صباح بشير: أن تكون رفيقا للكتاب

صباح بشير:
أن تكون رفيقا للكتاب
إنّ ولوج رياض الكتب لهو رحلة سامية، تحلّق بالرّوح في فضاءات رحبة، وتشبع العقل بشتّى أنواع الحكمة والبصيرة، إنّه صعود بالنّفس إلى أوج المعرفة الفسيحة، وبساتين الجمال البهيّة الّتي لا تذبل.
فأن تكون رفيقا للكتاب يعني أن تسير في دروب النّور وقد أضاءت حروفه أيّامك، تتّخذه مرجعا وموردا، وتخلق منه أجنحة تحلّق بها في عالم مفتوح، تطلّ منها على نوافذ الكون، وتسافر في رحلة الفكر إلى ما وراء المعنى، مطلقا سراح الهديِّ في روحك، ومنعتقا من أسر الفكر وقيوده، تنسدل على كتفيّك نسائم الرّضا والسّرور، تنتعش روحك ويرتوي فكرك، وتتجلّى أمام عينيك أسرار الوجود، وكأنّك قد أوتيت مفاتيح الغيب، تفتح بها كلّ باب موصد، وتبصر كلّ خفي، لتغدو أنت القارئ والمقروء، في وحدة فريدة مع الكون وما فيه؛ فعلى جناحيّ الكتاب تحلّق المعاني، وبين دفتيّه تتفتّح أزاهير الحياة، تقلب الصّفحات فتسفر الكلمات عن وجوه بهيّة، وكأنّ الكتاب روح ناطقة، تترجم صمت الوجود إلى بوح مبين.
هو الكتاب إذن.. ذلك الفلك الذّهبيّ الّذي يُنَجّي الغارقين في لجج الجهل، نحمله على أكتاف الرّوح؛ لتبزغ شمس العقل في سمائنا، وإذ نتّخذ من حروفه وسائد، نرى أحلامنا تحلّق نحو النّجوم، وتزهر في أعماقنا دهشة لا تذوي.
نقرأ.. فيعرفنا القرطاس والقلم، والخيل واللّيل مرحّبة، تتسابق بنا لنبلغ فجرنا الجديد. وحينئذ، تستيقظ البصيرة على وهج البيان، فنمعن فيه عشقا وتعمّقا حتّى تصدح حناجرنا بالنّشيد، كأنّنا ناي يشدو بألحان الرّوح، ثمّ يصحو الوعي على سحر البيان وروعة الإنشاد.
فيا أيّها الوافد إلى عالم الكتاب، توقّف لحظة بين ورقتين؛ لتصير شجرة، وإن لاح لك حكماء يتلذّذون بالصّمت ويمجّدون أوراق الكتب، فاعلم أنّك أوشكت على الوصول، فما من شيء يشدّك نحو النّور غير الكتاب، وما من باب يفضي إلى الحقائق سواه.
أيّها السّاعي وراء المعنى، لقد تربّع الأوّلون على عرش التّاريخ، وخطّوا بأياديهم دروب النّجاة على صفحاته الخالدة، ثمّ أودعوها رياح الأزمان لتبحر بها إلى حيث يشاء القدر، فإن رامت روحك أن تعانق وهج النّور، فما عليك إلّا أن تفتح كتابا. عندئذ، سيتّضح لك أنّ النّداء الخفيّ الّذي يصدح في أعماقك، ليس سوى صدىً لما تسمعه روحك كلّما قلبت صفحة وطويت أخرى. وصفحة بعد صفحة، تزهر النّفس وتغدو أكثر عمقا، تشرق شمس اليقين في فؤادك، وتأخذ الأفكار والكلمات دلالاتها البعيدة، تنساب في أعماق روحك، وتسطع كنصلٍ يتلألأ تحت وهج الحقيقة، فتغدو أكثر وضوحا، وتكتسب الرّؤية صورتها الأصفى والأنقى وقد عرَفَت سبيلها، إذ لا حاجز يحول بينها وبين صفاء الرّؤى، فالنّور نقيّ بسيط، والأبواب المغلقة تتهاوى أمام سحره وكماله.
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.