ناجي ظاهر: في اللّغة والإبداع الأدبيّ

ناجي ظاهر
يتّفق المُهتمون بالأدب واللغة، أن لكل من هذين عالمه الخاص به، وأن للأدب عالمه الخاص به، كذلك للغة. يوضح هذا أن هناك مَن يدرس الادب ويتخصّص فيه وهناك في المقابل، مَن يدرس اللغة ويتخصّص فيها، هذا ما هو متعارف عليه، إلا عند البعض من شُداة الادب ومحبيّه المزعومين النابتين في بلادنا، خاصة في الفترة الأخيرة كالفطر، ذلك أن هؤلاء يتجاهلون الجماليات الأدبية ممثّلةً باللغة الفنّية، ويشددّون على اللغة المعيارية، مُشددين على سلامتها فقط. لقد أحدث هذا كله بلبلة كبيرة لدى الكثيرين، لا سيّما مِن أولئك المُحبّين الادبيين، فركّزوا على السلامة اللغوية، ووضعوا اللغة الفنية على رفوف الانتظار، فنحن يُفترض أن نُتقن اللغة صرفًا ونحوًا، حتى لا ينتقدنا منتقدون، وقد أدى هذا الوضع، او الفهم الخاطئ، إلى أمرين كلاهما مُرّ، أحدهما أن الأنظار توجّهت إلى اللغة نحوًا وصرفًا كما سلف، والآخر أن العمل الابداعي الادبي الفنّي، وُضع في خانة ثانوية، بدلًا من أن يوضع في خانة رئيسية، في حال التحدث عن الادب. أما النتيجة فقد جاءت مُدمّرة، ذلك أن هذا المفهوم الخاطئ للأدب والابداع، جعل مِن مُعلّمي اللغة العربية موجّهين للعملية الإبداعية الأدبية، مُنحّين بذلك، أهل المعرفة في علم الادب ومفاهيمه الجمالية جانبا، ومتصدّرين المشهد، الامر الذي دفعنا إلى كتابة هذه الكلمات.
يقينًا أن اللغة المعيارية بمفهومها الجامد الجاف، تختلف عن الادب الفنية بمفهومه اللدن الطريّ، ففي حين أن اللغة في مفهومها المعياري تُعتبر أداة تواصل بين الناس، فإنها تتحول في العمل الادبي الفنّي إلى أداة جمالية، لها مساهمتُها الكبرى والحقيقية في عملية الجذب الادبي، صحيح أنه يُفترض في كلّ مَن يُريد أن يكتب وان يبدع، أن يعرف المبادئ الأولية وأكثر من مبادئ اللغة، نحوًا وصرفًا تحديدًا، لكن صحيح أيضًا أن الكاتب المُبدع يُحاسب في النهاية على قدرته في الخلق والابداع، ممثّلًا في إثارة الدهشة عبر الإغراب، وفق تعبير الناقد القديم، الأكثر حداثة من الكثير من نقاد عصرنا، وعبر الانزياح عن اللغة اليومية العادية، كما يرى العديد من النقاد المعاصرين.
توضيحًا لهذا، نقول إن هناك عالِمًا لغويًا، وهناك في المقابل مُبدع أدبي، وقد أدى هذا الفهم الواعي للأدب واللغة، الى قيام دور النشر المعروفة بثقلها في العالم، وبعض دور النشر ذات السمعة الطيّبة في عالمنا العربي، بتعيين مُحرّرين أكفاء، يُراجعون بدقة ما يقدمه كتّاب مبتدئون وممن اصلب عودهم أيضًا، ويقومون بتصويب الأخطاء اللغوية، كما يقومون بتحرير الكتاب مما قد يقع فيه من أخطاء فنّية، لكن هذا موضوع آخر.
في الصحافة العربية عامةً، وفي الصحافة والاعلام في بلادنا خاصةً، قام المسؤولون بتعين مُحرّر فنّي وآخر لغويّ، هذا ما كان عليه الامر، عندما كانت الصحافة الورقية على ظهور خيلها، أما اليوم، ونحن نتحدّث عن الوضع في بلادنا وليس في أي مكان آخر، لأن مثل هكذا أوضاع تختلف من بلاد إلى أخرى، فقد أدى الابتعاد التدريجي عن الصحافة الورقية، إضافة إلى ظُهور وسائل التواصل الاجتماعي، أدى نوعًا ما إلى اضمحلال دور المحرّر والمدقّق، فاختلط الحابل بالنابل كما يقال، وتفاقم الوضع عندما بات بإمكان أي أحمق أو رعناء، النشر في الوسائل المذكورة دون حسيب أو رقيب. هكذا، وفي هذه الاثناء، انبرى مَن يعرف ومَن يعرف أقل أو لا يعرف ويدّعي أنه يعرف، إلى اقتراح التصويبات على ما يُنشر، في وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة للضيوف الجدد على مائدة الادب من مبتدئين ونساء، وقد تعقّد الأمر أكثر، عندما اقتنع الكثيرون من هؤلاء، انهم يجب أن يتوجّهوا إلى مَن يُدقّق ويصوّب لهم ما يكتبونه من الناحية اللغوية فقط.
إحدى النتائج المُثيرة والمحزنة لهكذا وضع، جاءت على النحو التالي، حاليًا أريد أن أكتب بلغة سليمة لا ينتقدها ناقد، وربّما كان عليّ أن اطلب مِن نفسي، تعلُّم اللغة واسسها خاصة نحوًا وصرفًا، كي أتخلّص مما قد يُوجّه إلي من نقد، أما الجانبُ الإبداعي الفنّي للكتابة الابداعية، فهذا أمر يمكن تأجيلُه. عليه ساهم هذا كله في انخفاض المستوى الإبداعي للكتابة الأدبية، وشرع بالإساءة الكبرى مُمثلة بصرف الكثيرين مِنَ القُرّاء عن قراءة ما يُنشر من تُرّهات، وقد جاءت النتيجة فيما يتعلّق بنشر الكثير من الكلام الفارغ.. بادعاء انه ينتمي إلى قصيدة النثر، إلى انصراف الناس بشكل عام طبعًا عن قراءة الشعر أولًا وإلى انصراف الناشرين عن طباعة المجاميع الشعرية إلا على حساب أصحابها ثانيًا.
لمن لم يقتنع بما نقوله ونذهب إليه، عن الفرق بين الادب واللغة، نقول له إن أدبنا العربي القديم والجديد أيضًا، عرف الكثير من عُلماء اللغة وعارفي أسرارها، ولنقدم مثلين من عالمنا القديم واستمراره الجديد، ولنختر مِنَ القديم سيبويه صاحب الكتاب، الذي يعتبر من مؤسسي علم اللغة والمقعدين له، ومِن الجُدد عباس حسن صاحب النحو الوافي، ولنطرح السؤال الصعب، هل قرأ أحدكم عملًا ادبيًا لافتا وذا قيمة أدبية خاصة، لأي من هذين، الإجابة كلا بالطبع.
مُجملُ القول إنه يُطلبُ مِنَ الكاتبِ الاديب، أن يولي العملية الإبداعية جُلّ اهتمامه، ولا باس في أن يطوّر مِن معرفته اللُغوية، نحوًا وصرفًا تحديدًا، فبين اللغة والابداع الادبي علاقة غير هينة وليست بسيطة، ونحن في النهاية سنحاسبُ الكاتبَ الاديَب على عطائه الفنّي، والويل لنا إذا ما قيّمناه بخطأ لغوي، يُمكن تصويبه والانطلاق من ثم قدمًا نحو الابداع الادبي الفني الجميل.
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.