الحبّ المفقود والحبّ المُستَعاد في رواية “فرصة ثانية” للكاتبة صباح بشير
بقلم: الدكتور منير توما
أبدأ تعليقي هذا على رواية “فرصة ثانية” للكاتبة الأستاذة صباح بشير بقولي هنيئًا للحبّ المفقود الّذي عاد في الرواية إلى مصطفى نحو هدى، وإلى إبراهيم تجاه “نهاية”، وتَمّ تدارُك ما كان سيحدث من طلاق بين عبد الله ولبنى الذي يمكن القول عن علاقتهما الزوجية أنها كانت حُبًّا زائفًا، فالحب بينهما كان من طرفٍ واحد هو الزوج عبد الله الذي لم تبادله زوجته لبنى أيّة مشاعر عاطفية إلى أن حدثت في ختام الرواية النهاية السعيدة التي تصلح بها الرواية أن تكون فيلمًا عربيًا نسعد بمشاهدتِهِ لو تمَّ انتاج الرواية واخراجها سينمائيًا، فما أجمل الذي لم يحدث، وما أجمل النهايات المُفرحة في واقع الحياة الذي لا يمكن أن يُكتَب عنه إلّا عندما تُلمَس الجراح القديمة بقلمٍ دون أن يحدث الألم مرةً أُخرى.
تتلخّص رواية “فرصة ثانية” في أنّ مصطفى تاجر السيارات يفقد زوجته “فاتن” عند ولادتها لابنهما البكر “يحيى” فينتاب مصطفى الحزن الشديد لعِظَمِ حبه لها، وتتولى أخت “فاتن” “هدى”، العناية بالطفل المولود “يحيى” الذي تتعهد هدى برعايته كما لو كانت أمه بحنانها وحبها له، وبعد توالي أحداث متعدّدة في الرواية تقترح والدة مصطفى عليه أن يتزوج هدى، فيمتنع في البداية، ولكن اخيرًا يتم الزواج دون أن يكون لمصطفى أيّة مشاعر عاطفية كزوج تجاه زوجته الجديدة، ولكن يتم في النهاية الوفاق بينهما ويتعامل معها بحبٍّ بعد أن شعر بالغيرة عليها من زميلها “موسى” أثناء دراستها الجامعيّة، وانتباه زوجها مصطفى بفعل ذلك إلى جمالها وجاذبية مفاتنها ليسود الوئام والحب بينهما.
أمّا الشخصيات الأخرى في الرواية فهي ابراهيم طبيب الأسنان وصديق مصطفى الذي فشل في زواجه مرتين وأخيرًا أحب الفتاة “نهاية” التي كانت تسكن في البناية نفسها، بعد أن كان عازفًا عن زواج جديد، وبالتالي عادت إليه المشاعر العاطفية، وهجر حياة العُزلة والكآبة فتم الزواج بين “ابراهيم” و “نهاية” في نهاية المطاف.
وفيما يتعلق بشقيق مصطفى، المهندس عبد الله، فقد كان متزوجًا مِن “لبنى” التي أحبها بكل جوارحهِ، فهي في البداية اظهرت له حبًا زائفًا، ومع مرور الأيام تمردت عليه بمعاملتها له بعدم الاكتراث لمشاعرهِ واهمالها له بيتيًا وجنسيًا رافضةً أيضًا فكرة الإنجاب. وبعد أن يعتريهِ اليأس منها يعقد العزم على الطلاق منها، ولكن هدى زوجة أخيه مصطفى تقوم بالتدخُّل لإصلاح ذات البين ورأب الصدع بينهما، فتنجح في مسعاها بالتوفيق بينهما، لتنتهي الرّواية بمشهد احتفال الجميع بعيد الميلاد الثالث للطفل “يحيى” مع اخبارنا أنَّ كلًا من “هدى” و “لبنى” حوامل في اشهرٍ متقدمة من الحمل.
إذن، نحن أمام رواية ممتعة، وأمام كاتبة دقيقة، رقيقة وواسعة الأفق؛ لقد خلقت عالمًا من الحب والألم، عالمًا من الموت والحياة. لقد صنعت بوصلةً خاصة لمشاعر لافتة، وأحاسيس نادرة وأحلام رائعة.
في هذه الأحاسيس تمضي الرّواية بعمق وبالسعادة الموعودة والمؤجلة، بينما أحداث الرّواية تتواتر وتبدو غير معقّدة تجاه المطروح والمَرْوي؛ إنَّ الكاتبة الأستاذة صباح بشير استطاعت من خلال تذوقها للأدب وتجربتها القصصية، أن تخلق من حاجتها الماسّة، نمطًا سرديًا لم بتبدّل في السياق ولا حتى في منهج الحوار، لهذا لم يتطلّب من القارئ أي جُهدٍ خاص عند قراءة هذا العمل الأدبي السلس والإنسيابي.
يركّز هذ الأسلوب السردي على معنى وعي الآخر بحيث لم يلغيهِ، بل تركهُ متحرّرًا من أيِّ قيدٍ قد تفرضُهُ الرّواية أو السرد، فبدت الرّواية خصبة لو أنّها الواقع برمّتِهِ.
إنّ هذهِ الرّواية هي بالحقيقة لم تكن مِن الواقع بقدر ما كانت كشفًا وتعريةً له، فهي أحداث واقعية تشويقيّة لأنها بالنهاية تلبّي حاجة ذوقيّة نفسيّة، وتحقّق هدفًا، أمّا الأحداث والأشخاص الخياليون المبتكرون منهم في واقع الأمر أدوات لقراءة الحياة بشكل أكثر معنى.
تنطلق الكاتبة من وعيها الذاتي للتطوّر الطبيعي للعلاقات بين الأفراد وبين قيمهم في مجتمعاتهم، ولكن تعقيدات وقلق الوعي الإبداعي عندها أكّد على زاوية النظر وقواعد العمل بحيث انتهت كذلك..
تقول الكاتبة في السطور الأخيرة من نهاية الرواية: “كان المشهد يفيض بالبهجة، فالجميع يفرحون ويمرحون، ويشاركون بعضهم البعض أطيب الأحاديث.” (ص 257).
توحي مثل هذه النهاية بتأكيد الرؤية الثاقبة المتفائلة كأساس في بناء الرواية، وفي تكوين صناعة للمستقبل ورؤية جديدة ذات خيال لغوي متماسك.
إنّ تركيز الكاتبة الأستاذة صباح بشير على الحبكة كان سمة أساسية في الرواية منطويًا على فطنة بارزة في خلق أبعاد تشويقية، ذات أبعاد مختلفة عند القارئ لمحاولة التماسك ولملمة أفكاره إن كان عليه أن يقرأ الأسلوب والفكرة والحبكة والبناء بشكل مخطّط له، ذلك أن الرواية معتمدة على تبسيط البناء في اسناده للراوي، ورغم أنّ البناء استند إلى أسلوب تقليدي في طريقة القصّ والسرد، لكنّ اللغة عزّزت هذه المكانة وأخرجتها من تسلسلها الزمني والمكاني، وقد بقيت الكاتبة ضمن العواطف والمشاعر الطبيعية، لكنّ البناء النفسي للعمل الرّوائي برمّتِهِ كان جليًّا في قدرة الكاتبة على جعل سلوك شخوص الرّواية ثورة نفسية واعتراض خارج الإطار الاجتماعي ومُقتنعًا بالقدر الذي نستسيغهُ ونقبل بهِ. وانطلاقًا من هذه المعاني، فإنّه يتبادر إلى الأذهان ان نتطرّق إلى الجانب التحليلي النفسي لسلوك وتصرفات شخوص الرّواية من رجال ونساء حيث أنّنا نجد في هذه الرّواية صورًا لمجتمع يتناول فكرة وتطبيق معنى زواج رجل بامرأة دون أن يضيع هذا المعنى ومضمونه الحقيقي، فنحن نجد ثلاثة أنواع من الزواج لشقيقين، أولهما: زواج قائم على حبٍّ حقيقي كزواج مصطفى من زوجته الراحلة فاتن التي كان يهيم بها مصطفى، وثانيهما زواج مصطفى لاحقًا من هدى شقيقة زوجته الراحلة، هذا الزواج الذي تطوّر بعد معيقات في بدايته وتطوّر بفعل ظروف معينة أخيرًا إلى حبٍّ بهيج، كما سنشير فيما بعد. أما الزواج الثالث فهو زواج مستند إلى حبٍّ زائف من طرف المرأة الزوجة كما حدث في زواج عبد الله شقيق مصطفى من لبنى، ذلك الزواج الذي أصبح فيهِ الشكل بديلًا للمضمون، وأصبح عقد الزواج قطعة ورق بديل الحبّ والإرادة والكرامة والشرف، وبالتالي كان الزواج بين عبد الله ولبنى خاليًا من مضمونه ومقوماته الإنسانية ويرتكز على العلاقات الزائفة الشكلية من جانب الزوجة لبنى، وكان سببًا في فشل الزيجة بينهما علنيًا بمرحلة متقدمة ليتعرض هذا الزواج إلى خطر الطلاق لولا ما حدث من تدخُّل هدى بمساعٍ للوفاق وتصحيح سلوك الزوجة لبنى. وبهذا فقد رأينا في زواج كهذا أنَّ الإنسان في مثل هذه الحالات المجتمعية يصبح له حياتان متناقضتان: حياة زوجية اجتماعية ظاهرية ومزيفة، وحياة حقيقية غير ظاهرة بعيدة عن المجتمع. ولا يمكن أن نفكر ما يحدثه هذا الانقسام في شخصية الإنسان من إنحرافات نفسية أو فكرية كما حدث مع الزوجة لبنى، وما نتج عنها من مشاكل اجتماعية مع زوجها عبد الله لينشأ بذلك مناخ غير صحي يؤدي إلى عواقب وخيمة تهدّد الزواج. وهذا ما يؤكِّد أنّ العلاقة بين الرجل والمرأة تفقد شرفها وهدفها السامي إذا بُنيت على أسس نفعية كما حدث في حالة لبنى التي اعترفت لهدى عن خلفيتها في بيت والديها قبل الزواج حيث عانت من معاملة والدها الصارمة بانعدام الحرية والانفتاح بوجود الكبت لتستخدم بعدها حبّ زوجها لها للتسلط عليه واهماله في المراحل الأخيرة من زواجهما بشكل لا يمكن للزوج عبد الله ان يتحمله، فهي تقول في هذا الصدد (ص 253):
“لقد كان عبد الله بوابتي الوحيدة نحو عالم جديد ينبض بالحريّة والانفتاح، يغدق عليّ فيه حبّه وعنايته واهتمام دون حدود، ولكن خوف فقدانه ظلَّ يطاردني، فشدّدت الخناق عليه بمعاملة قاسية وغيرة شديدة، لم تكن تلك الغيرة نابعة من حبٍّ حقيقي، بل من شعور بالتملّك.. وكل ما حرُمتُ منه في بيت أبي، فكان يجب أن أهيمن عليه”.
وفي هذا النّصّ من الرواية يتّضح لنا أنّ لدى لبنى خواءً عاطفيًا من الحبّ، وهذا ما يبرهن أنّ لبنى قد تَبَنّتْ زواجًا يقوم من جانبها على علاقة يشوبها استغلال، فالحبّ في الزواج ليس امتلاكًا، وليس سيطرةً، وليس شعورًا من طرف واحد مهما كان هذا الشعور، وبالتالي ليس تمرّدًا ولامبالاة باحتياجات شريك الحياة في مؤسسة الزواج، وعند هذه النقطة، يمكن القول إنّ هناك نوعًا من السلوك او التصرّف النفسي المعروف بالإسقاط (projection) الذي مارسته لبنى على زوجها عبد الله، بكونها تُسْقِط ما تعرّضت أليه من كبت وقيود في بيت والديها قبل الزواج، على زوجها بتجاهله واهمالها له، وبالعودة إلى الحبّ الحقيقي المُتَّسِم بالوفاء الذي كان يكنّه مصطفى لزوجته الراحلة، فاتن، يمكننا أن نلمس هذا الحب بكلّ تشعباتِهِ وتداعياتِهِ من حزنٍ وألم على رحيلها، وهيام بذكراها مما يجعله يعزِف عن الزواج، لا بل يتردد وحتى يرفض رغم إلحاح والدته عليه بالزواج من هدى شقيقة المرحومة فاتن، والتي كانت تحبّ ابن اختها الطفل المولود “يحيى” كإبنها، وكما رأينا فإن اخلاص ووفاء مصطفى لذكرى فاتن، قد أعاق وعرقل علاقته الزوجية مع هدى، التي تزوجها فيما بعد، ولم يتعامل معها كزوجة جنسيًا وعاطفيًا، رغم حبّها الكامن له.
وهكذا نجد أنّه في حالة مصطفى وهدى وعودة الوفاق الزوجي بينهما وتطوّر حالة الحب بين شخصيهما كما أشرنا آنفًا، فإنّ الرواية توحي لنا أنّ الإنسان بقدر ما لديه من قدرة على الحرية والإرادة والاختيار والمسؤولية، والحب بين إنسان وإنسان يصبح حبًا إنسانيًا بقدر ما لديهما من هذه العوامل والمقومات. إنّ كل هذا إشارة تُبيِّنُها الرواية لنا في أنّ القدرة على الحبّ تعتمد على قدرة الإنسان على إدراك حريّة الشخص الآخر وحقيقتهِ واحترامها، فكيف إذا كان الأمر مع زوجة وفيّة يعترف ويوقن أنّها ليست شيئًا، وإنّما إنسانًا مثله تمامًا، وهذا التماثل هو أصل الحبّ وينطبق على علاقة الزواج السويّ لأنّ التبادل لا يمكن أن يحدث بغير التماثل.
ونأتي أخيرًا إلى علاقة طبيب الأسنان إبراهيم، صديق مصطفى، مع الفتاة “نهاية” التي تزوجها في نهاية الأمر بعد تردّد كبير، فإسم “نهاية” هنا يرمز إلى نهاية الوحدة التي كان يعيشها ابراهيم بامتناعه عن الزواج بعد فشلِهِ في زيجتين سابقتين له. وإنّنا نُرَجِّح أن بداية علاقة ابراهيم بِ “نهاية” قبل زواجهما كان يعتريها صفة الأنانية لدى ابراهيم، فكانت مثالًا للصفة الأولى لعلاقة الرجل بالمرأة، وازاء أنانية ابراهيم كرجل كانت هناك تضحية “نهاية” كإمرأة تُضحّي وتُعطي، وكل هذه التعبيرات التي تصف هنا علاقة المرأة “نهاية” بالرجل “ابراهيم” الذي عقد العزم أخيرًا على الزواج من “نهاية” بعد أن وصل إلى قناعة وثبت له أنّ هذه العلاقة تستند إلى حبٍّ حقيقي. وأنّنا نعتقد أن ابراهيم قد أيقن أنّ الحب توكيد لثقته في ذاته، وامتداد لحبهِ لنفسِهِ ليحب سائر البشر.
وختامًا، يمكننا القول إنّ كتابة الأستاذة صباح بشير لرواية “فرصة ثانية” هي تَفَحُّصٌ طويل لأعماق النفس في رحلة يكتشف فيها القارئ أثناء الطريق أجزاء من الحقيقة حيث دفعت بعددٍ من الشخوص إلى أحداث الرواية بشكل شائق، لتقدِّم لنا حالات الحب التي رصدتها الكاتبة في حالات اجتماعية تتأطّر بمؤسسة الزواج بكل تطوراتها، فكانت هي الإطار الزمني للرواية من جهة، بحيث حاولت الكاتبة أن تقاطع هذا الإطار بإطار الزمن الاجتماعي، فوصلت إلى رؤى تفاؤليّة بنهاية طبيعية سارّة.
وللكاتبة الأستاذة صباح بشير كل الاحترام والتقدير، مع أطيب التمنيات بدوام الإبداع والعطاء.