إياد خليليّة: عن رواية “رحلة إلى ذات امرأة” للأديبة صباح بشير

إياد خليليّة:

عن رواية “رحلة إلى ذات امرأة” للأديبة صباح بشير

الروائية والمبدعة صباح بشير، من على شرفة الدهشة، أدهشني تسلسل السرد الجميل، والوصف الذي يجعلك ترى وتسمع وتضحك وتبكي، وتعيش كل التفاصيل والذكريات بسلاسة وخفّة، رغم قسوة معظم الأحداث.

تسمع ضجيج روحها الهادئة والمتّزنة، رغم براكين القلق التي تخيفها وتعصف بقلبها وروحها وأمنها العاطفي.

عشنا معها أجواء دين المحبّة في معبد الإنسانية، الذي يجمع الجيران، ويشهد تعايشًا مسلمًا مسيحيًا وتآخيًا جميلًا بينهما، كما تبرز قداسة الأم، رغم ممارستها الظلم والقسوة، المبررة أحيانًا بطريقة نمطية موروثة.

سرت معها في أزقّة الحي وأزقّة روحها، ومعها في “رحلة إلى ذات امرأة” وذات من كتب. رأيت ملامح حنان الجميلة، صاحبة النفس النقية والروح الصافية العفوية المرحة، صاحبة النكتة المحبّبة والقوام الأهيف الممشوق، والوجه المستدير النضر الحيوي، ذي الشفاه الوردية، الشغوفة بالقراءة وسماع الموسيقى، الحالمة الهادئة، التي تحلم بإكمال دراستها، لكن “الغريب” والصراع معه يقف حائلاً بينها وبين حلمها المشروع. نعم، هو الغريب الذي يمنعها من أبسط حقوقها!

أخذتنا حنان معها في متاهة صراعاتها في حي وادي الجوز بالقدس، حيث ينغّص وجود ذلك الغريب عيشها وتفاصيلها الجميلة، ويكدّر صفو كل شيء، حتى أبسط الأشياء.

عشنا مع حنان صراعاتها الداخلية، وصراعها مع مشاعرها البريئة تجاه ابتسامة ذلك الشاب المهذب ابن الحيّ، الذي رحل سريعًا بسبب ذلك الغريب. كما عشنا صراعها مع اختيار زوج لا تربطها به أيّ مشاعر، وكيف شبّهت فستان زفافها بكفن الموتى، وكيف نزفت روحها بلون فستانها في ليلة زفافها المأساوية.

نطل من شرفة روحها على حلمها البائد المؤجل، قبل أن نطلّ على أحياء مدينة القدس العتيقة، ونسبر أغوار جمال أحجارها وبيوتها وأزقتها، ونستشعر تعايش أهلها وعاداتهم الجميلة.

استنشقتُ معها رائحة البن المنبعثة من دكاكين صانعيه، واستمعت إلى صوت أم زياد وأخبار “البي بي سي”، فأنا أيضًا أعشق تلك الإذاعة وأصواتها التي تبعث على الراحة.

لا شك أننا نعيش في مجتمع ذكوري متسلّط إلى حد ما، خاصة في الحقبة التي تناولتها الكاتبة، وكيف توارثنا عبر الأجيال كلّ هذا التطرف والذكورية. والمفارقة أن هذه الذكورية تُبرر بالحفاظ على الأنثى وصونها، في حين أنها تمارس من أنثى ضد أخرى بكلّ عنصرية وتعصب.

تلوم حنان المجتمع وتناجي الله في الصفحة 87 قائلة: إنها ستواجه مصيرًا مجهولًا، وأنها تعاقب كونها وليدة مجتمع يقبع أسيرًا لعاداته وتقاليده البائسة.

كانت دقيقة جدًا في وصف المعاناة في الصفحة 164: “حتى الرجال يُفرض عليهم أحيانًا التضحية والبقاء في زواج فاشل، حفاظًا على البيت والأولاد”.

تناولت الرواية أكثر من باب للظلم وأنواع الظلام، فالأخت غادة بشعة الروح والخُلق، تسكنها الغيرة والحقد. والأمّ ظالمة بطريقة غير مباشرة، إذ تمارس موروثها الثقافي بالاهتمام بما يقوله الناس أكثر من ابنتها، التي تعيش موتًا بطيئًا في كلّ لحظة من حياتها. أما عمر، فهو نموذج لحامل الفكر الذكوري، الذي يمثّل شريحة واسعة من الرجال في بلادنا، حيث يرى المرأة مجرّد خادمة وجسد، ولا يدرك أن إهماله لزوجته يدفعها دفعًا إلى ما يتهمها به زورًا وبهتانًا، أو ما يزيّنه له وسواسه. نرى في الرواية أيضًا تلك النوعية من الرجال الذين يخافون من قوّة شخصية المرأة وثقافتها وعلمها.

تربط الكاتبة بين وعي المرأة والقراءة، وبين القوّة التي تستمدّها من عالم الكتب والمعرفة. في المقابل، نرى صورة الجهل متجسّدة في عمر وأمّه المتغطرسة، التي تعزز لديه أفكارًا خاطئة وتعمق ضلاله. فهو يرفض فكرة الشراكة مع المرأة، وخاصة زوجته، ويعتقد أن القرار الأخير يجب أن يكون له وحده، لكنّ زوجته تصرّ على أن تكون شريكة، وهو غير مستعد إلا للسيطرة المطلقة والنفوذ الأوحد في البيت، وهو موروث ثقافي وفكري تربّى عليه معظمنا.

هناك عبارة مؤثرة استوقفتني: “ولأنّني امرأة، مطلوب منّي أن أبرّر أي محاولة لممارسة الحياة”. إنها حقيقة مُرّة، فلماذا لا يمنح مجتمعنا النساء الحقّ في ممارسة حياتهن بحريّة؟ وإلى متى سيستمر هذا الوضع؟

الجهل هو عدو صاحبه الأول، خاصّة عندما يكون مغلّفًا بالقداسة والذكورية والعادات البائسة، فلا أسوأ من جاهل يجهل أنه جاهل.

هنا أتوقّف قليلًا، وأتساءل: لماذا لم تمنح الكاتبة عمر فرصة بعد الطلاق، وترأف بحال شروق التي لا شك أنها دفعت الثمن غاليًا رغم محاولات والدتها حنان تعويضها؟ لعلّ عمر قد ندم على بعده وتعامله السيئ بعد الانفصال، خاصّة بعد انتشار إشاعات صدقتها أقرب الناس إليها، أختها غادة.

تسعى حنان لإثبات ذاتها من خلال التعلّم والقراءة، والهروب والعزلة والسفر، وتربية ابنتها شروق. تذهب إلى باريس، عاصمة الجمال، وتلتقي بنادر الذي يلملم شتاتها ويعيدها للحياة بشغف، ثم يأتي السؤال الصادم في الصفحة 274: “وهل الصدق في الحب ذنب؟” والإجابة حاضرة قبل السؤال في الصفحة 273: “موت وغربة ووحدة”.

“رحلة إلى ذات امرأة” هي رواية إنسانية اجتماعية عاطفية بامتياز. لقد خُدعتُ أنا أيضًا في البداية بشخصية نادر، وتمنيتُ لو استمرت حياته مع حنان بكلّ ذلك الحنان والجمال الذي غمر به قلبها المجروح، ولكن للقدر أو للكتب رأي آخر، والحمد لله أن هناك ذكرًا واحدًا في القصة خالف الصورة النمطية السوداوية للذكور، أولئك الذين مروا في حياة حنان وتركوا ندوبًا في روحها قد لا تُمحى أبدًا.

إنه والد حنان، الرجل الجميل صاحب القلب الكبير الذي يحتوي ويحبّ، يكدّ ويتعب، ويُشعرها بالأمان في كلّ مرّة، وهو بمثابة واحة لروحها المضطربة وحضن دافئ يذكرها بطفولتها. وجوده يبعث في النفس الأمل أنّ الدنيا لا تزال بخير.

في النهاية، عدنا مع الكاتبة إلى شرفتها، لتؤكّد أنّ الأسرة هي المعنى الأجمل، وأنّ الوطن هو المعنى الأسمى والأعظم. “وإني انتهيت حين خسرت معركتي”، بهذه الكلمات تختتم الكاتبة روايتها الرائعة، التي سأستمع بعد قراءتها إلى أغنية “ستيفي ووندر”. رواية رائعة جدًا، ولكن تبًا لنادر!

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. نبيه القاسم: أسعد الأسعد و”جمر الذكريات”

د. نبيه القاسم أسعد الأسعد و “جمر الذكريات” “جمر الذكريات” الإصدار الجديد عن “مكتبة كل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *