د. محمد غضبان: عن كتاب “عرب 48- الهوية الممزقة بين الشعار والممارسة”

د. محمد غضبان

 

أهداني مشكورا الأستاذ الاديب سعيد نفاع الامين العام السابق للاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 نسخة من كتابه ” عرب 48 الهوية الممزقة بين الشعار والممارسة”، إتّبع الكاتب هذه المرّة أسلوبا جديدا في الكتابة رغم كونه محاميا وسياسيا إلا أنّه نصّب نفسه هنا ايضا “مأذونا شرعيا” طلّق أطر الدراسات السياسية والمقالات الفكرية وحرّرها من سجنها وجمع بينهما على خير على طريقته !! وكان لرشّة البهارات من المفردات والأمثال الشعبية التي استعملها دورا هاما في إضافة نكهة جديدة تُمتِع القاريء وتقيه الملل وتشدّه ليُكمل القراءة حتى النهاية.
للوهلة الأولى يُخيّل لك أن الكاتب طرح المشاكل وحللها فقط دون أن يطرح حلولا ! لكنّه بأسلوب السياسي البارع أخفى ذلك بين السطور كي يُشعر القاريء أنه هو صاحب الحل ولفهم ذلك لا بُدّ من وقفات سأحاول فيها شرح ما اعنيه.
الوقفة الاولى ـ الحصانة المجتمعية :
شكّ الاصمعي في لفظ إستخذى ( اي خضع) ،وأحب ان يستثبت أهي مهموزة ام لا؟
فقال :” قُلتُ لأعرابيّ : أتقول إستخذيتُ أم إستخذأتُ ؟”
قال : لا أقولهما! فقلت : ولم؟!”
قال :” لأن العرب لا تستخذي(اي لا تخضع).
والسؤال : هل هذا يسري على شعوبنا العربية اليوم؟!
العقل الجمعي العربي تبنّى نظريّة المؤامرة ليُعفي نفسه من مهمة التغيير، وفي المقابل نحتت الحضارة الرأسمالية في صُدورنا أصناما لا تقلّ خطورةً عن أصنام العرب الجاهلية! وهذه الأصنام وإن لم نسجد لها إلّا أنّها تُرخي بظلالها على حياتنا، وتُشكّل حجر عثرة في وعينا ، والأخطر في تحرُّرنا! لست من أنصار نظرية المؤامرة حيث يحق لكل أمّة أن تُخطّط لمستقبلها وتضع الدراسات لتنفيذ ذلك، فأين دراساتنا وتخطيطنا نحن كعرب؟!
يُروى أنّ سنديانة مُعمّرة إستيقظت على صوت ضحكات أغصانها فسألتهم :ما يُضحككم يا بناتي؟؟ فأشرن إلى فأس حديدية مُلقاة على الارض قريبا من جذع السنديانة، عندها قالت لهن : “نحن في مأمن منها ما لم تدخل إحداكن إستها”.
لكن للاسف كثيرون منا وبتبريرات غير منطقية دخلوا إست هذه الفأس وبدأوا بقطع جذور وجذع سنديانتنا القومية .
يقول انطوان سعادة :” إنّ أعظم تفسّخ وتفكك تُصاب بهما أمّة من الأمم هما التفسّخ والتفكيك الناتجان عن تحويل الطوائف إلى “أمم” بالمعنى الحرفي”.
الوقفة الثانية ـ الشعور بالانتماءـ
يقول مثلنا الشعبي :” اللي عِندو 12 تينة بِجُعِش طول السنة”, وكان هذا سبب عودة والدي من بلدة بيت ليف اللبنانية بعد أن سمع عجوزا لبنانية تهمس :” إحنا منبكي ع فلسطين أكثر منكم لأنو كل شباب البلد كانوا ينزلوا ع فلسطين عشان يشتغلوا ويعيشوا وما كان يضل بهالبلد غير العاجز “، عندها تذكّر والدي أنهم يملكون في بلدنا كويكات عشرات أشجار التين ، وهكذا قُدّر لنا أن نعيش لاجئين وأرضنا تبعد عنا مئات الأمتار وممنوع علينا دخولها.
تُمثّل الأرض أساس الانتماء لأي مجتمع ولهذا قررت الدولة مصادرة اراضينا لحرماننا من الأمن الغذائي وترسيخ ارتباطنا بالدولة واقتصادها ومن ثم يسهل عليها سلخنا عن شعبنا وهمومه وإطفاء جذوة الشعور بالانتماء لهذه الأرض ولهذا المجتمع ، وساعد في قطع بعض جذور الانتماء تهميش احزابنا لكوادرها ولنبض الشارع، وعدم تسهيل مشاركتهم الفعلية في القرارات ـ لأن القيادة ” فكّرت واجتهدت نيابة عنا” مستغلّة ما يُسمى بالديموقراطية المركزية أو مجالس الشورى أو مركزية الديموقراطية أو سمّها ما شئت!.
لقد لعب هذا النوع من الاستبداد الفكري والعقائدي الذي تم ترسيخه ابتداء من العصر الاموي، دورا هاما في تهميش الناس على صعيد سياسة الدولة والسلطة وما زال يلعب الدور نفسه في العالمين العربي والإسلامي بترسيخ القناعات الجبرية في أذهان الناس وضمائرهم وتحويلهم إلى مُطاوعين لكل سُلطة مهما كانت استبدادية ، وجعلهم يربطون كل ما يحدث بإرادة الله وما المآسي التي سطّرها تاريخنا ومواقف الناس السلبية تجاهها إلّا إحدى نتائج هذا الاستبداد.
وتوالت أخطاء احزابنا حتى وصلنا الى إهمالها شريحة الشباب وتركهم لقمة سائغة لمنظمات الجريمة ورحنا بعدها نتباكى تفشّي الجريمة في مجتمعنا ، صحيح أن الحكومة غير معنية بمحاربة هذه الآفة وأكاد أجزم أنها تستغلها كي نطلب نحن إعادة فرض الحكم العسكري علينا بذريعة محاربة الجريمة تماما كما صارت بلداننا تتسابق إستجداء فتح مراكز للشرطة فيها من أجل نفس الشعار ” محاربة الجريمة المنظمة”, صدق مثلنا :” يا طالب الدبس من قفا النمس”.
يستدل الكاتب بقول مثلنا الشعبي:” خلّيها بالقلب تجرح ولا تِطلع برّا تِفضح”،!! يبدو ان الجرح في القلب أضحى غائرا وخطرا على وجودنا لذلك قرّر الكاتب أنه آن الأوان ” لنشر غسيلنا الوسخ” ليس لمجرد النشر ولكن من أجل تنظيفه من الشوائب ووضع خارطة طريق للتنفيذ.
يقول دوستويوڤسكي:” إنك إن أحسست بآلام فهذا يدل على أنك على قيد الحياة وإذا أحسست بآلام الآخرين فأنت إنسان”.
وعليه يجب علينا أن نُذَوّت لدى شبابنا واجيالنا، وعي أنّ الحرية قيمة عُليا في السياسة والأديان لا يُناسب الاستبداد بشتّى أشكاله ويُنهي مهمّة ” رجال الدين” و “رجال السياسة” بشكلها الراهن على اختلاف مسمياتهم.
الوقفة الثالثة ـ التوأم العربي المسيحي ـ
في عموم المنطقة هُجّر وهاجر من المسيحيين العرب ما يُقارب 4 ملايين بسبب الاحتلال الاسرائيلي والاحتلال الأمريكي للعراق والحرب الطائفية ومذابح وممارسات داعش والنصرة ، وهنا لا بدّ من التذكير بثلاث مسائل:
الاولى: الوجود المسيحي في البلدان العربية وجود اصيل والمسيحية وُلدت ونشأت هنا وهم ليسوا ضيوفا أو طارئين على هذه البلاد بل هم الأساس.
الثانية: علينا دائما التذكير أن التعددية الطائفية والاثنية والثقافية ، وبالتالي الفكرية والسياسية وكل ما ينشأ منها من تنويعات هي أهم مقومات بناء حضارة إنسانية مزدهرة ومتطوّرة.
الثالثة: دور الحركات الإسلامية وفهمها الخاطيء للدين الاسلامي، قمّة الفجور أن تحتج على غيرك من أصحاب الملل الأخرى انّهم لا يستعملون عقولهم وأنهم يؤمنون بكل ما جاء في كتبهم ، وما يقوله لهم كهنتهم ، وفي نفس الوقت انت تُمارس نفس الدور فتُؤمن بكل ما جاء في كتبك وتُصدّق كل ما يقوله لك مشايخك دون أن تستعمل عقلك، والاكثر فجورا أن تُعيب على غيرك استعمال عقله بحجّة أن من سبقونا فكّروا واجتهدوا نيابة عنا.
الديموقراطية ( الشورى) من صُلب العقيدة الإسلامية وأساسيتها وهنا يكمن التغيير الكبير المطلوب من المسلمين أن يُغيّروه بأنفسهم ، فبدون الايمان بأنّ الشورى هي النمط العلمي المتحضّر الذي يبتعد بالإنسان عن المملكة الحيوانية ، لا أمل في أي دعوة أو إصلاح. علينا أن نُؤمن بأن الشورى ليست ترفا فكريا مرحليا في حياة المؤمن ، وإنّما نمط حياة يتخذه لنفسه ويكافح من أجل تحقيقه لنفسه ولغيره ، ولو كان هذا الغير يُخالفه الرأي والعقيدة .
الايمان بالولاء للإسلام يستوجب ضرورة الدفاع عن القيم الإنسانية ، وعلى رأسها قيمة الحرّيّة ويُوَلّد لدى الإنسان رغبة قوية في الوقوف في صفوف من يُدافعون عن القيم الإنسانية ضد الطغيان وأصحابه ، فقد وُلِد الإنسان حرّا ومن حقه الوقوف إلى جانب أخيه الإنسان عندما يرى أن حرّيته تعرّضت للتعدّي من قِبل الطاغي الذي يُمارس الإكراه والعنف كوسيلة لتحقيق مطامحه ومطامعه الشخصية بسحق حرّيات الآخرين وحقوقهم ، وهذه المواجهة مشروعة لأنها تتضمّن محاربة الطغيان بكل أنواعه ونصرة القيم الإنسانية التي جاء جميع الرسل والأنبياء للدعوة إليها وترسيخها في سبيل الحرية ( حرّية الاختيار على كل المستويات).
الوقفة الرابعة : احزابنا بين الاشتراك والشراكة والمشاركة
يقول مثلنا الشعبي :” بين حانا ومانا ضاعت لحانا “،
أوّلا: علينا أن نعترف أن احزابنا قد سقطت سقوطا استراتيجيا مُدويّا حين اخطأت قراءة ما يُسمّى “الربيع العربي” ،بعضها ملأ فاه ماءً بانتظار النهاية والقسم الآخر دعم وهلّل وايّد، علما أن أي طفل في كلّيّة السياسة وعلم الاجتماع يعرف حق المعرفة أن أيّ ربيع عربي حقيقي يجب أن يبدأ في ممالك وإمارات ومشيخات العرب.
الأمر الثاني: ابتعاد احزابنا عن جماهيرها وهمومهم اليومية وتحوّلها إلى أكشاك انتخابية تنشط قُبيل كل معركة انتخابية وتخلد إلى النوم طول 4 سنوات بعيدا عن الشارع ، واستخفافا بعقولنا بعضهم أخذ يُمارس الوطنية بالشعارات الزائفة والآخر يتغنّى بملف الخدمات.
الأمر الثالث علينا وعلى احزابنا أن نعلم أن المشافي والخبز والطعام والمسكن ليست بديلا لحرّيّة الانسان، وليست ثمنا لهذه الحرية ، والحرية أيضا ليست بديلا للمشافي والخبز والسكن.
قد يقول قائل مُتناسيا مثلنا العربي القديم :” تجوع الحُرّة ولا تأكُل بثدييها”, أن الإنسان يمكن أن يتنازل عن حريته مقابل الطعام والشراب والسكن ، هذه أُطروحة القمع والإرهاب فإذا اخذت حرّية الإنسان ولم تُعطه الطعام والسكن فكيف يمكن أن يُطالب بها ؟! فيفقد بذلك طعامه وشرابه وسكنه وحريته معا!!
ولكن العكس هو الأصح فإذا أخذ الإنسان حريته من خلال الصحافة والمؤسسات والأحزاب دون أن يأخذ الخبز والسكن فتبقى عنده إمكانية المطالبة والحصول عليها ، حيث أن الحياة والحرية الإنسانية هي اغلى ما يملكه الإنسان ولا يمكن مقايضتها بأي شيء آخر .
الأمر الرابع : حكومة اليمين الفاشي أوصلت الدولة إلى عُزلة عالمية شبه تامّة ثقافية سياسية واقتصادية ، فأين مصلحتنا كاقليّة قومية في رفع شعار إسقاط حكومة اليمين؟!.
سأل أحدهم جحا ذات يوم :” أيّهما افضل أن نسير قبل النعش ام خلفه في الجنازة؟”
فأجاب:” لا تكن داخل النعش وسر حيث شئت”.
ولاحزابنا اقول لا تضعونا داخل نعش انقساماتكم وصراعاتكم على الزعامة والكراسي وسيروا حيث وكيف شئتم مشتركين أو مشاركين.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

عماد قسّيس: سعيد نفّاع العرب الدّروز 48 وحجارة الرّحى- (الواقع والتحدّيات) وجهات نظر دراسيّة”

  عندما اتّصل سعيد نفّاع ليطلب منِّي تقديم هذه المداخلة عن كتابه، كنت أقرأ كتابا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *