراء أن يهجروا عادة القافية الواحدة مزكيًّا تعدّد القوافي.
4.سلامة موسى:كان سلامة موسى من مجموعة المنفعلين بتمصير اللغة العربيّة ومن أشدّ الداعين إلى ذلك وقد أدرج رأيه هذا في كتاب “البلاغة عصرية واللغة الفصحى” وقد انتقده العقّاد بعد كتابه هذا بقوله: “أثبت شيئًا هامًّا، هو أنّه غير عربي”. والحقّ أنّ سلامة كان من المتأفّفين من الفصحى ونعتها بأنّها لغة لا قوام لها ولا ركيزة متينة تقوم عليها، بل قامت على تسلية الأمراء ومدح الملوك، أصابها تضخّم نتيجة لاستعاراتها ومحسّناتها التي لا فائدة لها سوى الترف الذهني فقط، كما استهجنَ خلوّها من القضايا الفكريّة الكُبرى. وخلُصَ من هذا كلّه إلى عدم أحقيّتها في التدوين بها، ودعا إلى لغة ميسّرة تقترب من العاميّة أو هي كذلك.
كانت هذه بعض الآراء والمقترحات أومأنا إليها إيماءً عابرًا، ويمكن إجمال آرائهم في أنّه لا يصحّ بنا تقريظ الفصحى، وإن كانت ترفلُ في ثوب البلاغة، لأنّ ثوبَها هذا قد عرقلها عن المضيّ السريع وأبطأ خطاها، وكما أشرتُ سابقًا أنّ هذهِ الآراءَ كانت تتواتر ويعلو صوتُها نتيجة الاستعمار والجهل، ولم تكد صيحاتهم تعلو حتّى تتلاشى، وما زال تهذيب الألفاظ يزداد كلّما دنا من الفصحى وابتعد عن العاميّة المُبتذلة.
الفصل الرابع: وسمته المؤلفة بعنوان “معالجة فريحة لمشكلة تدريس القواعد النحوية من منظور الألسنية التطبيقية” (يتوزع بين الصفحات 143-256) حاولت في الباحثة تقويم محاولة فريحة في تبسيط قواعد العربية، وناقشت فيه توظيف فريحة لنتائج الألسنيّة في معالجة مشكلة تدريس القواعد النحوية لا سيّما مؤلفه “تبسيط قواعد اللغة العربية على أسس جديدة-اقتراح ونموذج” الصادر عن الجامعة الأمريكية عام 1959.
وقد قسمت الباحثة هذا الفصل على أربعة أبواب:
الباب الأوّل: أجملت فيه مبادئ فريحة في تبسيط النحو، وهي:
-
أنّ الأساليب المتبعة في تدريس النحو في أيّامه لم تتغيّر في جوهرها عن أساليب القدماء
-
أنّ تلك الأساليب جعلت الطلاب ينفرون من تعلّم العربيّة وعلومها، ويشكون من المبالغة في تعقيدها.
-
أنّ مستوى التلاميذ العرب في اللغة العربية عند نهاية المرحلة الثانوية متدنٍّ.
ولعلّ من الجدير بالإشارة هنا إلى أنّ فريحة يناقض نفسه فبعد أن يذكر في كتابه تبسيط اللغة (ص 20) أنّ كلّ لغة تخضع لقوانين صوتيّة وصرفيّة ونحويّة عامّة، ولكن هناك ظواهر لغويّة عديدة تشذّ عن هذه القوانين، ذلك لأنّ اللغة انحدرت إلينا من عصور سحيقة في القِدم يوم لم يكن هناك منطق ولا اتّساق في التفكير، ومظاهر هذه البدائية في اللغة تظهر في الإعراب وفي الجمع والتأنيث”، ثمّ يقول بعد صفحتَين من الكتاب: ” ممّا لا شكّ فيه أنّ علم العربيّة كان في يوم مضى مادّة لإنماء التفكير والقياس والمنطق” إنّ هذا اليوم بلا شكّ هو يوم أن كانت العربيّة تنطق وتكتب في أفضل صورها، أيّ في عصور العربية الأولى يوم كانت العرب تنطق بسليقتها ولا تلحن. فلا أعلم كيف رأى فريحة أنّ العصور القديمة للعربية لم يكن فيها منطق ولا اتّساق في التفكير؟؟!!.
الباب الثاني: بيّنت فيه الكاتبة اهتمام فريحة بالقواعد التربويّة دون العلميّة، وأوضحت الكاتبة الفرق بين مصلح “النحو” والمصطلح “قواعد نحويّة”، وفصلت بامتياز أنواع القواعد النحوية المختلفة كما وردت عند فريحة، وكذلك تعريف الألسنية التطبيقية للقواعد التربوية كأحد تلك الأنواع.
الباب الثالث: تناول مسألة تقسيم الكلام إلى أصناف باعتبارها مسألة جوهريّة في دراسة النحو، وأشارت كيف استفاد فريحة من منهج المورفولوجيا الحديثة التي ترفض التقسيم التقليدي للكلام عموما، والتي تصف الوحدات الدلالية والصرفية في اللغة المعينة بحسب طبيعة الاستعمال اللغوي فيها، كما تطرّقت في هذا الباب إلى الإشكاليّة في التقسيم التقليدي من وجهة نظر التلميذ، والأسس المنطقيّة للتقسيم الجديد وما فيه من تيسير عند التدريس، من خلال مقارنة أقسام الكلام في مقترح فريحة مع النحو التقليدي.
الباب الرابع: أوضحت فيه الكاتبة موقف فريحة من قضّية الإعراب التقليدي، كطريقة لتحليل الجملة تحليلا نحويا وكإحدى مشكلات تدريس القواعد، وهو موقف كان أمره قد التبس على المناوئين لفريحة الذين تجاهلوا اقتراح فريحة، ونسبوا إليه الدعوة إلى إلغاء الإعراب التقليدي.
حيث يقول فريحة بهذا السياق: “الإعراب لا يتلاءم والحضارة، نحن نرى في الإعراب، الإعراب في أية لغة بقيّة من البداوة… إنّ الإعراب زخرف لا قيمة له في الفهم والإفهام”، وقال أيضا: “إنّ الإعراب عقبة في سبيل التفكير، ذلك ممّا لا شكّ فيه. وسقوطه من اللهجة المحكيّة خطوة هامّة نحو تيسير الكلام حتى يصبح طريقا ممهدا للفكر” (فريحة، نحو عربية ميسرة، ص 123، 184)
فكما نرى أنّ فريحة يشمئز من الإعراب، ويرميه بالصعوبة والتعقيد، ويأتي المستشرقون ليصفونه بأنّه من مميّزات العربية.
قال شيخ المستشرقين الألمان ثيودور نولدكه: ” وقد شذّت حينئذ عن هذه القواعد شذوذا كبيرا تلك الأعداد الكبيرة من العرب الخارجين عن الجزيرة العربية، وأصبحوا لا ينطقون حركات الإعراب في آخر الكلمة، وقد عجّل بهذا التغيير الصوتي، الذي يعني ضياع الميزة الكبرى للغة العربيّة” (نولدكه، اللغات السامية، ص 80)
وقال المستشرق الألماني يوهان فك في العربيّة: “ولقد تكلّفتُ القواعدَ التي وضعها النحاة في جهد لا يعرفُ الكللَ، وتضحيةٍ جديرةٍ بالإعجابِ، بعرضِ اللغة الفصحى وتصويرها في جميع مظاهرها، من ناحية الأصوات، والصيغ، وتركيب الجمل، ومعاني المفردات على صورة محيطة شاملة، حتى بلغتْ كتب القواعد الأساسيّة عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة مستزيد” (العربية دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، 2)
كما عرضت الباحثة في هذا الباب المنهجيّة التي يقترحها فريحة بديلا عن الإعراب التقليدي، والأسس الألسنيّة التي تقوم عليها، كما تطرّقت الباحثة في هذا الباب إلى تأثر فريحة بمبدأ تحليل الجملة إلى مقوماتها المباشرة.
أمّا الفصل الخامس والأخير من هذه الدراسة فوردَ بعنوان: ” مناقشة فريحة لمشكلة الخطّ العربي من منظور الألسنيّة الاجتماعية التطبيقيّة” (وقد امتد بين الصفحات257-282)، وقفت فيه الباحثة عند مشكلات الخطّ العربي ومقترحات إصلاحها في العصر الحديث من خلال مناقشة أنيس فريحة لها، وبيّنت موقف فريحة الخاصّ من تلك المقترحات والحلّ الذي يؤيّده، وهو استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، كما وتناول هذا الفصل قضيّة الخطّ العربي، نشوء الألفبائيّة في تاريخ البشريّة، نشوء الخط العربي والإصلاحات التي أدخلت عليه قديما، مشكلات الخط العربي كما ظهرت في الدعوة الحديثة إلى إصلاحه، اتجاهات محاولات الإصلاح وأبعادها المختلفة، كما وتطرقّت إلى دواعي تأييد فريحة اعتماد الحرف اللاتيني كحلّ لمشكلات الخطّ والأسباب التي أدّت إلى رفض هذا الحل لدى المهتمين بهذه القضيّة.
التعليق والردّ على فريحة: نقول هنا: هل نستبدل حرفا قام بدوره على مرّ أكثر من 1700 عام بحرف ما يزال أهله يَشْكُون من صعوبته، ويحاولون بين الحين والآخر أن يُــيَسّروا فيه؟!، ففي أواخر القرن التاسع عشر عالج الألمان أساليب رسمهم القديم وأصلحوا كثيرا من نواحيه، ومثل هذا حدث منذ عهد قريب في مملكة النرويج، ثمّ في جمهوريّة البرازيل، وقد بدت بهذا الصدد محاولات إصلاحيّة كثيرة في هولندا وإنجلترا والولايات المتحدة (وافي، اللغة والمجتمع، ص 39- 40).
وأنّ أهل الحرف اللاتيني قد تركوا حرفهم -سابقا- وكتبوا بحرفنا العربي حين أدركوا ميزته، قال المستشرق الهولندي ريـنهارت دوزي: “كما أبهر الأدب العربي الكثيرين من أصحاب الذوق الرفيع فاجتذبهم إليه حتّى نبذوا الأدب اللاتيني وانصرفوا للكتابة بلغة الفاتحين دون سواها” (دوزي، المسلمون في الأندلس، ص 85)
ولعلّ من الجدير بالإشارة هنا إلى ظاهرة الدعوة إلى العودة للتراث الفرعوني التي ظهرت في مصر كبديل عن التراث، وطريف أن نذكر أنّ طه حسين، في إحدى مراحله الباكرة، كان من الدعاة إلى هذه النسبيّة الحضارية؛ وظهر ذلك خصوصا في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”. كما وظهرت تلك الأفكار في سياق ظهور دعوة من قِبل مجموعة من المثقّفين والكتّاب المصريّين للعودة إلى التراث الحضاري الفرعوني واللغة الهيروغليفيّة، وإلى الخروج من التراث الحضاري العربي واللغة العربية. وأحد هؤلاء وهو محسن لطفي السيّد حفيد المفكّر التنويري المصري لطفي السيد، حيث كان يرى أنّ مصر خسرت كثيرا من دخولها العالم العربي وربطها به استراتيجيّا، بحيث أدّى ذلك أخيرا إلى خراب مصر ومالطة وما بينهما. وإذا كانت الدعوة للعودة إلى الفرعونيّة ليست جديدة، فإنّ الجديد في طرحها في المرحلة الراهنة يتمثّل في “المطالبة بإلغاء تعليم اللغة العربية في المدارس، واستبدالها بتعليم اللغة الهيروغليفية”. بيد أنّ هذه الفكرة “الجديدة” تبدو أمرا في غاية التعقيد؛ ممّا يجعل دعاتها يقعون في حالة من التشكيك في إمكانية تحقيقها، وربما يصلون -من ثم- إلى فكرة أخرى هي استبدال العربيّة بلغة أجنبيّة معاصرة لا ريب أنّ الإنجليزيّة هي التعبير عنها. وإذا لم يصرّح أولئك بذلك، فإنّ سياق هذا الحديث في المرحلة الراهنة، مرحلة النظام الدولي العولمي الأميركي بمطالبه في “إقالة” الهويّات الوطنيّة والقوميّة “المتخلّفة”، يقود إلى البحث عن لغة تُدخل الشعوب “المتخلّفة” التي تنتمي إليها الشعوب العربية، في عالم “الحضارة الرقميّة” الجديدة، وإذا كانت الإنجليزيّة هي لغة هذه الحضارة، فلتكن أيضا لغة مصر الجديدة، بل لغة العالم العربي، وغنيٌ عن الإشارة إلى أنّ مسألة اللغة العربيّة والاعتقاد بأنّها غير قادرة على أن تكون لغة الثقافة والعلم والحضارة، كانت قد شغلت أرهاطا من المثقّفين والمفكرين والكتّاب العرب و(غير العرب) منذ القرن التاسع عشر، وبعد ذلك بشكل خاصّ في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فكان هنالك من دعا إلى تبنّي الأحرف اللاتينية كمدخل إلى الحضارة الغربية، ومن هؤلاء الشاعر اللبناني الراحل سعيد عقل ورغم مضي أكثر من سبعين سنة على توجيه سعيد عقل نداءاته إلى فينيقيا كي تستيقظَ من نومها، وتعود لممارسة دورها الحضاري والتَّمديـنـي الكبير في حوض البحر الابيض المتوسط، وبالتالي في العالم كلّه، فإنه لم يتلقَ بعد جوابا كما لم يملَّ من إرسال هذه النداءات، ثم إنّه لم يكتفِ بما فعله في هذا الإطار شعرا ونثرا، بل أضاف إليه لمسات جديدة، فإذا تعذّر بعثُ اللغةِ التي كان ينطق بها الفينيقيّون قبل آلاف السنوات، فلا مانع من تقنين اللهجة العاميّة اللبنانيّة – وإرقائها في نظره لهجة بعض أحياء زحلة مدينته – واعتبارها اللغة اللبنانيةَ الجديدةَ، ومن أجل إبعاد اللغة العربية إبعادا تامّا عن الساحة لأنّها لغة غريبة وافدة إلى لبنان من السعوديّة – كما صرح مرارا- فلا بدّ من إبعاد الحرف العربي أيضا عن هذه اللغة. لذلك يتعيّن اصطناع “حرف لبناني جديد” تتمّ بواسطته كتابتها، وقد اصطنع سعيد عقل بالفعل هذا الحرف وأصدر به عملا شعريا له اسمه (يارا). كما أنّه أصدر بهذا الحرف الأعداد الأخيرة من مجلّته (لبنان) قبل أن تتوقّف نهائيا عن الصدور عشية وضعت الحرب الأهليّ اللبنانيّة أوزارَها.
كما وأسّس سعيد عقل في خريف1967، دارا جديدة للنشر باللغة اللبنانيّة والحرف اللاتيني أطلق عليها اسم “دار أجمل الكتب”، وسعى من خلال هذه الدار إلى مواصلة ما دعاه بـِـــ”ثـورة اللغة وثورة الحرف”. أطلق الشاعر هذه “الثورة” في منتصف الخمسينات، وألقى خلال أكثر من عشر سنوات سلسلة طويلة من المحاضرات والأحاديث دفاعا عن نظريته الداعية إلى استبدال اللغة الفصحى باللهجة اللبنانيّة التي أصرّ على تسميتها بـِــ”اللغة اللبنانيّة”، والحرف العربي بالحرف اللاتيني. سعى الشاعر إلى تطبيق هذه النظريّة، فنشر ديوانه “يارا” معتمدا “الحرف اللبناني الجديد” المشتق من الحرف اللاتيني، وأثار موجة من السجالات والمناظرات، غير أنّ العاصفة هدأت بسرعة، وعاد سعيد عقل للكتابة باللغة الفصحى وبالحرف العربي، لكنّه لم يعترف بالهزيمة. وبعد سنوات، سافر إلى بريطانيا، وقصد مؤسّسة “لينوتـيب”، وعاد منها حاملا بطاقة تعريفيّة طُبعت عليها حروف الأبجديّة اللبنانيّة المبنيّة على الحروف اللاتينيّة، وأطلق دعوته إلى اعتمادها.
وفي الخلاصة:
أجملت الباحثة مقترحات فريحة في إصلاح اللغة العربية، وتوصلّت إلى الاستنتاجات التالية:
1.أنّ الحكم بالصعوبة المطلقة على العربية الفصيح، بمفهوم الألسنيّة الحديثة، وأنّ الإحساس بصعوبتها يعود إلى ثلاثة عوامل أساسيّة: الازدواجيّة اللغوية، خلو نظام الكتابة من الحركات وتقديم مسائل النحو بأسلوب فلسفي.
2.عجز محاولات الإصلاح في مجال النحو عن التيسير الحقيقي وذلك لأنّها حاولت “تيسير النحو” لا “تيسير تعليميّة النحو”.
3.أنّ حلّ المشكلات اللغوية المختلفة خاصّة التي لها علاقة بتدريس اللغة، لا يمكن أن يتحقّق دون تطبيق نتائج الأبحاث الألسنيّة وسائر العلوم الأخرى.
4.أنّ أنيس فريحة كان قد أدرك تلك الحقيقة خلافا لغيره من الداعين إلى الإصلاح في تلك الحقبة من الزمن، وقد درس قضية الإصلاح في تلك الحقبة من الزمن كألسنيّ عملَ في التدريس، وقد حاول حلّ مشكلات العربيّة على ضوء الألسنيّة الحديثة.
5.أنّ مصير أيّ محاولة لإحداث تغيير جذري في اللغة العربية بغية الإصلاح هو الفشل مسبقا وذلك بسبب الأبعاد الثقافيّة والسياسيّة والدينيّة.
6.أنّ مقترح فريحة لتبسيط قواعد اللغة يكتسب أهميّة كبيرة في حركة الإصلاح اللغويّ.
بعد هذا العرض الموجز لدراسة الباحثة لورين اسعيد نستطيع أن نقول أنّنا بصدد دراسة جادّة وشاملة متميّزة ومستفيضة ورصينة تستحقّ الشكر والتقدير من المتخصّصين، وتساهم في صناعة الكتاب العربي، وأجرؤ على القول بأنّها الدراسة الوحيدة الجادّة بالعربية في هذا المضمار على الصعيد المحلي والعالم العربي، تستحقّ القراءة المتأنيّة، والاهتمام والمتابعة.
وفي خاتمة هذه الورقة أقول إنّ منجز لورين إسعيد البحثي ريادي، تميّزت فيه كباحثة متمكّنة بقدراتها وبراعتها في الوقوف عند دعوى أنيس فريحة وقوفا متأنّيا استطاعت من خلاله إدراك كنه دعوى فريحة، وبذلت في ذلك وقتا وجهدا مستفيدة من خبرتها الواسعة من خلال عملها في تدريس اللغة العربية على مدار اثنين وثلاثين عاما،
ومع كلّ هذا الإعجاب بجهد المؤلفَة فلي بعض الملاحظات عسى أن تتقبّلها قبولاً حسنًا:
1.حبّذا لو اطلعت الباحثة على دراسات البرفيسورة إلينور حداد، والبروفيسور محمّد إمارة، وبروفيسور سليم أبو ربيعة، عن الاِزدواجيّة اللغويةـ لديهم دراسات حديثة وجادّة حول الموضوع لأثرت دراستها أكثر.
-
عدد صفحات الفصول يجب أن يتوّزع بالتساوي تقريبا على صفحات الكتاب، صحيح أنّ طول الفصول الكتاب يختلف حسب الكتاب وحسب أسلوب الكاتب ومحتوى الكتاب،
الكتاب يتوزّع على أربعة فصول:
فالفصل الأوّل احتلّ 50 صفحة
أماّ الفصل الثاني فتوزّع على 26 صفحة
أمّا الفصل الثالث فكان في 25 صفحة
والفصل الرابع وهو أكبر الفصول حجما تراوح على 110 صفحات
والفصل الخامس والأخير ضم 20 صفحة.
صحيح أنّ طول الفصل أحيانا يتعلّق بالكتاب والأسلوب والمحتوى ففصول الكتاب يجب أن تتساوى طولا.
-
حبّذا لو ذيّلت الباحثة الكتاب بفهارس للمصطلحات مع إيراد تعريفها أو شرحها وتوضيحها، وأسماء اللغويين والألسنيّين الذين وردت أسماؤهم لمساعدة القرّاء في العثور بسرعة على مكان مناقشتها في النصّ.
-
تحدّثت الباحثة في الفصل الثالث قي صفحة 135عن عاميّة المثقفين ومقابل اللغة الثالثة وذكرت أنّ الكاتب المصري توفيق الحكيم قد استعملها في مسرحيّة “الصفقة” والتي نشرها عام 1956م ورأى باللغة الثالثة بديلا عن الفصحى في المسرح.
في الواقع تجربة توفيق الحكيم تضمّنت أيضا مسرحيّة “الورطة” والتي نشرها عام 1966م وهذه اللغة برأي توفيق الحكيم نفسه أقرّ بأنّها فشلت -في لقاء لي معه على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1986 سألته عن تجربته في “اللغة الثالثة” فقال لي بالحرف الواحد بالعامية المصرية: “ده فشلت”، والدليل على ذلك لم يكرّر المحاولة.
وهذه اللغة فقد حدّدها توفيق الحكيم في بيان نشره في ذيل المسرحيّة استعرض فيه مشتقات استعمال العاميّة والفصحى في المسرح، ثمّ تحدَّث عن اللغة الثالثة التي كتب بها هذه المسرحيّة فقال: كان لا بدّ لي من تجربة ثالثة لإيجاد لغة صحيحة لا تجافي قواعد الفصحى، وهي في نفس الوقت ممّا يمكن أن ينطقه الأشخاص ولا ينافي طبائعهم ولا جوّ حياتهم! لغة سليمة يفهمها كلّ جيل وكلّ قطر وكلّ إقليم، ويمكن أن تجري على الألسنة في محيطه، تلك هي لغة هذه المسرحية؛ قد يبدو لأول وهلة لقارئها أنها مكتوبة بالعاميّة، ولكنّه إذا أعاد قراءتها طبقًا لقواعد الفصحى فإنّه يجدها منطبقة على قدر الإمكان، بل إنّ القارئ يستطيع أن يقرأها قراءَتين: قراءة بحسب نطقه الريفي فيقلب القاف إلى جيم أو إلى همزة تبعًا للهجة إقليمه، فيجد الكلام طبيعيًّا، ممّا يمكن أن يصدر عن ريفي. ثمّ قراءة أخرى بحسب النطق العربي الصحيح، فيجد العبارات مستقيمة مع الأوضاع اللغويّة السليمة … إذا نجحت في هذه التجربة فقد يؤدي ذلك إلى نتيجتَين؛ أولاهما: السير نحو لغة مسرحيّة موحّدة في أدبنا تقترب بنا من اللغة المسرحيّة الموحدّة في الآداب الأوروبيّة. وثانيهما، وهو الأهمّ: التقريب بين طبقات الشعب الواحد وبين شعوب اللغة العربيّة، لتوحيد أداة التفاهم على قدر الإمكان دون المساس بضرورات الفنّ.
يبقى الكتاب- برغم ملاحظاتي المخلصة والطفيفة – إضافة هامّة إلى مكتبتنا المحليّة وتراثنا العربي، فما أعظم هذا الجهد في أجواء محاولات الطمس والتنكّر، ولن نغمطَه حتّى لو كانت هناك بعض الهنات، فالكتاب الجيّد هو الذي يُحاسب ويراقبِ ويعاتِب.
أجرى إدوار البستاني في هذه المناسبة، مقابلة مع الشاعر، نُشرت في مجلة “الأسبوع العربي” في نهاية الأسبوع الأول تشرين الثاني-نوفمبر 1967، ونقل بأمانة آراءه وأقواله، وانتقدها بلطف، كاشفا ضعف أسانيدها. قال سعيد عقل إنّه أنشأ “دار أجمل الكتب” لنقل أهم الآثار العالميّة إلى اللغة اللبنانيّة في كتب تُطبَع بالحرف الجديد، ورفض بشدّة المقولة التي ترى بأنّ اللغة التي ينادي بها ما هي إلا اللهجة اللبنانيّة، وأكّد بأنّه يكره “الكلام العادي”، وأنّه يعبّر تعبيرا خفيّا عن أبسط الكلام المحكي، حتّى لو كان هذا الكلام يعني “شراء كيلو البندورة من السوق”. واصل سعيد عقل حديثه، وقال إنّه ينادي بِـ”لغة تصلح للتعبير عن شؤون العقل والفنّ” بالدرجة الأولى، ورأى مُحاورُه إدوار البستاني أنّ هذه اللغة قد تُنــتِج مع الزمن فصلا حضاريا وأدبيّا بين لبنان والعالم العربي، فانتفض الشاعر، واعتبر أنّ هذا المنطق هو منطق أصنام، وقال إنّ اللغة التي ينادي بها هي “ثورة جريئة على الأصنام”، وأنّ هذه الثورة تحمل أربع ثورات، فهي ثورة إحياء الأدب اللبناني، وثورة استيعاب الأدب العالمي، وثورة الحرف الجديد، وثورة اللغة اللبنانيّة.
ردّد سعيد عقل ما كتبه في “لبنان إن حكى”، وقال بأنّه يعتزم نشر الأدب اللبناني والفكر اللبناني القديم الممتدّ على مرّ العصور، ومنذ ثلاثة آلاف سنة، وذكر أعمدة هذا الفكر، وهم خمسة أدمغة من لبنان: المجهول الجبيلي الذي اخترع الحرف، موخوس الصيدوني أبو الذرة، طاليس الفينيقي، فيتاغوروس الصيدوني، وإقليدس أبو الهندسة. ردّ إدوار البستاني عليه، فقال: بأنّ هؤلاء “تعهدهم الحضارة اليونانيّة وعلاقتهم بفينيقيا مشكوك فيها”، فانتفض سعيد عقل، واعتبر أنّ هذا الرأي ما هو إلا “هرطقة”، وتابع حديثه عن ثورة اللغة وثورة الحرف، وقال إنّ الحرف اللاتيني يعود إلى جبيل، “ونحن اليوم نستعيده بعد تطويره وجعله عمليّاً”، وقال في دفاعه عن “اللغة اللبنانيّة” إنها تستند إلى اللغة المحكيّة، أيّ اللغة الحيّة، وأضاف موضحا: “عندما تغادر اللغة الفم تصبح حالا جثّة في عقلنا، وصار واجبا علينا أن نلقيها ونحلّ محلّها لغةُ الفمِ”. شكّك إدوار البستاني في هذا الكلام، وقال بأنّ العالم والمؤرّخ البريطاني أرنولد جوزيف تويـنبي Arnold Joseph Toynbee ينكر أن تكون الأبجديّة الأوروبيّة من أصل فينيقي، وأنّ اللغة الفصحى لم تفقد حياتها، ولم تفارق التعبير الفنّي والفكري، كما أّنها “لم تفارق اللسان في الخطابة والإذاعة والمناقشات الفكريّة والمداولات العلميّة والمؤتمرات والسياسة، فضلا عن المجالات الكتابيّة التي لا تُحصر ولا تُحصى”. فاكتفى سعيد عقل بالقول بأنّ “القضيّة أدقّ ممّا يحوكه رأس توينبي Arnold Joseph Toynbee “، وواصل دفاعه عن لغته الجديدة، وذكّر بالشاعر دانتي الذي ترك اللغة اللاتينية ليكتب اللغة التوسكانيّة، واستشهد بديكارت الذي كتب باللغة الفرنسيّة، ثمّ عرج إلى الاتحاد السوفياتي، وقال إنّ ستالين اعتمد كلّ اللغات المحكّية، وعددها 116 لغة. وردّ إدوار البستاني من جديد على هذه الحُجَج، ورأى أنّ وضع اللغة العربيّة مختلف عن وضع اللغة اللاتينيّة المجهولة من العامّة بشكل كليّ، فأيّ سائق تاكسي يفهم لغة الإذاعة، واستشهد بقصيدة سعيد عقل عن فلسطين “التي أضحت أثناء الحوادث على كلّ شفةٍ ولسان، وهي باللغة الفصحى، بل بأشدّ ما تكون الفصحى من قوّة السبك والتركيب”، وهذه القصيدة هي “أجراس العودة” التي لحّنها الأخوان رحباني وغنّـتها فيروز. كذلك، توقّف البستاني أمام الكلام عن قرار ستالين باعتماد كلّ اللغات المحكيّة في الاتحاد السوفياتي، وأكّد بأّن هذه اللغات هي في الواقع “لغات شعوب مختلفة لا علاقة لها بلغة واحدة جامعة”، على عكس اللهجات المحليّة في العالم العربي التي تنتسَب كلّها إلى العربية الفصحى. واصل سعيد عقل دفاعه المستميت عن لغته الجديدة، وقال بأنّ حروف العربيّة لا تقبل بعض الحروف، كما أنّها لا تقبل الابتداء بالحرف الساكن، لا تقبل التقاء الساكنين، ولهذا “تظلّ الكلمات الأجنبيّة عاجزة عن دخول العربية إلا بتحريف يشوهّها”، فذكّره البستاني بأنّ اللغة العربيّة قبلت في الماضي العديد من هذه الكلمات عن طريق التعريب ولا تزال تقبلها اليوم، وكرّر سؤاله في الختام: “ألا يؤدّي اعتماد العاميّة اللبنانيّة في لبنان إلى القَطع بين لبنان والعالم العربي فكريّا وحضاريا؟”، فردّ الشاعر بطريقته المعهودة: “ليس ما يمنع أن تنتشر اللغة اللبنانيّة في أقطار العرب وتمتدّ عليها، أو أن تتعايش معها بشكل طبيعي”، ورأى “أنّ العرب لو اعتمدوا اللغات المحكية لما حصلت نكسة الخامس من حزيران”، لم يمرّ هذا الحديث مرور الكرام. في نهاية كانون الثاني-يناير 1968، نشرت “الأسبوع العربي” ردّاً مطوّلاً من توقيع سبع بولس حميدان، فاحتلّ سبع صفحات كاملة من المجلة، وغلبت على هذا الردّ لغة الحزب السوري القومي الاجتماعي العقائدية. هاجم الكاتب دعوى سعيد عقل، “مفنّدا الغرض من وراء هذه الدعوة من جهة، واستحالة تطبيقها من جهة أخرى”، فقال: “سعيد عقل، الشاعر العبقري الذي كان، هو أمّي في تاريخ بلاده، أمّي في علم النواميس الاجتماعيّة، تلك التي ترفض، وتفرض رفضها، أن تبقى الحياة الاجتماعيّة ممسوخة في تجزئتها المفتعلة، والمنتقلة اليها من عصور الانحطاط”. وأضاف: “لن يمسيَ لبنان صورة مشابهة لإسرائيل، لا لن تمسخوا لبنانَ، لا من سبقك ولا من يرافقك، هذا المسخ الحقير المعيب”. وفي 18 آذار/مارس، عادت المجلّة ونشرت سلسلة من الردود في تحقيق بعنوان “خاتمة المطاف في بدعة سعيد عقل”، وأظهرت من خلال هذا التحقيق أنّ دعوة سعيد عقل لم تكن جديدة، بل هي استعادة لمحاولات فاشلة سبقتها، وأقدمها يعود إلى مطلع القرن العشرين.
في العام 1902، نشر قاضي محكمة الاستئناف الأهلية في مصر، المستر ولمور، كتاب “العربية المحكية في مصر”، وفيه ضبط لغة القاهرة المحكيّة، وأشار بكتابتها باللغة اللاتينيّة بعدما أضاف إليها علامات تدلّ إلى الحروف العربيّة التي لا مثيل لها في اللاتينيّة، فواجهت مجلّة “الـمُقْتَطَف” هذه الدعوة، وكان أسعد خليل داغر أبرز الرافضين لها. وفي العام 1924، دعا الكاهن اللبناني مارون غصن، إلى استعمال العاميّة، وذلك بعدما خدم العربية الفصحى بين تعليم وتأليف وخطابة نظما وشعرا ما ينيف على ثلاثين سنة، فتصدّى له الأب لويس شيخو على صفحات مجلّة “المشرق”، كما تصدّت لها صحف عديدة، منها “الإقبال”، “الأحوال”، و”صدى الأحوال”. رأى عبد الله البستاني أنّ هذه “بدعة يصعب الأخذ بها”، وقال: “لسنا أفضل ممن تقدّمنا من العرب، فقد دخلت على العربيّة في أيّام خلفاء بني أميّة وبني العباس، ألفاظ غريبة عن اللغة، ما لبثت أن أغنتها وأصبحت جزءاً منها”. في الردّ على سعيد عقل، رأى الشيخ نسيب الخازن أنّ “الفصحى لغة وارثة تطوّرت طبيعيّا من السامية، وبرزت أحسن بروز في القرآن”. ودعا فؤاد طَرزي، أستاذ اللغة العربية في الجامعة الأميركيّة في بيروت، “إلى إحلال الفصحى محلّ العاميّة بعد تبسيطها”. من جهته، اعتبر الشيخ صبحي الصالح، أستاذ فقه اللغة العربيّة في الجامعة اللبنانيّة، أنّ اللبنانيّة المحكيّة هي لهجة وليست لغة، “والذاهب إلى أنّ اللهجة العاميّة قد تحلّ محلّ الفصحى في هذه الشؤون بعيد من الصواب، وأبعد منه من الصواب، وأشد منه جهلاً، من توهّم أنّ العاميّة أفضل من الفصحى تعبيراً، وأدقّ منها تصويراً”. وقال الشاعر بولس سلامة: “لا أرى عن الفصحى بديلا”. وفي السياق نفسه، قال منصور أبي صالح: “لا أقـرُّ سعيدَ عقل على ما يسميّه اللغة اللبنانيّة”. واعتبر روبير أبيلا “أنّ المنطلقات التي اعتمدها سعيد عقل ومَن سبقه كانت مقتبسة عن منطلقات أوروبيّة لا تتلاءم ووضع البلاد العربيّة”، ورأى أنّنا “نسير نحو عربيّة متطوّرة مشتركة بين الفصحى والعامية”. كذلك، توقّع المستشرق الألماني فان إس “انبثاق لغة ليست بالمتقعقرة ولا بالعاميّة المبتذلة”، ودافع عن الحرف العربي، وقال: “من الخطأ الفادح أن يعمد العرب إلى التخلّي عن حرفهم العربي الذي تكمن فيه قيم جماليّة متحدّرة عن تراث روحي عريق”. وحده أنيس فريحة أيّد سعيد عقل في دعوته، وقال إنّ نجاحها سيتحقّق حين يكون لها أدب، بعد ضبط أحكامها الصرفيّة والنحويّة والصوتيّة.
في مطلع العام 1965، كتب سعيد عقل في “ملحق النهار” نصاً عبّر فيه عن تصوّره لواقع الحال في “لبنان والعالم بعد عشرين سنة”، وقال: “ستعمّ اللغة اللبنانيّة مكتوبة بالحرف اللاتيني”، و”سيشتدّ الصراع على احتلال الجزيرة العربيّة وليبيا، وربما العراق، بين اللغتَين اللبنانيّة والمصريّة بعد أن تكون قد كُتبتا كلتاهما بالحرف اللاتيني”، “سيحاول اللبنانيون جعل لغتهم تُدرّس في العالم جنب اللغتين الروسيّة والإنكليزيّة”، و”ستكون الروسيّة أولى اللغات العالميّة في لبنان. أما المرتبة الثانية فتكون للإنكليزية، تنافسها الألمانيّة أو اليابانيّة لأنّ الفرنسيّة لن يعود لها أثر”. لم تتحقّق هذه التنبؤات. على العكس، غرقت دعوة سعيد عقل في مستنقع الحرب الأهلية اللبنانية، وعندما رحل الشاعر في خريف 2014، لم يذكرها أحد.
في حديث نُشر في مجلّة “الأحد” في خريف 1965، امتدح نزار قباني سعيد عقل، وقال إنّه “فلتة جمال”، وأنّ “رندَلى تعيش في وجدان مائة مليون عربي”. واستعاد قصيدة “سائليني” التي نظمها سعيد عقل في دمشق وفي الأمويّين، ورأى أنّ ما فيها “من عروبة اللسان وعروبة الشاعر” جعل من صاحبها “شاعر القومية العربية من الخليج إلى المحيط”، وأضاف متحسّراً: “آه لو أنه لا يخاف تهمة شاعر القوميّة العربيّة”. في السبعينات، ردّد سعيد عقل قوله: “لستُ عربيا، لكن يسعدني أن أكون عربيا في بعض تراكيبي الشعرية الرائعة”. وبعد وفاته، تذكر الكلّ هذه التراكيب “الشعرية الرائعة” التي صنعت مجده، ورثوا “خاتم الكلاسيكيّين” الذي لم يتخلّ أبداً عن جماليات البيان والبديع.
وقال أحد الحاضرين: إنّ هذه اللغة الثالثة التي اخترعها أو أراد اختراعها الأستاذ توفيق الحكيم لن تستطيع الحياة أكثر ممّا استطاعت الإسبرانتو، وهي تلك اللغة التي اخترعها بعض العلماء في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ووضعوا لها قاموسًا ضخمًا، وأرادوا أن تصبح لغة دوليّة يستعملها العالم كلّه كوسيلة للتقريب بين الشعوب، وعلى أمل أن يكون هذا التقريب عاملًا من عوامل السلام الأبدي وعدم العودة إلى الحروب مرة أخرى.
وإذا كان بعض الأفراد هنا وهناك قد حاولوا أن يتعلّموا تلك اللغة، فإنّ هذه المحاولات ظلّت محدودة، وانتهى الأمر بأن ماتت الإسبرانتو داخل معجمها الضخم.
وأضاف أديب ثانٍ أنّ اللغة لا تُخترع وإنما تنشأ نشأة طبيعية وفقًا لمطالب الحياة، وتتطور تبعًا لقوانين عضوية ولغوية ثابتة يعرفها علماء اللغة تمام المعرفة، وما نسمِّيه لغة عامية اليوم ليست وليدة فساد طرأ على اللغة الفصحى، بل هي تطور للغة الفصحى في أقطارها المختلفة وفقًا لقوانين صوتية ونحوية مطردة، وقد استقرأ المستشرقون هذه القوانين وسجلوها كقواعد عامة للهجات العامية التي تشكلت في كل إقليم عربي تبعًا لعوامل يمكن استجلاؤها في سهولة، ولعل هذه الخصائص المحلية أوضح ما تكون في حركات المد التي هي في الحقيقة أحرف صامتة، ثم في النبرات التي هي مواضع الارتكاز الصوتي، وقد وُضعت بالفعل كُتب لنحو كلّ من هذه اللهجات العاميّة في بلاد العرب المختلفة، فهناك نحو للهجة المصريّة، ونحو للهجة العراقيّة، ونحو للهجة المغربيّة … وهكذا.
وإذا كان علماء اللغة قد تحقّقوا من أنّ المصطلحات العلميّة ذاتها لا يمكن أن تروج وتنتشر وتدخل في معاجم اللغات الحيّة إذا اخترعتها المجامع اللغويّة، ولم تنشأ نشأة طبيعيّة نتيجة للضرورات العلميّة التي تدفع رجال كلّ علم إلى خلقها، ونادوا بأن تُقصر المجامع اللغويّة مهمّتها على تسجيل المصطلحات التي يخلقها أهل كلّ علم وفن، فكيف يمكن أن تُخترع لغة ثالثة يُكتب لها النجاح والانتشار؟!
وأضاف أديب ثالث أنّ نشأة اللغة نشأة طبيعية وفقًا لمطالب الحياة والأدب لم يجعل من اللغة وسيلة للتعبير الذهني كرموز الجبر فحسب، بل أكسب كلّ لغة ظلالًا وإيحاءات وشحنات عاطفيّة اكتسبتها من تكرار مرورها خلال النفس البشرية وتلوُّنها بألوان تلك النفس، حتى أصبحت لكلّ لغة طبيعية قدرة على الإيحاء والإثارة والتحريك لا تملكها أيّة لغة مصطنعة تُستعمل كرموز ذهنيّة أو وسائل لنقل المعنى فحسب من نفس إلى أخرى.
ولما كان الأدب لا يهدف إلى نقل المعاني فحسب، بل يتطلّعُ إلى ما خلف المعاني من ظلال وإيحاءات وشحنات عاطفيّة، فإنه لا مفرّ للأدب من أن يستعمل لغة طبيعية لديها كلّ هذه الإمكانيّات التي اكتسبتها عبر الزمن وبفضل رحلاتها المستمرة المتجدّدة خلال النفس البشريّة.
هذا هو مجمل الاعتراضات التي أثارها أو يمكن أن يثيرها زملاؤنا الأدباء والأساتذة ضدّ هذه المحاولة التي قام بها توفيق الحكيم في مسرحية “الصفقة”
ولكنّنا نلاحظ أنّ كلّ هذه الاعتراضات إنما تنهض فيما لو كانت لدينا لغة عربيّة موحّدة أراد توفيق الحكيم أن يهجرها إلى لغة جديدة يخترعها اختراعًا، ونحن في الواقع لا نمتلك مثل هذه اللغة الحيّة المفهومة من الجميع، فلغتنا الفصحى قد نشأت وتجمّدت في عصر وبيئة يخالفان عصرنا وبيئتنا، ولأسباب شتّى لم تتطوّر تلك اللغة، ولم يتّسع صدرها لكثير من مطالب الحياة العصريّة ولبعض فنون الأدب التي أخذناها عن الغرب، كفنّ الأدب المسرحي الذي لا بدّ فيه من لغة سهلة قريبة المنال وثيقة الصلة بواقع حياتنا الشعبيّة، فإذا كانت لدينا عدّة لهجات عاميّة في أقطار العرب المختلفة، فإنّ استعمال هذه اللهجات في أدب كالأدب المسرحي أو القصصي كفيل بأن يوسّع الهوّة بين شعوبنا العربيّة، في الوقت الذي ننادي فيه بتوحيد هذه الشعوب كضرورة حيويّة، وندعو فيه إلى القومّية التي تُعتبر اللغة الموحّدة أهمّ مظاهرها.
هذا الوضع اللغوي الشاذ في مواجهة الضرورة هو الذي دعا الأستاذ توفيق الحكيم إلى محاولة الكتابة بهذه اللغة الثالثة، ونحن نقول ثالثة تجوزًا لأنها في الواقع ليست غريبة عن اللغة العربية الفصحى غرابة تستحق معها أن تُسمَّى “إسبرانتو عربي”، وإنما في حقيقتها لغة عربيّة تكاد تكون فصحى بمفرداتها ووسائل تعبيرها ورسم أصواتها، على أن يكون هذا الرسم مجرّد رمز يمكن لأصحاب كلّ لهجة أن ينطقوا به وفقًا للتطوّر الصوتي الذي حدث في اللهجة، وإذا كان توفيق الحكيم قد عدل عن استخدام أداة النفي المطردة في لهجتنا المصرية — وهي الشين أو مش — ليستخدم أدوات النفي الفصحى، فإنّ هذا الاستخدام إذا كان قد أحدث بعض القلقلة فإنه من الواجب اغتفار هذه القلقلة في سبيل الأهداف الكبيرة الأخرى التي تسعى إليها هذه المحاولة.
والمحاولة بعد ذلك تُعتبر محاولة حيّة، لا بفضل المفردات أو وسائل التعبير فحسب، بل بفضل الاتجاه النفسي الذي نحسّه فيها، فهو اتّجاه الشعب في تفكيره ومعتقداته، وبذلك استطاع أن ينقذ ما يجب أن تملكه لغة فنّ شعبي كالمسرح من ظلال وإيحاءات وشحنات عاطفيّة أو أحاسيس عقليّة. ولنقتبس من حوار هذه المسرحيّة الفريدة فقرة قصيرة نتبين فيها خصائص هذه اللغة، ولتكن هذه الفقرة جزءًا من الحوار الذي يدور بين بعض الفلاحين من جهة والبيك ووكيله من جهة أخرى، حول تنازل البيك عن مزاحمة الفلاحين في شراء الأرض التي ستبيعها الشركة البلجيكيّة:
سعداوي: البيك قبل؟!
الوكيل: قبل لأجل خاطركم، ولو أنّ فيها تضحية كبيرة! لكن سعادته تفضَّل وتكرَّم وتعطَّف وقبل يضحي بمصالحه ويترك لكم كل الصفقة.
عوضين (في ارتياب) كلام جدّ النوبَة؟!
الوكيل: كلام نهائي.
سعداوي: على الله ما يكون بعدها رجوع!
البيك: كلام شرف يا سعداوي!
سعداوي: ونعم بكلامك يا سعادة البيك! لكن …
البيك: قلت لك كلمتنا واحدة!
عوضين: نقرأ الفاتحة؟!
البيك: وهو كذلك، نقرأ الفاتحة.
وواضح من هذا الحوار أنّ مفرداته كلّها عربية فصيحة، وأنّ الجمل قد رُكبت تركيبًا عربيًّا مستقيمًا في جملته، وإن تكن بعض الألفاظ قد استُخدمت بمعناها الشعبي مثل كلمة «نوبة» بمعنى مرّة، وهو تطوّر أو انتقال لغوي سهل الإدراك. كما أنّ الكاتب قد استعاض بالتنغيم الصوتي عن مأزق استخدام أداة الإشارة الفصيحة «هذه» التي توضع قبل الاسم في الفصحى، وأداة الإشارة العامية «دي» التي توضع بعد الاسم في لهجتنا المصريّة، فلم يقُل: «هذه النوبة» و«النوبة دي». كما أنه استغنى عن «الشين» التي تُستخدم في لهجتنا العامية كمقطع مكمل للنفي، ومع ذلك استقام له النفي بأداته الفصيحة في عبارة: «على الله ما يكون بعدها رجوع.» وإن كنا نلاحظ أنّ هذه «الشين» قد أخذت تسقط أحيانًا في بعض عباراتنا الشعبيّة المنفية، حتى ليمكن القول بأنّ عبارة: «على الله ما يكون بعدها رجوع» قد أصبحت الآن من التعبيرات العاميّة الدارجة، نتيجة لتطوّر عكسي ملحوظ نحو العودة إلى الفصحى نتيجة لانتشار التعليم. وفي كلّ هذا ما يدلّ على أن توفيق الحكيم لم يحاول خلق «إسبرانتو» عربي، بل سار في اتجاه التصوّر العكسي المذكور، محاولًا التقريب بين الفصحى والعاميّة على نحو تتحقّق معه ميزة اللغتَين، وهي محاولة تستحقّ التجربة بل التشجيع؛ لأنّ نجاحها قد يحلّ مشكلة عويصة في فنّ كبير كفنّ المسرح الذي لا يزال يجاهد في سبيل التغلّب على العقبات التي تقف في سبيله، وفي مقدّمتها عقبة اللغة والتأرجح بين قطبيها، وبخاصة إذا ذكرنا أنّ محاولة توفيق الحكيم لم تحرم لغته الثالثة من إمكانياتها الفنية المختلفة، فهي تجمع إلى القدرة على التعبير والإيحاء ذلك القرب الواجب من الشعب وعقليّته، فضلًا عن ذلك التعبير الشعبي الذي يُكسبها نكهة خاصّة أليفة.
وفي اعتقادي أنّ هذه المحاولة لن تفشل وأنها خليقة بأن تصيب النجاح عند جميع الطبقات بمستوياتها الثقافيّة واللغوية المتباينة، وعلى أيّة حال فالتجربة هي خير وسيلة للمعرفة الأكيدة والحكم الصحيح.