ا. د. قسطندي شوملي: عن كتاب: صياد.. سمكه وصنّارة للمحامي فؤاد نقّارة.

 

  يشكّل البحر في عكا، واحدًا من أغنى البحار، بالتنوع البيولوجي في العالم. وقد كانت سواحله عبر التاريخ مهدًا للحضارات والتجارة والتفاعل بين الشعوب، وتحتل مدينة عكا مكانة مميزة، ليس فقط لما لهما من إرث ثقافي وتاريخي، بل أيضًا لما تزخر به مياهها من حياة بحرية غنية ومتنوعة، وعلى رأسها أنواع السمك التي يذكرها المؤلف في هذا الكتاب. يأتي هذه الكتاب ليوثّق ويعرّف القارئ على أنواع السمك في البحر المتوسط، مع تركيز خاص على المنطقة البحرية الممتدة بين عكا وحيفا، تلك المنطقة التي تمتزج فيها التيارات البحرية والمناخية، لتشكّل بيئة خصبة لمختلف الكائنات البحرية. كما يهدف هذا الكتاب إلى استكشاف عالم الأسماك البحرية، من خلال تقديم معلومات شاملة عن أنواعها المختلفة، خصائصها، بيئاتها، وسلوكها، مما يسلط الضوء على جمال وتنوع الحياة البحرية   كما يعرض  معلومات دقيقة ومبسطة حول أبرز الأنواع من الأسماك التجارية التي يعتمد عليها الصيادون المحليون، إلى الأنواع النادرة أو المهددة بالانقراض.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور الحيوي الذي لعبه الصيادون المحليون، أمثال الأستاذ فؤاد نقارة، في الحفاظ على المعرفة التقليدية حول السمك، وأساليب صيدها. فقد تناقلت الأجيال في عكا  قصصًا وأمثالًا وحكمًا عن البحر والسمك، شكّلت جزءًا من الموروث الشعبي البحري، وعكست العلاقة العميقة بين الإنسان والبحر. يا تُرى كم قصةً وحكايةً عرفها الصياد عن بحر عكا؟ ذلك البحر الذي لا يُكلُّ من حكاياته، والذي يُخبئ في أعماقه عالماً عجيباً من الكائنات، التي تروي تاريخاً طويلاً من اللقاء بين الإنسان والماء.

 كان السندباد البحري الأول صاحب الرحلات السبع  من أشهر شخصيات عالم  البحار. ونلتقي اليوم  بالسندباد الثاني مؤلف كتاب “صياد.. سمكة وصنارة”، الذي يقدم لنا سبعَ رحلات صيد في بحر عكا.

يحتوي الجزء الأول من هذا الكتاب سبع رحلات صيد  إلى  عالم البحار الساحر، حيث كل رحلة صيد لها قصتها، وكل موجةٍ تحمل سرّاً. البحر يُعلّم، والسمك يُحكّي، ومؤلف هذا الكتاب يسجّل.

تحمل هذه القصص عناوينَ مختلفة: صراع على سمكة، صياد يحرج نفسه، رحلة صيد، درس في احترام البحر، درس في الغرور، مغامرة صيد، صيد الأوهام وخيط الإيمان. وترتبط هذه القصص بالأخوة والتعاون، المبالغة والصدق، العدالة والكرم، احترام قوى الطبيعة، مخاطر الإهمال والغرور، الجهل والإيمان.  هذه القصص هي رحلات صيد استكشافيةٌ، حيث يصبح القارئ ليس صياداً بين الشعاب المرجانية، وإنما يصبح غواصا لأعماق النفس الإنسانية في مياه عكا الدافئة. ومن خلال رحلات الصيد هذه  والقصص المرتبطة بها، فتح لنا المؤلف نافذة على عالمه الساحر، لكي نتمكن من فهمه. وهي قصص تعبّر عن حكمة الصيادين وخبرتهم الطويلة في التعامل مع تقلبات البحر ومفاجآته. إن البحر لا يكشف أسراره بسهولة، ولكنه يبوح بها لمن يصبر، ويصغي.

ولم يُلهم البحر جميع الصيادين أو الأدباء بنفس الطريقة، إذ أن لكل بحر آدابه وفقاً لطبيعة المكان وخصوصياته؛ ففي ملحمتي الإلياذة والأوذيسة حيث درات رحى حرب طروادة، كان البحر شرساً لا يرحم، كما كان غاضباً بشدة، وبالنسبة للفينيقيين كان البحر مراسي آمنة. أما الرومان فقد جسد لهم البحر مساحة سيطرة من أجل احتلال أراضي الأمم الأخرى، وعلى العكس فالتهجير الذي لحق بسكان الأندلس خلق لهم مساحة رحبة من الأدب ارتكزت جميعها على البحر المتوسط، لأنه كان وسيلة الترحيل، وفي أوروبا كان البحر يمثل المجهول والدهشة كما كان دوماً يثير الرغبة في اكتشافه وركوب أمواجه العتية. أما رحلات الصيد في صياد.. سمكة وصنارة، فقد جعل المؤلف منها، ميداناً للحكمة والعبرة، وجعل من الصيد مدرسةً للأخلاق والصبر.

إن قصص الصيد ليست مجرَّد سردٍ لقصص ومغامراتٍ، بل هي مرايا تعكس نفوسنا، ومواقف تختبر صبرنا، وأسئلة تُذكِّرنا بحكمة الخالق في تدبير أرزاق خلقه. في هذا الكتاب، “صيَّاد سمكة وصنَّارة”، تجتمع حكاياتٌ ترويها الخُطُوات البطيئة على الشاطئ، وهمسات الموج، وشدَّة الصنَّارة بين الأصابع، لتحمل بين سطورها دروساً في المروءة والصبر والرحمة، وحتى الخسارة التي تُعلِّمنا التواضع.  كل قصة هنا هي شبكةٌ مفتوحةٌ على بحرٍ من العِبر: فالصيَّاد الذي يترُك السمكة الصغيرة رحمةً بها، يتذكَّر أن الكرم ليس مع البشر فحسب. والذي يفقد غنيمته بعد كدحٍ طويلٍ، يعيد حسابَهُ مع القناعة. وحتى السمكة التي تفلتُ من شصٍّ حادٍ، تُذكِّرنا بأن الحياة هبةٌ لا تُستهانُ بها.  هذه القصص، بقدر ما هي مشبعةٌ برائحة البحر، هي أيضاً غوصٌ في أعماق النفس الإنسانية. فلعلَّ قارئها أن يجد فيها متعةَ السرد، وحلاوةَ العظة، وصفاءَ التأمل. وكما يقول الحكماء: “خير الكلام ما قلَّ ودلَّ، وخير الصيد ما اصطاد القلب قبل الصنَّارة”.

   تحاكي قصة “صيد الأوهام وخيط الإيمان” في الكتاب رواية “ العجوز والبحر” للأديب الأمريكي إرنست همنغواي والتي تدور أحداثها حول الصياد العجوز سانتياغو الذي كان يرابض كل يوم في مركبه ساعياً إلى الصيد، ولكنه كان يعود خالي الوفاض مساء كل يوم، حتى اتهمته سكان القرية بأنه صياد نحس إذ كان قد مر أربعة وثمانون يوماً دون أن يمسك الصياد سمكة واحدة. وكانت كل تجاربه فاشلة. وكان البحر يرفض أن يكشف له عن كنوزه. كما تتماهى هذه القصة مع رمزية رواية همنغواي،  في عدم استسلام الصياد في قصة “صيد الأوهام” هذا الصياد العجوز لصعوبات الصيد، حيث لم يردعه الفشل ولم تنهكه محاولاته المستمرة، فقد قرر الذهاب إلى الكنيسة الأرثوذكسية ليصلي إلى الله ويدعوه إلى التجربة من جديد كما نصحه مؤلف هذه القصة فؤاد نقارة.

وقد  أدرك الشاب الصياد أن الغرور والمكابرة لا طائل منهما أما قوى الطبيعة العاتية في قصة “درس في الغرور”. وتتماهى  هذه القصة مع رواية “موبي ديك” لهرمان ملفيل  في محاولة استكشافها للنفس البشرية وصراعاتها التي لا تنتهي، فشخصيات الرواية مثل الشاب المغرور الذي اصطحبه المؤلف، خاضت صراعاً قوياً مع الطبيعة، متجسدة في أمواج البحار العاتية كما خاضت صراعاً مع ذاتها.

 كما تحاكي رواية “الشراع والعاصفة” للأديب السوري حنا مينا قصة “مغامرة خطرة” ودرس في احترام البحر. فرواية “الشراع والعاصفة” تقول: إن البحر ملك ويجب احترامه. وتدور أحداث هذه الرواية “في مدينة اللاذقية السورية المطلة على البحر المتوسط، ليس بعيدا عن مدينة عكا. وعلى غرار شخصية صديق المؤلف في قصة “مغامرة خطرة” الذي أصر على رغبته في الإبحار رغم البحر الهائج. فإن قصة الشراع والعاصفة، لا تهدف إلى مصارعة الطبيعة والانتصار على البحر، ولكنها تعلمنا احترام قوى الطبيعة وضرورة التحلي بالحكمة والشجاعة في مواجهة المخاطر. تحكي هذه الرواية  عن تفاصيل حياة البحر والمخاطر التي تحدق بكل من تسول له نفسه ولوجه، كما تحكي لنا قصة “مغامرة خطرة”  أن البحر ملك ويجب على الصيادين احترامه وليس مصارعته، ففي خضم هذا الملكوت البحري العظيم، تجد هذا الإنسان المغتر بقوته وبحيلته يستحيل إلى ذرة من الهباء لا تكاد تذكر. “عندما هبت العاصفة تغير لون وجه الشاب المغرور، وبدأ يرتجف من شدة البرد، حاول التماس الدفء في المقصورة، لكنه لم يستطع مقاومة دوار البحر، تقيأ مرارا وتكررا حتى أصيب بوهن شديد. في تلك اللحظة، أدرك الشاب غروره، وراح يتوسل إلى الصياد فؤاد نقارة قائلا: أبوس إديك أخرجني من هذا البحر”.

.  هذا الكتاب هو إجلالٌ لتراث بحر عكا، وهو أيضاً دعوةٌ لمعرفته وحمايته. لأن البحر ليس مجرد ماءٍ وسمك، بل هو ذاكرةُ المدينة وروحها. اقلب صفحات الكتاب، وادخل إلى عالمٍ قد تعرفه بالاسم، لكنك ستكتشفه هنا بالتفاصيل والألوان… عالمٌ يستحق أن يُروى!

لقد لعبت رحلات الصيد دورًا بارزًا في الحضارات البشرية عبر التاريخ، إذ أسهم صيد الأسماك في اقتصاد المجتمعات الساحلية، وأثرت رحلات الصيد في الثقافات، بل وأصبحت رموزًا في الآداب والفنون. كان البحر منذ قديم الزمان منبعا رئيساً لانتشار الحكايات الشعبية، فمن وحي خياله تم نسج الأساطير، ومن أعماق مائه ابتُكرت حورية البحر، وصُبت فيها جميع معاني الجمال والجاذبية،

وتتواصل العلاقة بين البشر وعالم الأسماك بشكل مستمر. لكن التهديدات مثل الصيد الجائر، التلوث، وتغير المناخ، تُعرض النظم البيئية البحرية للخطر، مما يجعل فهم تنوع الأسماك أمرًا أكثر أهمية من أي وقت مضى وتذكيرٌ لنا بأهمية الحفاظ على هذا الإرث الطبيعي.

البحر ذلك المخلوق العجيب من مخلوقات الخالق سبحانه وتعالى، المليء بالأسرار، بداية من لونه الجميل الذي يظهر لنا أحيانًا بالأزرق، وأحيانًا بالأخضر، رغم أنه ماء، ولا يختلف عن لونه الشفاف،   وانتهاء بما في جوفه من أسرار ولؤلؤ ومحار، وشعب مرجانية، وكائنات حية متنوعة ومختلفة قد أبدع الخالق فيها كما أبدع في كل شيء سبحانه. ويأتي  هذا الكتاب لكي يكشف لنا عن هذه الكائنات الحية المتنوعة التي أبدع الخالق فيها، ليس كدليل علمي فحسب، بل هو إجلالٌ لجمال الطبيعة. نأمل أن يكون مرجعاً للباحثين، وهواة الغوص، والمهتمين ببيئة البحر، وأن يفتح نافذةً جديدةً لرؤية بحر عكا بعينٍ أكثر إدراكاً وتقديراً. وقد استند المؤلف هذا الكتاب إلى مصادر علمية، وشهادات حية من الصيادين القدامى إلى جانب خبرات باحثين في علوم البحار، ليقدم محتوى يجمع بين الدقة العلمية والبعد الإنساني الثقافي، مدعومًا بالصور .

       كما نأمل أن يسهم هذا الكتاب في تعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على الحياة البحرية في سواحل عكا، في ظل التحديات البيئية المتزايدة كالصيد الجائر والتلوث وتغير المناخ. يقول المؤلف: ” يلاحظ سكان مدننا الساحلية اختفاء مقلقا للأسماك من شواطئهم، مما يهدد مصدر رزق العديد من الصيادين ويثير قلق محبي المأكولات البحرية”، ويشير إلى الأسباب المتعددة لهذه الظاهرة، ويقترح حلولا من خلال خطوات مشتركة على جميع المستويات.

هذا الكتاب، تقول صباح بشير التي ساعدت في تحريره، يدعوك إلى رحلة جديدة لاكتشاف عالم سحري مليء بالأسرار والعجائب، والمعرفة والجمال والإلهام، وكائنات غريبة بألوانها وأشكالها، وأسراب من الأسماك الملونة، تلك التي تسبح برشاقة بين الشعاب المتلألئة، وتتحرك بحرية وانسيابية، كأنها ترقص على أنغام موسيقى خفيّة.

 وكانت الطوابع البريدية في هذا الكتاب مدخلا آخر إلى عالم البحار، يقول المؤلف: ” الحقيقة أني رأت في الطوابع مرآة تعكس جمال البحر أسراره، فكل طابع يحكي قصة، كما تحمل كل سمكة في طياتها تاريخا وحكاية، ولعل هذا هو السبب الذي دفعني إلى جمع هذين الشغفين في مكان واحد”.  حيث وضع مجموعة منتقاة من طوابع الأسماك والأصداف والأحياء البحرية من الدول العربية جمعها عبر السنين. وقد تنوعت مصادر الصور في هذه الطوابع  بين البحر الأبيض المتوسط وبحار المرجان مثل البحر الأحمر والخليج العربي وحتى أسماك الأنهار والبحيرات.

      تُضفي الصور الملوّنة للأسماك البحرية في هذا الكتاب جمالًا بصريًا رائعًا، يجعل تصفّح الكتاب تجربة ممتعة بحد ذاتها. تتميّز هذه الصور بوضوحها العالي وتفاصيلها الدقيقة التي تُبرز جمال الأسماك وتنوع ألوانها وأشكالها. كما أن تصوير الصيادين في لحظات العمل يُضفي بُعدًا إنسانيًا وحيويًا على المحتوى، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يرافقهم في رحلاتهم البحرية. تلعب هذه الصور دورًا تعليميًا مهمًا، فهي تُساعد القارئ على التعرّف البصري على الأنواع المختلفة وتفريقها بسهولة. كما توضح البيئة الطبيعية التي تعيش فيها الأسماك، مما يُعزّز الفهم البيئي لدى القارئ. الصور تكمّل الشرح المكتوب وتجعله أكثر جذبًا وفهمًا، خصوصًا للطلاب والباحثين. ومن خلال الألوان الزاهية والصور المتنوعة، تتحول الصفحات إلى لوحات فنية. هذه الصور لا تخدم فقط التوضيح العلمي، بل تُثير الإعجاب والانبهار بجمال الحياة البحرية. إنّها عنصر حيوي يرفع من قيمة الكتاب المعرفية والجمالية في آنٍ واحد.

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافِذَتي تُطلُّ على مجموعةٍ قصصيَّةٍ “عند منتصف الليل”

د. خالد تركي  نافِذَتي تُطلُّ على مجموعةٍ قصصيَّةٍ “عند منتصف الليل” “عِندَ منتصَفِ الليلِ” هي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *