د. خالد تركي: نافِذَتي تُطلُّ على رِواية “مِيثاق النِّساء

 

د. خالد تركي

إِنَّ حرِّيَّة المرأَة ومساواتها بالرَّجل هي أَحد الأُمور الأساسيَّة لبناء مجتمع صالحٍ ومتطوِّرٍ وواعٍ، هي حجر الزَّاوية الذي يطلبه البنَّاؤون من أَجل بناءٍ متراصٍّ، حرِّيَّة المرأَة هي﴿بنيانٌ مرصوصٌ﴾، وهل تُبنى المجتمعات والدُّول دون نصفها أَو يزيد، أَو دون أَساسات متينة، تكون منها الإِنطلاقة نحو التَّطوُّر والإِزدهار والرُّقيِّ والتَّقدُّم، إِنَّ حرِّيَّة المرأَة هي مدخل مفتوح على مصراعَيه من أَجل بناء مجتمعٍ صالحٍ وهي أَساس نهضة الشُّعوب..

ويقول الشَّاعر حافظ ابراهيم:

الأُمُّ مَدرَسةٌ إذا أعدَدتَها أعدَدتَ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ

إِنَّ رواية “ميثاق النِّساء” لا تتكلَّم عن نساء قرية عينصورة في جبل لبنان فقط، أَو قضيَّة المرأَة عند هذه الطَّائفة دون غيرها، فهي لا تخصُّ فئة من العرب أَو كلِّ العرب، بل تخصُّ المرأَة في كلِّ العالم، فهي تطرح قضية ظلم المرأَة في جميع أَنحاء وطننا العربيِّ بغضِّ النَّظر عن إِنتمائه الدَّينيِّ أَو الطَّائفيِّ أَو المذهبيِّ وهذا يمكنه أَن يكون جزءًا من تخلُّف مجتمعاتنا وعدم تطوُّرها، عندما يكون نصفه مشلولاً ومحبطًا ومضطَّهدًا..

إِنَّها صوت المرأَة المظلومة والمسحوقة على امتداد المشرقَين وهو غير محصور في قرية عينصورة، وليس فقط لتلك الفئة أَو الطَّائفة، لأَنَّ الظُّلم موجود في كلَّ مكان، فالكاتبة تعني المرأَة أَينما كانت أَو حلَّت أَو إِلى أَيِّ مجتمعٍ أَو ثقافة تنتمي، فهي تسعى لتحريرها من قيودها..

كاتبة طلائعيَّة شجاعة، تُذكِّرني بالكاتبة العريقة نوال السَّعداوي..

لقد وجدَت حرِّيَّتها بسبب صدقها مع ذاتها ومع من حولها، بسبب العلم والتَّعليم والعمل والحبِّ وكسر “الصُّورة النَّمطيَّة”، دعمَت طريقها بمقولة لإِقناع سالم “نهاية العلم والتَّعليم هو الرِّضى والتَّسليم”(ص 91). العلم والعمل والشَّجاعة والحبُّ والصِّدق مع الذَّات هو مفتاح المرأَة لحرِّيَّتها، فتقول الكاتبة في مقابلة مع مجلَّة “رمَّان”: إِنَّه أُسلوب حياةٍ يحرِّر الإِنسان من الدَّاخل قبل أَن يتحرَّر من قيوده الخارجيَّة، رواية “ميثاق النِّساء” هي رسالة محبَّة وإِن غضب البعض منها..

تقول الكاتبة اللبنانيَّة حنين الصَّايغ الشُّجاعة، صاحبة رواية “ميثاق النِّساء” بصوت بطلة الرِّواية أَمل بو نمر: “لقد أَتينا أَنا وحامد من بيئات متشابهة، حيث الدِّين هو سيِّد الكلمة والآباء قساةٌ وغاضبون ذقنا مرارة الإِنتهاك الجسديِّ، ورأَينا الفرح يُسلَب من أُمَّهاتنا والمستضعفين حولنا. رأَى حامد أُمَّه تُعنَّف، ويُغتال فرحها..”(ص 283)..

تقول أَمل بو نمر عن ابنتها رحمة عند ولادتها “حزنتُ من أَجل رحمة التي لا أَعرف مصيرها في زواج كهذا، لأَنَّ أُمَّها -تمامًا كأُمِّي- لم تكن يومًا سعيدةً” (ص 289)..

تبدأُ القصَّة بطلاق جدِّها من جدَّتها حيث يعيشان بعدها في بيت واحد يفصل بينهما جدار يحول دون أَن يرى الواحد منه الآخر أَو أَن يسمع صوته أَو أَن يرى أَيَّ شيئٍ يخصُّ الطَّرف الثَّاني، في لحظة غضب، محرَّمًا عليهما رؤية بعضهما البعض، “لو طلَّقتها لن تستطيع أَن تردَّها مرَّةً أُحرى، وسيصبح محرَّمًا عليك أَن ترى وجهها أَو حتَّى طرف منديلها. وسيكون محرَّما عليك أَن ترى حذاءها مخلوعًا أَمام بابها أَو أَن تسمع صوتها.”(ص 28)، لقد طلَّقها في ساعة غضب، خرج الرُّمح من نُشَّابه فكيف تعيده..

تفتتح الكاتبة روايتها بفصل “الجدار” وتختمها بفصل “نافذة على حديقة الله”..

 لقد جاء في الحديث الشَّريف عندما أَتى رسول الله رجلٌ يطلب منه أَن أَوصني، قال له: لا تَغضَب..

ويقول الإِمام عليٌّ: إِيَّاكَ والْغَضَبَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ جُنُونٌ وآخِرَهُ ندمٌ..

“ميثاق النِّساء” هو عنوان الرِّواية، المستوحَى من فصل من كتاب الحكمة الشَّريف، الكتاب المقدَّس لدى الطَّائفة المعروفيَّة الموحِّدة، لكن هذه الرِّواية تروي لنا حال المرأَة في قرية عينصورة، في جبل لبنان، قرية متديِّنة يكثر فيها الشُّيوخ والشَّيخات، “معظم أَهاليها مشايخ”(ص 10)، وإِن انتبهنا إِلى أَحداث الرِّواية فإِنَّها تحكي وتمثِّل قضيَّة النِّساء كافَّةً في وطننا العربيِّ وفي سائر المجتمعات في العالم، وليس فقط في عينصورة، فهي عيِّنة من الجسم، وجزءٌ من الكلِّ، حيث تخضع المرأَة تحت حكم الذُّكوريَّة، وأَنَّ الرَّجل قوَّامًا عليها، وعليها تنفيذ ما يُملى عليها خدومةً لزوجها ولبيتها ولأَولادها وأَنَّها ضلعٌ قاصرٌ..

“لقد عرفتُ منذ الطُّفولة أَن المرأَة في مأزقٍ.. لأُدرك أَنَّ الرَّجل هو سبب المأزق في حياتي”(ص 228) فهي لا تنسى ظُلم أَبيها الشَّيخ لها ولا ظلم زوجها سالم لها، مع أَنَّه كان يُلبِّي طلبها على مضض، بعد أَن تفرض عليه الأَمر الواقع عليه، لقد كان سالم ضحيَّة مجتمع ينظر إِلى المرأَة بعينٍ ذكوريَّة، ولكن يمكننا القول أَنَّه متحرِّرٌ أَكثر من أَسلافه، حتَّى لو كانت أَمل على حقٍّ فإِنَّ والدها الشَّيخ علي سيقف ضدَّها نزولاً “لأَنَّه يخشى بالتَّحديد نظرة المشايخ له”(ص 90) وكيف سينظرون إِلى ابنته المطلَّقة، كان سالم “يتربَّص بأَخطائي على مدار السَّاعة”(ص 230) وكان سالم “في حالة نكرانٍ تامٍّ لما أَمرُّ به..”(ص 216)، سالم هو أَيضًا ضحيَّة مجتمع يرى في الرَّجل قوَّامًا ويحقُّ له ما لا يحقُّ للمرأَة، وما يجوز للرَّجل هو عيبٌ عليها، وعلى المرأَة أَن تتحمَّل كلَّ سلبيَّات زوجها وعليها أّن تكون المثاليَّة له..

لقد واجهت والدها الشَّيخ علي يوم قرَّرت الطَّلاق من سالم “أَنت لم تُشعرني يومًا أَنَّك والدي يا أَبي! هل تقبل أَن تكون والدي اليوم فقط؟ حاول أَن يتكلَّم ولكن الدُّموع غلبته..”(ص 308)، كذلك والدها الشَّيخ هو ضحيَّة العادات والتَّقاليد التي لم نتحرَّر منها بعد “شو النَّاس بدهن يقولوا علينا وشو بدهن يحكوا عنَّا بعدين”، فيقول “أَنا لم أَعد أُريد من هذه الحياة إِلا السُّتر، وأَن تكونوا بخير.”(ص 308)، فتُطمئنه أَمل “أَنا حريصة على سمعتك أَمام المشايخ.”(ص 311)..

لقد كانت تشعر أَمل أَنَّ تلك الحقوق التي حصلت عليها بإِرادتها القويَّة وإِصرارها بعد أَن انتزعتها من فكَّي سالم، كقيادة السَّيَّارة والتَّعليم الجامعيِّ والعمل الأَكاديميِّ هي خطوات حثيثة على طريق تحقيق الذَّات..

“لو كان الرَّجل حرًّا لما احتاج أَن يفرض وصايته على المرأَة”(ص 242).

تقرِّر بطلة الرِّواية أَمل بو نمر متابعة تعليمها الجامعيِّ في الجامعة الأَمريكيَّة “الجامعة الأَمريكيَّة مرَّة واحدةً”(ص 9)، بعد أَن حصلت على شهادتها الثَّانويَّة بامتياز، رغم زواجها المبكِّر عنوةً رغم صغر سنِّها، السَّادسة عشرة، كان شرطها على خطيبها للزِّواج إِتمام الثَّانويَّة، فمنذ صغرها كانت تطمح “إِلى ما دون النُّجوم”، حيث قالت لوالدتها عن الجبال العاليات التي تحيط قريتها “ماذا يوجد هناك فوق قمَّة الجبل؟ ماذا لو كبرتُ وتسلَّقتُه، هل أَستطيع لمسَ السَّماء”(ص 14)، لكنَّ حديث والدها الشَّيخ يحبطُّ من عزيمتها ويفتح لها باب التَّحدِّي والإِصرار: “وعندنا ممنوع على البنات أَن يدخُلنَ الجامعات ويذهبنَ وحدهنَّ إِلى المدن”، “شو بدُّو ينفعها العلم! آخرتها عَ الزَّواج” لكنَّ والدتها تقول له بخجلٍ وهدوءٍ ومشجعةً بناتها لاحقًا “البنت سلاحها علمها”، بعد أَن  خيَّرها والدها ما بين الجلوس في البيت أَو الزَّواج، وتكون حجَّة والدها، “ما في مصاري.. من وين أَجيب” (ص 17)..

لكن عندما أَتاها العريس سالم تحزَّمت بالشَّجاعة وفرضت شروطها عليه وقفت على حدِّها ووضعته عند حدِّه بعد أَن شعرت أَنَّ إِتمام التَّعليم مستحيل وهي في بيت والدها فوجدت في الزَّواج نافذةً لنيل حقِّها في التَّعليم حيث وقفت قائلةً “أَنا متفوِّقة في دراستي، وأُحبُّ أَن أُكملَ تعليمي وأَحصلَ على شهادةٍ جامعيَّة”(ص 42)، وتجد في هذا الزَّواج تحرُّرًا على طريق المستقبل الزَّاهر..

صفقة تنازل مؤقَّتة من أَجل تحقيق مستقبلٍ زاهرٍ..

المرأَةُ منذ الخليقة وُلدت ناقصة، من ضلع آدم الأًيسر، حين انتزعه الباري من آدم وهو نائم، فلماذا لم تُخلق حواء الأُولى ويُخلق آدم من بعدها من ضلعها الأَيسر، ليكون هو الضِّلع القاصر، ولماذا كان عليها أَن تعصى طلب ربِّ المعرفة لتجني ثمرة التُّفَّاح من شجرة المعرفة، شجرة معرفة الخير من الشَّرِّ، وتكون حوَّاء هي سبب تعاسة البشريَّة وتعبها وكدِّها وعذابها وموتها ﴿موتًا تموت﴾، ولماذا كُتب على المولودة أَن توأد، أَن تُدفن وهي حيَّة، ذنبها الوحيد أَنَّها أُنثى، أَو لماذا عليها أَن تُختن وتُشوَّه أَليس هذا اعتراض على إِرادة الله التي أَراد لها أَن تكون كذلك، اعتراض على مبنى جسمها وحرمانها منه..

“أُنظري إِلى أُمِّي التي أَفنت جسدها وحياتها في خدمتنا، ولا أَجد أَنَّ والدي يُقدِّرها أَو يُظهر لها أَيَّ لطفٍ!”(ص 108)..

صحيح أَنَّ هذه العادة المجحفة أُلغيت بمجيئ الإسلام لكنَّها بقيت إِلى يومنا هذا، بالمعنى المجازيِّ تحت سيف الإِضطهاد وانتقاص الحقوق، حيث لا يُمكنها أَن تتساوى مع الرَّجل.

﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ ﴿بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾..

قصَّة أَبي الأَنبياء إِبراهيم الخليل وزوجته الأُولى سارة والثَّانية هاجر، حيث فضَّل الأُولى على الثَّانية، حيث تُركت هاجر بصحراء الحجاز القاحلة تحت لهيب شمسها الحارقة وابنها اسماعيل يموتان من العطش والجوع، لا زرع فيه ولا ماء ولا غذاء، إِلى أَن منَّ عليهم الرحمن بماء زمزم..

تُركت ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾..

كانت تقول جدَّتها لأُمِّها “البنات هَم يا نبيلة. جبتيلو أَربع هموم لعليٍّ” (ص 22)، وكانت تقول والدتي أُم خالد: همُّ البنات للممات! حيث كانت الشِّيخة أُمَّ عليٍّ تتمنَّى ولادة ذكرٍ ليتقمَّص ابنها عماد، الذي فقدته في الحرب اللبنانيَّة “كانت تأمل أَن يعود ابنها عماد الذي قُتل في الحرب إِلى بيتنا متقمِّصًا جسد مولودٍ جديدٍ”(ص 23)..

تدخل الكاتبة على قضيَّة التَّقمُّص وتناقشها “أَنَّ ابنتي هي قميص جديد لروح اختها..كيف يُسقط كلُّ إِنسانٍ فقدانه على هذه الطِّفلة..أَنَّها تنتمي لهم وليست ابنتي وإِنَّها ابنة الماضي وليست ابنة المستقبل” (ص 201).

أَحبَّت التَّقمُّص الذي كتب عنه جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة “هذا التَّقمُّص الذي يُعزِّي الأُمَّهات..” (ص 202)، على فقدان أَحبَّائهم..

التَّقمُّص هو عقيدة تعني انتقال النَّفس بعد وفاة الإِنسان إِلى جسد إِنسانٍ آخر، وفيه يؤكِّد استمرار الحياة وأَنَّ الموت ليس إِنتهاء الحياة بل هو ابتداء لحياة جديدة، وتنتقل الرُّوح من جسد لآخر، شريطة أَن يحمل نفس الإِنتماء الدِّيني، ونفس جنس الإِنسان، وأَنَّ النَّفس البشريَّة لا تموت بل تنتقل إِلى جسدٍ آخر..

وقفَت مع المرأَة لتنصرها وتحرِّرها من الظُّلم والكبت والإِجحاف والتَّبعيَّة للرَّجل، وقفت مع حقِّها في المساواة والوجود والكرامة وتقرير المصير والإِستقلاليَّة..

وقفت مع المرأَة لتكون حرَّة في قرارها لتستعيد حقَّها في جسدها، في تعليمها وطموحاتها، في أَن تختار حبيبها، في أَن تحافظ على كرامتها وحرِّيَّتها في حياتها وسيادتها لنفسها دون وصيٍّ، لتستعيد حقَّها في أَن تكون إِنسانة..

وعلى المرأَة أَن تكون شجاعة وتعرف ماذا تريد، وتطلب وتطالب وتواجه دون خوف لانتزاع حقِّها وكرامتها وحرِّيًَّتها “امرأَة لا تجزع من صورة وجهها..” إِمرأَة لا تختبئ ” قرَّرت أَلا أَختبئ مثلما فعلت مرارًا هذا الإِختباء يُشعرني أَنَّني كالفئران”(ص 286)..

وقفَت بثبات ضدَّ “البنت ممنوع تطَّلَّق”(ص 292)، وقفت بشجاعة    ضدَّ “تحسين شروط العبوديَّة”(ص 290)، هذا حقٌّ وليس منَّة…

تقول أَمل: “فالخيانة بالنِّسبة لي كانت تعني خيانة أُمَّي وليس زوجي. أُمِّي التي حُرمت من كلِّ شيء لا تستحقُّ أَن تكون ابنتها خائنة. لن أَتمكَّن من النَّظر في عينيها إِن أَصبحتُ خائنة”(ص 257)..

 لقد تركت الحرب الأَهليَّة في لبنان بصماتها على الرِّواية والكراهيَّة والضَّغينة بين الطََوائف..

لقد كان الجدُّ متزمِّتًا في الدِّين وذا سطوةٍ حيث فرض على أَولاده المشيخة “لن أَقبل أَن أَعيش تحت سقفٍ واحدٍ مع جسمانيٍّ (غير ملتزم بالدِّين)” (ص 25)، مهدِّدًا أَنَّه لن يصرف عليهم ولن يقبل منهم قرشًا واحدًا..

لقد اختار والدها المشيخة عندما فقَدَ إِبنه عماد في الحرب، ومن بعدها أَلزم والدته على التَّديُّن وإِلا طلَّقها، “لم تكن هي وأَبي مشايخ في بداية زواجهما، ولكنَّ مقتل عمِّي عماد في الحرب أَعاد أَبي إِلى دينه..”(ص 84)، فالإِنسان حين يكون قويًّا ينسى حاجته إِلى الدِّين والإِيمان، تقول”من يفقد عزيزًا أَو يُبتلى بخسارة كبيرة، يرمي بثقله على فراش الإِيمان الوثير ” (ص 84)، لقد انتفضت الكاتبة على النَّظرة الدُّونيَّة للمرأَة “تكتنفها نظرةٌ دونيَّةٌ تفرض الوصاية على المرأَة” (ص 85)، وتطرح رأيها بشجاعة بالغةٍ “أَنَّ المشكلة لا تكمن في الدِّين بحدِّ ذاته، بل في الرِّجال الذين يتقمَّصون دور الله” (ص 90)، وتُبيِّن لنا، الكاتبة، كيف أَنَّ التَّزمُّت الدِّيني يُسمِّم حياة الِإنسان ويحرمهم من أَبسط حقوقهم، ﴿فكلُّ ما قالوا لكم أَن تحفظوه فأحفظوه وافعلوه ولكن حسب اعمالهم لا تعملوا، لأَنَّهم يقولون ولا يفعلون﴾، كذلك جاء في الحديث الشَّريف “علماؤهم شرٌّ من تحت أَديم السَّماء، من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود”..

لقد كانت تخاف على مستقبلها وعلى امنيتها في إِنهاء دراستها الجامعيَّة وكانت تخاف الحمل والأُمومة، لأَنَّ ذلك سيكون عائقًا وحاجزًا أَمام تقدُّمها إِلى أَمام، “إِنِّي أَخاف الأُمومة” (ص 93)، “أُمَّهات لا تحبُّ أَطفالها مرض نفسيٌّ”(ص 181)، لكنَّها أَصبحت أُمًّا لرحمة التي كانت مفتاحًا يفتح أَمامها أَبواب التَّقدُّم والمستقبل، حيث أَنهت دراستها الجامعيَّة بتفوُّقٍ كبيرٍ، بعد فترة اكتئاب بعد الولادة لدرجة أَنها طلبت لنفسها الموت، بعد أَن كرهَت نفسها، لقد “ساومتُ على جسدي مرَّة أُخرى حتَّى أَصل إِلى هنا” (ص 153)، وتعتذر من رحمة “سامحيني يا صغيرة لأَنَّ قلبي لا يُغنِّي فرحًا بقدومك”(ص 196)، “أَخاف أَن أَحملك، أَخاف أَن أُطعمك من جسدي..أَشعر بالعجز والخزي، سامحيني..”(ص 197)..

لكنَّها مع الوقت تجد نفسها مفتونة بابنتها وبجمالها جمال الزُّهور العطرة ونضارة بشرتها ورقَّتها، هنا بدأَت علاقة الأُمِّ تتوطَّد بابنتها، “وافتتنتُ بجمالها.. كيف لجسدي الذي يُشبه أَرضًا محترقةً أَن يُنبت زهرةً بنضارةِ ورقَّة رحمة.. كانت رحمة طفلةً جميلةً ليس فقط في عيوني” (ص 212). فالوقت كفيلٌ في أَن يُساهم في تغيير مشاعرها تجاه ابنتها.

وجدت أَمل بو نمر طريقها إِلى العالميَّة بعد أَن تطلَّقت من سالم وتزوَّجت من المحاضر المصريِّ البروفيسور حامد عبد السَّلام، الذي دعمها في كلِّ طموحاتها وأُمنياتها وتقدُّمها..

“النِّساء بعد الأُمومة يُصبحن أُمَّهات فقط، والرِّجال بعد الأُبوَّة يبقون رجالاً”(ص 172)..

الرِّجال في الرِّواية أَنواع، رجل ظالم ملتزم بتقاليد المجتمع والبيئة المحافظة المتزمِّتة متمثِّل بوالدها الشَّيخ علي بو نمر، رجلٌ ضحيَّة التَّقاليد المُعقَّدة كسالم صاحب ثروة كبيرة وخلدون محاضر في الجامعة الأَمريكيَّة في بيروت، ورجلٌ منقذٌ شجاع وهو البروفيسور والكاتب حامد عبد السَّلام..

كانت تجد نفسها مع سالم بكماء خرساء لا تُجيد الكلام، “أَردتُ أَن أَقول. ولكنِّي تعثَّرتُ كالعادة فوق صمتي ولم أَقل شيئًا” (ص 92)، “شعرت أَنَّ صوتي يخونني مجدَّدًا، وأَنَّني لن أَتمكَّن من الصُّراخ أَبدًا.” (ص 73)، فهو لم يشعر بمعاناتها وأَلمها “كيف لا يشعر بأَنَّني لستُ بخير، يكون حميمًا مع جسدي ولا يشعرُ بآلام روحي”(ص 216)، لكنَّها وجدت حرِّيَّتها، بعلاقتها مع الاستاذ خلدون الذي كان معلِّمها إِذ شجَّعها على كتابة الشِّعر وساهم في نشرها عبر الصُّحف، وكذلك ساعدها في نشر ديوانها “فليكُن” (ص 220)، وهذه حقيقة أَنَّ لها ديوانَ شعر يحمل هذا الإِسم الأَمر الذي يُساعدني في رأيي أَنَّها تحكي سيرتها الذَّاتيَّة، لكن الأُستاذ خلدون لم يستطع مساعدة نفسه حين أَحبَّ صبيَّة ليست من دينه وحين رفضه أَهلها وضع حدًّا لحياته وانتحر، “وأَبى المشايخ حضور مأتمه ومن التَّكرُّم على روحه بالرَّحمة.”(ص 223)، فبعد موته استلمت أَمل مكالمةً من عميد الجامعة تطلبها لشهادة الماجستير في التَّعليم مدفوعة الأَجر مقابل العمل في الجامعة، وحال تسلُّمها البشرى فكَّرت كيف ستُعلم زوجها بها!

لقد فُتحت عليها أَبواب التَّقدُّم والعلم والدِّراسة والإِنجاز والنَّجاح، مع أَنَّها كانت تعيش حياة من الاكتئاب، في دوَّامة النَّجاحات وزوجها سالم الذي كان يحاول لجمها، فاشلاً، وتربية واعتنائها بابنتها رحمة، كانت تشعر “أَشعر أَنَّني محاصرةٌ ومكرَّرةٌ”(ص 227)..

لقد كان زواجها من سالم صفقةً مؤلمة مع تنازلات نحو هدفها في التَّقدُّم والعلم والتَّحرُّر..

بعد وفاة خلدون وجدت في الكاتب حامد عبد السَّلام الذي فتَّح لها عيونها على مصداقيَّة موقفها في النِّضال من أَجل تحرِّر المرأَة وعتقها “وكيف أَنَّ تزاوج السُّلطة الأَبويَّة والتُّراث والدِّين والنِّظام الاقتصادي جعل من تحرُّر المرأَة من غير أَضرارٍ نفسيَّة واجتماعيَّة ومعنويَّة أَمرًا شبه مستحيل” (ص 239)، لقد نجحت المؤسَّسات الدِّينيَّة في إِقناع الرَّجل والمرأَة بضرورة مراقبة المرأَة وتقييد حرِّيَّتها، “الأَديان في حدِّ ذاتها لا تضطَّهد المرأَة ولكنَّ المؤسَّسات أَمَّمت فكرة الحبِّ وجعلته رهين العادات والتَّقاليد”( ص 242)، وكانت أَمل تشعر أَنَّها تتسوَّل حرِّيَّتها من سالم، وتطلب منه أن يفكِّر بشكلٍ منطقيٍّ..

لقد فشل حبُّ خلدون إِذ يقول “حبيبتي ليست درزيَّة”(ص 189)، فينتحر بسبب الرَّفض لهذا الزَّواج وهي رفضت الزَّواج والخروج عن طاعة أَهلها ومجتمعها..

لقد انتصر حبُّ اختها نرمين لجاد الذي يعيش في أَمريكا، وحاربت من أَجله ومن أَجل زواجهما وسافرت معه ليعيشا في المهجر، لكنَّها تنتفض عليه، بعد ذلك، في طلاق يعود سببه إِلى أَنَّه ليس نقيًّا في عِرقه الدُّرزيِّ لأَنَّ إِحدى جدَّاته مسيحيَّة، وتعود نرمين إِلى الدِّين، وحبٌّ مختلطٌ بين حامد عبد السَّلام وأَمل بو نمر، ينجح ويتكلَّل بزواجٍ بعد أَن طلَّقت أَمل زوجها الأَوَّل سالم، حيث وجدت سعادتها مع حامد، لكنَّهما يغادران البلاد ليسكنا في الدَّانمارك، إِنَّه هروب من الواقع والتَّحدِّيات، حيث اختارت أَن تكون بعيدةً عن الأَعيُن..

“.. حزنتُ من أَجل رحمة التي لا أَعرف مصيرها في زواج كهذا، لأَنَّ أُمَّها تمامًا كأَمِّي لم تكن مرَّة سعيدةً”(ص 189)..

إِنَّه صراع بين الإِرادة والتَّخاذل، بين الاستقلاليَّة والتَّبعيَّة، بين الأَمل والخيبة، بين الإِلتزام والتَّحدِّي أَو العصيان، بين العبودية والحرِّيَّة..

كانت تعيش أَمل بو نمر “حياتين منفصلتين..مع حامد زوجة وحبيبة” (ص 379)، وأُخرى مع ابنتها ووالديها. ولم تَعلم ابنتها بزواج أُمِّها “لو أستطيع أَن أُطلع ابنتي على حقيقة الحياة التي أَعيشها..”(ص 379) ولم تعلم بهذا الزَّواج والدة أَمل “ولكنَّنا أَخفينا أَمر زواجنا كي نحميها، لن أَقول لها إِنَّك زوجي..سأَتأَكَّد أَنَّ أَبي ليس في المنزل حين نورها”(ص 383)، كذلك بقيَت قضيَّة زواجها الثَّاني قيد الكتمان والسِّرِّ..

كان في الرِّواية تحدٍّ لما هو ممنوع، وما هو محرَّم، لتجد أنَّ السُّكوت هو الظُّلم بعينه، “السَّاكت عن الحقِّ شيطانٌ أَخرس”(ص 25)..

لقد قاومَت أَمل وانتصرت لكنَّها استسلمت وهربت، ولم تبق في بلدها لمواجهة الظُّلم والاضطهاد ووجدت في أُوروبا حياتها وحرِّيًّتها..

استسلمت وهربت مع زوجها حامد الذي أَهداها الحياة وتركت أُمَّها، نبيلة، التي أَتت بها إِلى الحياة وابنتها رحمة “لقد انفجر مرفأ بيروت، وحوَّل حياة آلاف المواطنين ووجدانهم إلى حطام. انفجرت بيروت مثل امرأةٍ أمضت خمسين عامًا في كبت مشاعرها لتبصقها مرَّةً واحدةً في انفجارٍ كلَّفها أرواح أبنائها. انفجار بيروت كان هزيمةً للجمال والحياة والأدب. عشرون دقيقة فصلتنا عن الموت..”(ص 380)..

لقد تسبب انفجار مرفأ بيروت إِلى كارثة حصدت أَرواح الآلاف من قتلى وجرحى ونازحين دون مأوى ودون سقفٍ يختبئون تحته، وكذلك اقتحام جائحة الكورونا بيوت النَّاس، زادت الطِّين بلَّة، مهددة حياتهم بعد أَن عرَّضتها للخطر وللمرض الفتَّاك والقتل ويجوز أَنَّها تُشبِّه انفجار المرفأ كانتفاضة المرأَة، أَو انتفاضتها وثورتها، ثارت أَمل وانتفضَت أَمل، ضد الكبت والطُّغيان والظُّلم والقمع، ضدَّ التَّقاليد والقيود من أَجل العلم والحبِّ والحرِّيَّة..

السؤال بخصوص ميناء بيروت هل هو انتفاضة النساء على الظُّلم المجحف بحقهنَّ أم أَنَّه انفجار العادات والتَّقاليد على شجاعة أَمل بو نمر وقراراتها بعد أَن كاد الموت يحضنهما لولا العشرين دقيقة قبل الانفجار، “عشرون دقيقة فصلتنا عن الموت الذي أَصاب المئات وشرَّد الآلاف” (ص 380).

تخرج المرأَة، أَمل بو نمر، من حالة الصَّمت إِلى حالة المقاومة، بعد أَن كانت والدتها نبيلة تنتهج المقاومة الصَّامتة، والسُّؤال هنا يبقى مفتوحًا هل سيكون مصير أَمل كمصير أُختها نرمين المتحرِّرة فكريًّا، ذات الشَّخصيَّة القويَّة، بعد أَن خرجت من تحت كنفَي والدها الشَّيخ لتعيش ما وراء البحار، ستعود إِلى الدِّين وترجع إِلى حضن القرية تاركةً زوجها حامد عبد السَّلام كما تركت نرمين زوجها جاد..

يستحضرني هنا شعر الفنَّانة أَمل مرقص لأُهديها لأَمل بو نمر، بين أَملٍ وأَمل لتحقيق الأَمل:

صوت المرأَة جمرة

صوتها وردة حمرا

رافعة راسها حرَّة

صوت المرأَة ثورة

صوتها ثورة ثورة

خِتامًا..

تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتبة الطَّلائعيَّة الشُّجاعة اللبنانيَّة حنين الصَّايغ بصدور ثمرة قلمها “ميثاق النِّساء”، أَعتزُّ بكِ على طريق الحرِّيَّة والإنعتاق والعدالة الإِجتماعيَّة..

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ..

ملحوظة: الكاتبة والشَّاعرة حنين الصَّايغ من مواليد قرية معصريتي في جبل لبنان، عام أَلف وتسعمائة وستة وثمانين، حاصلة على ماجستير في تدريس مناهج اللغة الإٍِنجليزيَّة من الجامعة الأَمريكيَّة في بيروت، وقدر صدر لها ثلاثة دواوين شعريَّة “فليكُن”، التي أَتى عليها الحديث في رواية “ميثاق النِّساء، “روح قديمة”، “منارات لتضليل الوقت”، ورواية “ميثاق النِّساء” وأُخرى “ثمرة النَّار”..

ملحوظة ثانية: رواية “ميثاق النِّساء”، من إِصدار دار الآداب بيروت، عام أَلفين وثلاثة وعشرين، من الحجم الوسط في ثلاثمائة وواحد تسعين صفحة، وصلت الرِّواية إِلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرِّواية العربيَّة..

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

عماد قسّيس: سعيد نفّاع العرب الدّروز 48 وحجارة الرّحى- (الواقع والتحدّيات) وجهات نظر دراسيّة”

  عندما اتّصل سعيد نفّاع ليطلب منِّي تقديم هذه المداخلة عن كتابه، كنت أقرأ كتابا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *