بروفيسور خالد سنداوي:مقاربة نقديّة لكتاب “كأن تكون فلسطينيّا” للدكتور فيصل درّاج

 

بروفيسور خالد سنداوي:

كتاب “كأن تكون فلسطينيا” لفيصل دراج هو واحد من أهم ّالكتب التي تناولت القضية الفلسطينيّة من زاوية فلسفيّة ونقديّة عميقة، حيث يناقش فيه الكاتب مفهوم الهوية الفلسطينيّة في ظلّ التحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني، سواء داخل الأراضي المحتلّة أو في الشتات. الكتاب يطرح رؤية معقّدة للقضية الفلسطينية ويمزج بين التحليل التاريخي والاجتماعي والنفسي للواقع الفلسطيني المعاصر.

يعدّ كتاب “كأن تكون فلسطينيا” من نوع الأدب السياسي والفكري الفلسفي. لا يمكن تصنيفه فقط ضمن فئة الكتب التاريخية، أو السياسيّة التي تتناول القضية الفلسطينيّة، بل هو كتاب يجمع بين الفكر الفلسفي، التحليل النفسي الاجتماعي، والنقد الثقافي يُسلّط الكاتب فيصل دراج الضوء في هذا العمل على الهوية الفلسطينيّة من منظورٍ معقد يتجاوز المعطيات السياسيّة البسيطة ليغوص في أعماق الكينونة الفلسطينيّة، مشيرا إلى الصراع الداخلي للفلسطينيين بين وجودهم الفعلي وهويتهم الثقافية.

يُعدّ هذا الكتاب محاولة جادّة لفهم الهويّة الفلسطينيّة في سياقها الوجودي والفلسفي. يبتعد فيصل دراج عن المعالجة التقليديّة للموضوعات السياسيّة، أو الإخبارية ليطرح مفهوم الهوية الفلسطينيّة كفكرة حيّة تتشكّل من مزيج معقد من الذاكرة، الجغرافيا، الثقافات، والنضال. ولذلك، يُصنف الكتاب ضمن الأدب الفلسفي المعاصر الذي يسعى إلى تأصيل فهم جديد لما يعنيه أن يكون الشخص فلسطينيا في عالم مليء بالتحديات الكبرى من الاحتلال، الشتات، وتدمير الهوية.

إلى جانب بُعده الفلسفي، يمتلك الكتاب خصائص أدبية عالية، حيث يقوم فيصل دراج بتوظيف اللغة الأدبية بشكل مكثّف، ليُحوِّلَ القضيةَ الفلسطينيةَ إلى موضوع يتجلّى فيه صراع الوجود بين الواقع والذاكرة. الكتاب يمزج بين الأسلوب الأدبي والتحليل النقدي، مما يجعله غنيا بالصور الأدبية والرمزية التي تبرز تجارب الفلسطينيين مع الاحتلال والتشرد، كما يعكس رؤاهم الثقافية والفكرية في ظل هذا الواقع المأساوي.

على الرغم من أنّ الكتاب لا يتناول القضية الفلسطينية من زاوية تاريخيّة بالمعنى التقليدي، إلا أنّه يعتمد على التاريخ الشخصي والجمعي للفلسطينيين، مع التركيز على تجارب النكبة، التهجير، والشتات كعناصر أساسية تُشكل الذاكرة الوطنية الفلسطينية. لذا، يمكن القول إنّ الكتاب يقدّم قراءة تاريخية غير تقليدية تبتعد عن سرد الأحداث السياسية المعروفة لتسعى لاستكشاف الآثار النفسية والثقافية التي خلّفها التاريخ على الفلسطينيين.

بينما يغلب على الكتاب الطابع الفلسفي، إلا أنّه لا يمكن فصل الرسالة السياسية التي يتضمنها. إذ يركز فيصل دراج على مقاومة الاحتلال والتمسّك بالهوية كجزء أساسي من الوجود الفلسطيني في العصر الحديث. الكتاب يقدم نظرة فلسفية إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بحيث يُعَبر عن الوجود المقاوم كجزء من صراع مستمر ضد محاولات تذويب الهوية الفلسطينية، سواء على الصعيد الجغرافي أو الثقافي.

يمكن تصنيف كتاب “كأن تكون فلسطينيّا” ضمن الأدب الفلسطيني المعاصر الذي يبحث في الهوية والوجود في ظل الاحتلال، وهو جزء من الحركة الفكرية التي ظهرت بعد النكبة مباشرة واستمرت حتى يومنا هذا. يعتبر الكتاب إضافة مهمة إلى الأدب الفلسطيني الذي يتناول الذاكرة الثقافية للفلسطينيين وحياتهم اليومية في الشتات أو الأراضي المحتلة.

على مستوى الأدب العربي، يأتي هذا الكتاب ضمن المؤلّفات النقدية الفلسفية التي سعت لتقديم قراءة جديدة للقضية الفلسطينية. من جهة أخرى، على المستوى العالمي، يشكل الكتاب مدخلا لفهم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور إنساني وثقافي، بعيدا عن السرد التقليدي للأحداث. وهو بذلك يمثل حوارا فكريا بين الثقافات المختلفة حول قضايا الوجود والهوية، خاصة في عالم يعجّ بالصراعات والتمزقات.

من حيث الزمن، يمكن تصنيف الكتاب ضمن الكتب التي ظهرت في بداية القرن الواحد والعشرين، حيث يتناول العديد من القضايا المعاصرة التي تؤثّر في الفلسطينيّين سواء داخل الأراضي المحتلّة أو في الشتات. وهو يأتي في وقتٍ يعيد فيه الفلسطينيّون التفكير في مستقبلهم ومقاومتهم في مواجهة التحوّلات السياسيّة الكبرى في المنطقة.

على الرغم من الطابع الفلسفي للنصّ، لا يخلو الكتاب من طابع إنساني وجداني. فهو يعبّر عن معاناة الشعب الفلسطيني ومأساته التي لا تنتهي، ولكنّه في نفس الوقت يبرز صمودهم وقوّة إرادتهم في مقاومة محاولات الإلغاء، وهذا يظهر في تسليط الكتاب الضوء على الوجود الفلسطيني بشكل إنساني عميق.

الموضوعات الرئيسيّة في الكتاب:

1.الهوية الفلسطينية في كتاب “كأن تكون فلسطينيّا” لفيصل دراج

مفهوم الهوية الفلسطينية في الكتاب: في كتابه “كأن تكون فلسطينيّا”، يتناول فيصل دراج قضية الهوية الفلسطينية باعتبارها موضوعا معقدا ومتشابكا لا يمكن حصره في بُعد واحد فقط، بل هو مزيج من الذاكرة، والتاريخ، والثقافة، والمقاومة. في هذا العمل، يشير دراج إلى أن الهوية الفلسطينية ليست مجرد كيان ثابت أو محدد، بل هي حالة ديناميكية تتشكل باستمرار من خلال الصراع المستمر، سواء كان هذا الصراع سياسيا، عسكريا، أو ثقافيا.

الهوية الفلسطينية في هذا السياق هي أكثر من مجرد انتماء جغرافي، فهي وجود ثقافي ونفسي لا يمكن مسحه أو محوه بأي سياسات استعمارية أو تطهير عرقي. وتطرح هذه الهوية تحديات متعددة، حيث أن الفلسطينيين في الشتات أو تحت الاحتلال يواجهون محاولات لتشويهها أو إلغائها. من خلال هذه الصراعات، تستمر الهوية الفلسطينية في النمو والتطور لتصبح رمزا للمقاومة والصمود.

في البداية، يرفض دراج الفكرة السائدة عن الهوية على أنها ثابتة أو محددة جغرافيا. فالهوية الفلسطينية لا تقاس فقط بموقع جغرافي أو حدود سياسية، بل هي هوية متغيرة ومتجددة. إن الفلسطيني الذي يعيش في مخيمات الشتات في لبنان أو سوريا، أو الذي يعيش في الأراضي المحتلة أو في الشتات العالمي، يظل فلسطينيا لأن هويته ليست محكومة بالجغرافيا، بل بالذاكرة المستمرة للأرض وللتاريخ المشترك.

دراج يشير إلى أنّ الهوية الفلسطينية ليست مجرد شعور بالانتماء إلى مكان، بل هي مجموع التجارب التي مر بها الشعب الفلسطيني، من النكبة إلى التهجير، ومن الاحتلال إلى المقاومة الثقافية والسياسية. الذاكرة الجماعية تلعب دورا محوريا في تشكيل هذه الهوية. فالنكبة وما تلاها من تهجير، على الرغم من أنها حادثة مأساوية، أصبحت جزءا من الهوية الفلسطينية ومكونا رئيسيا في الذاكرة الثقافية لكل فلسطيني.

الذاكرة الفلسطينية هي أحد الأعمدة التي يستند إليها مفهوم الهوية في الكتاب. الذاكرة في هذا السياق ليست مجرّد تذكر للماضي، بل هي أداة مقاومة بحدّ ذاتها. يتحدّث فيصل درّاج عن كيف أنّ الفلسطينيين يحافظون على ذاكرتهم الجماعية عبر الأجيال، فكل فلسطيني في الشتات أو في الأراضي المحتلة يحمل في داخله صورا حية من التاريخ الفلسطيني، من البيوت القديمة في القرى المهجرة، إلى الراية الفلسطينية التي لم تنكسر، إلى القصائد الشعبية والموسيقى التي تحمل ذاكرة الشعب الفلسطيني.

وإحدى النقاط الحاسمة التي يناقشها دراج هي كيف أنّ الاحتلال حاول طمس هذه الذاكرة من خلال الاستيطان والتفريغ الثقافي، إلا أنّ الشعب الفلسطيني ظلّ متمسّكا بذاكرته لأنّه يرى أن~ الذاكرة هي سلاح أساسي في معركة البقاء، وهي ما يحفظ الهوية الفلسطينية حية رغم التحديات المستمرة.

كما ويمثل الشتات الفلسطيني جزءا هامّا من تشكل الهويّة الفلسطينيّة في الكتاب. فلا يقتصر الأمر على الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، بل يتناول دراج الشتات الفلسطيني كظاهرة حياتيّة مستمرّة تلعب دورا كبيرا في الحفاظ على الهويّة الفلسطينيّة. الفلسطينيون الذين يعيشون في المنافي والمخيمات لا يزالون يحملون في وجدانهم الحلم بالعودة إلى ديارهم.

في هذا الإطار، يقول درّاج إنّ الشتات الفلسطيني لم يكن مجرّد هجرة أو نزوح، بل كان تجربةَ تشكيلٍ جديدةٍ للهويةِ الفلسطينيةِ، إذ أنّ كلَّ فلسطينيِ في المنافي لا يزال يعيش في ذاكرة المكان وثقافة الأرض، ويستمرّ في نقل هذه الثقافة للأجيال القادمة، ممّا يساهم في الحفاظ على الهوية الفلسطينيّة.

لا يمكن الحديث عن الهوية الفلسطينية في كتاب درّاج دون التطرّق إلى المقاومة كجزء أساسي من هذه الهوية. فبالنسبة لفيصل دراج، لا تمثل الهوية الفلسطينية مجرّد تمسك بالماضي أو بالذاكرة فحسب، بل هي تمسك بالحياة والقدرة على المقاومة في مواجهة جميع محاولات الإلغاء. الهوية الفلسطينية، في هذا السياق، تصبح مقاومة ثقافية واجتماعية ونفسية، ليست فقط في مواجهة الاحتلال العسكري، بل في مواجهة كل محاولات الذوبان في ثقافات أخرى أو إلغاء الوجود الفلسطيني .والمقاومة الفلسطينية هنا تتجاوز كونها مجرّد حركات مسلّحة، فهي تتجسّد أيضا في التمسّك بالثقافة الفلسطينية، مثل اللغة، العادات، الأغاني الشعبية، القصص، والموسيقى التي تجعل الفلسطيني دائما في حالة مقاومة ضدّ محاولة محو هويته.

يشير درّاج أيضا في متن سيرته إلى أنّ الهوية الفلسطينيّة ليست مجرّد عنصر ثقافي أو تاريخي ثابت، بل هي مركب معقّد يتألف من أبعاد متشابكة: البُعد الثقافي، التاريخي، النفسي، والجغرافي. الفلسطيني، وفقا لدرّاج، هو الذي يعيش في هذا التداخل بين الذاكرة الجمعيّة والتجربة الشخصيّة، بين الواقع القاسي والتطلعات المستقبلية. الهوية الفلسطينية، في النهاية، هي نتاج تفاعل مستمر بين الفرد والمجتمع، بين الماضي والحاضر.

يشير درّاج إلى أنّ الفلسطينيين يتعرّضون اليوم لعديد من التحدّيات التي تهدّد هويّتهم، بدءا من محاولات التهجير القسري والاستيطان في الأراضي الفلسطينيّة، إلى محاولات طمس الثقافة الفلسطينيّة في أماكن الشتات. حيث يواجه الفلسطينيون محاولات من قبل الاحتلال الإسرائيلي لإعادة تعريف الهوية الفلسطينية، بحيث تُختزل في صورة اللاجئ أو الإرهابي، وليس في سياق الشعب المكافح الذي يمتلك تاريخا طويلا من المقاومة.

ومع ذلك، يجد الفلسطينيون في هذه التحدّيات فرصة للتأكيد على هويّتهم وتمسّكهم بالأرض وبالتراث الثقافي، ممّا يجعل الهويّة الفلسطينيّة أكثر قوّة ومقاومة على الرغم من محاولات التشويه.

ولا يقتصر دراج على تقديم الهوية الفلسطينية كظاهرة تاريخية، أو ثقافية، بل يناقش تطوّر هذه الهوية في العصر الحديث. ففي مواجهة العولمة، واحتلالات متعدّدة، وتغيرات سياسية في المنطقة، يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة تحدّيات جديدة، خاصّة فيما يتعلّق بتوسيع نطاق تعريفهم لأنفسهم في محيطهم الدولي. في هذا السياق، يطرح الكتاب أنّ الهوية الفلسطينية تظلّ حيّة وقويّة بفضل التطوّر المستمرّ لها، وبفضل تمسّك الشعب الفلسطيني بجذوره وبالذاكرة المشتركة التي لا يمكن لأيّ قوى خارجيّة محوها.

خلاصة القول في الهوية الفلسطينية: الهوية الفلسطينية ليست مجرّد مصطلح سياسي أو اجتماعي، بل هي وجود حيوي ومقاوم يتشكل من خلال الذاكرة الجماعية والتاريخ الطويل من المعاناة والصراع. هذه الهوية لا يمكن اختزالها في الجغرافيا أو السياسة، بل هي مزيج من الذكريات الثقافية، التجارب الفردية، والمقاومة المشتركة. وبينما يعاني الفلسطينيون من تهديدات متواصلة لوجودهم، فإن هويتهم تظل حاضرة وقوية، متجددة على مر الأجيال، لأنها ليست مجرد إرث ثقافي، بل أيضا رؤية للمستقبل تتمثل في مقاومة الاستعمار والاحتلال والمحافظة على الحق في العودة.

2.الذاكرة والتاريخ:
يبرز دراج كيف أنّ الذاكرة الفلسطينية تلعب دورا محوريا في إبقاء القضية الفلسطينية حية، وتساهم في الحفاظ على روابط الفلسطينيين بأرضهم وبتراثهم الثقافي. يتعرض الكتاب لتأثيرات النكبة والنكسة في تكوين الذاكرة الجماعية الفلسطينية.

3.الصراع السياسي والإنساني:
يتطرّق الكتاب إلى التحديات اليومية التي يواجهها الفلسطينيون، خاّصة في الأراضي المحتلة. يسلّط الضوء على الحواجز النفسية والفيزيائية التي فرضتها سياسات الاحتلال، وكذلك محاولات الفلسطينيين لتحقيق العدالة والحرية.

الرؤية الفلسفية للكتاب:

رؤية فيصل دراج الفلسفيّة في كتابه “كأن تكون فلسطينيّا” تتعدّى كونها مجرّد معالجة لحالة الشعب الفلسطيني من منظور تاريخي أو سياسي، بل تمثّل تفكيرا عميقا في الوجود والهويّة والمقاومة. يتبنى دراج في كتابه منهجا فلسفيا يعيد التفكير في الإنسان الفلسطيني ككائن متجذّر في تاريخه وثقافته، في مواجهة محاولات النفي والطمس التي تهدف إلى محو هويته ووجوده.

واحدة من أبرز الرؤى الفلسفية التي يطرحها فيصل دراج في كتابه هي فكرة الوجود الفلسطيني بوصفه فعل مقاومة مستمرّ ضدّ محاولات الإلغاء. يعكس الكتاب فلسفة الوجود التي لا تقتصر على مجرد البقاء أو الوجود الجغرافي، بل على تمسك فلسطينيي الشتات والذين يعيشون تحت الاحتلال بهويتهم الثقافية وتاريخهم، في ظل التحديات المتمثلة في التهجير، الاحتلال، ومحاولات تشويه الثقافة الفلسطينية.

يرى درّاج أنّ الهويّة الفلسطينيّة لا يمكن أن تُفهم كأمر ثابت، أو ثابتة فقط في سياق جغرافي، بل هي فكرة حيّة ومتحرّكة تتشكل في كلّ لحظة من خلال التجربة الفلسطينيّة المستمرّة مع الألم والحرمان، لكنّها في نفس الوقت قادرة على الانبعاث والنمو في كلّ جيل جديد، ممّا يجعلها أكثر من مجرّد تعبير عن مكان وزمان معين.

في هذا السياق، يطرح دراج سؤالا فلسفيا محوريا: “ما الذي يعنيه كأن تكون فلسطينيّا في عالم تزداد فيه المحاولات لتفكيك الهوية الإنسانية؟”. يربط هذا السؤال بين الوجود الفلسطيني و الزمن، حيث يرى أن الفلسطينيين، مهما كانت التحديات، يظلون موجودين من خلال ارتباطهم بالتاريخ، بالمكان، بالذاكرة.

فيما يخص الذاكرة، لا يتعامل فيصل دراج مع الذاكرة الفلسطينية فقط كحافظة للماضي، بل كـ قوة فلسفية تحافظ على الوجود الفلسطيني. يشير إلى أن الفلسطينيين، في الشتات أو تحت الاحتلال، يظل لديهم ذاكرة حية تمكنهم من مقاومة محاولات الإلغاء من خلال الحفاظ على التاريخ الثقافي و الرموز التي تمثل الهوية. فالذاكرة الفلسطينية، وفقا لدراج، ليست مجرد أداة للحفظ، بل فعل مقاوم يجعل الفلسطيني قادرا على البقاء في الحاضر والحفاظ على حيويته المستقبلية.

يعكس هذا التفكير الفلسفي حول الذاكرة ما طرحه الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون حول أهميّة الذاكرة كأداة حيوية تتخطى البُعد الزمني. فالفلسطينيون لا يعيدون فقط بناء ماضيهم، بل يعيدون بناء وجودهم الثقافي باستمرار في مواجهة كل محاولات الإلغاء.

الرؤية الفلسفيّة التي يقدّمها فيصل دراج في الكتاب تتجاوز القضايا الوطنية لتطرح أسئلة إنسانية كبرى. على الرغم من أنّ الكتاب يتناول القضايا السياسية الفلسطينية بشكل مباشر، إلا أنّ دراجّا يتطرّق إلى مسألة الحريّة والكرامة الإنسانيّة بشكل فلسفي عميق. الفلسطيني بالنسبة لدراج ليس مجرّد ضحية لمأساة الاحتلال، بل هو فرد يبحث عن حرية وكرامة في إطار إنساني أوسع. هذه الفكرة تتماهى مع الفلسفة الوجودية التي تؤمن بأن الإنسان هو الفاعل في بناء معناه في الحياة، وأن الحرية هي السبيل لتحقيق هذا المعنى.

من خلال هذا المنظور الفلسفي، تصبح المقاومة الفلسطينية أكثر من مجرد كفاح سياسي، بل فعل وجودي ينطلق من صميم الإنسان الفلسطيني الذي يتحدى موت الإنسان على يد الاحتلال ويرفض أن يُمسح وجوده الثقافي. المقاومة لا تُعتبر مجرد فعل عسكري، بل أيضا فعل ثقافي وفكري يستمر في مواجهة الأزمات.

ينظر دراج إلى المقاومة ليس فقط كفعل سياسي أو عسكري، بل كفعل فلسفي ووجودي. إنها مقاومة للظلم، للتمييز، وللعنصرية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي. ولكن في الوقت نفسه، تعد المقاومة بالنسبة له فرصة للتغيير الثقافي والتحول الفكري الذي يساهم في إعادة بناء الذات الفلسطينية.

دراج يتبنى فكرة أن المقاومة الثقافية هي الطريقة الأسمى لرفض محاولات الاحتلال في محو الهوية الفلسطينية، فهي ليست مجرّد ردّ فعل على ظلم معين، بل هي فعل فلسفي متجذر في الجذور الثقافية والتاريخيّة لهذا الشعب. فالمقاومة ليست فقط ضد الاحتلال العسكري، بل هي مقاومة ضد الذوبان الثقافي والتغيير القسري للهوية الفلسطينية.

من جانب آخر، يمكن أن نرى أن الوجود الفلسطيني يواجه تناقضات فلسفية عميقة. الفلسطيني في الشتات، أو تحت الاحتلال يعيش في حالة من الغربة والتمزق الداخلي، فهو يتنقل بين الوجود الواقعي الذي يعيشه وبين الذاكرة الثقافية التي تحافظ على جزء من هويته. هذه التناقضات بين الواقع والذاكرة تصبح محورا فلسفيا يعكس حالة الاغتراب التي يعاني منها الفلسطينيون، والتي قد تثير تساؤلات حول الحقيقة والوجود في سياقات مليئة بالتشويش والإنكار.

وبالرغم من هذه التناقضات، تبقى فكرة التمسّك بالهوية والنضال من أجل الحرية أشكالا من الثبات الفلسفي في وجه التغيرات المستمرة. الفلسطيني لا يُعرَف فقط من خلال مصير الاحتلال، بل يُعرَف من خلال أفعاله المقاومة التي تخلق أفقا للحرية والتغيير.

في سياق فلسفة الوجود الفلسطيني المعاصر، يطرح دراج فكرة أنّ الفلسطينيّين يعيشون في عالم مشوّه، عالم ما بعد النكبة والتشريد، حيث يعانون من تآكل الأرض، وفقدان المعالم الثقافية والتاريخية. في هذا العالم، تصبح الهوية الفلسطينية شيئا غير ثابت بل متحرّك، يقاوم التشويه.

لا يعرض درّاج الفلسطينيين كضحايا، بل كأفراد يقاومون قسوة العالم، ويحافظون على وجودهم بالتمسّك بـ “الذاكرة الجماعية”، وهذا بدوره يرتبط بمفهوم الفلسفة السياسية التي ترفض الإلغاء وترى في النضال البشري وسيلة للبقاء.

الرؤية الفلسفية في كتاب “كأن تكون فلسطينيّا” لفيصل دراج تمثّل تأملا عميقا في الوجود الفلسطيني والهوية الثقافية في مواجهة الاحتلال والتهجير. من خلال هذه الرؤية، تتجاوز الهوية الفلسطينية البُعد الجغرافي، لتصبح فكرة حيّة ومقاومة تنتقل عبر الأجيال عبر الذاكرة والثقافة. تدور فلسفة الكتاب حول الحرية، المقاومة الثقافية، والتغيير الفكري كأساس لبقاء الشعب الفلسطيني واستمرار وجوده، ليُظهر كيف أن الفلسطيني لا يتوقف عن مقاومة محاولات الإلغاء والتشويه، بل يستمر في إعادة تشكيل ذاته وهويته في وجه كل الظروف الصعبة التي يمر بها.

أسلوب الكتابة:

يعتبر أسلوب الكتابة في كتاب “كأن تكون فلسطينيّا” لفيصل درّاج من أهمّ العناصر التي تُميز هذا الكتاب وتجعله عملا فكريّا وأدبيّا عميقا. الأسلوب الذي يتبعه الكاتب يتّسم بعدّة سمات بارزة، تتراوح بين الأسلوب الأدبي، الأسلوب الفلسفي، والأسلوب النقدي. هذه الأساليب لا تقتصر على نقل الأفكار فقط، بل تحمل طابعا شاعريّا وجدليّا يساهم في تعزيز المضمون العميق للقضية الفلسطينيّة. دعنا نتناول أبرز جوانب الأسلوب الكتابي في الكتاب:

رغم أن ّالكتاب يتناول موضوعا سياسيا بحتا، إلا أنّ أسلوب الكتابة فيه يمتاز بكونه أدبيا رفيعا، معتمدا على الصور البلاغية والاستعارات التي تُعطي النصّ طابعا إنسانيّا وعاطفيّا عميقا. لا يقتصر فيصل دراج في الكتاب على السرد الواقعي للأحداث الفلسطينية أو على الوقائع التاريخية الجافة، بل يحاول أن يجعل النص ينبض بالحياة من خلال اللغة الشعرية التي تلامس وجدان القارئ.

الأسلوب الأدبي الذي يستخدمه يعتمد على التوصيف الدقيق للأماكن والأشخاص والمشاعر، ممّا يخلق صورا حيّة للمكان الفلسطيني قبل وبعد الاحتلال، وأيضا صورة الشتات الفلسطيني الذي يعيش في المنافي. في هذا السياق، نجد أنّ اللغة البلاغيّة تُستخدم بشكل متقن لتجسيد المعاناة الفلسطينيّة، حيث يُقدّر القارئ أنّ النصّ لا يكتفي بنقل المأساة، بل يحاول أن يثير التفاعل العاطفي والوجداني لدى القارئ.

إنّ الكتاب لا يتناول القضية الفلسطينيّة من زاوية تاريخيّة، أو سياسيّة تقليديّة فحسب، بل يعكس أيضا رؤية فلسفيّة حول الوجود الفلسطيني، والهوية الفلسطينيّة، والمقاومة. أسلوب الكتابة في هذا السياق تأملي عميق، يتجاوز السرد إلى تفكير نقدي في الأسئلة الوجودية الكبرى: ماذا يعني كأن تكون فلسطينيّا في عالم يمزقه الاحتلال والتشريد؟ كيف يمكن للفلسطيني الحفاظ على هويته في ظل محاولات الإلغاء؟

يطرح درّاج هذه الأسئلة بأسلوب فلسفي يعكس فهما عميقا لتاريخ الشعب الفلسطيني، ويستعين بمفاهيم فلسفية وإنسانية مثل الحرية، الذاكرة، والهوية، حيث يدمج بين النظرية والتجربة الشخصية والعاطفية، مما يُكسب الكتاب بعدا فكريا عميقا.

لا يقتصر الأسلوب الفلسفي في الكتاب على الأجوبة النهائية، بل يُحفز القارئ على التفكير والتأمل في الواقع الفلسطيني بطريقة غير تقليدية. على سبيل المثال، لا يعرض دراج القضية الفلسطينية كقضية فردية أو محلية فحسب، بل يطرحها كقضيّة إنسانيّة كونيّة تُلامس قضايا الوجود والحرية والتسلّط، ويقوم بذلك بأسلوب شاعري مفكر يتجاوز البُعد السردي التقليدي.

كما ويتميّز أيضا أسلوب دراج في الكتاب بالنقد الفكري والتحليل العميق للواقع الفلسطيني والظروف المحيطة به. الكتاب ليس مجرّد سرد للوقائع، بل هو بمثابة تحليل نقدي للمجتمع الفلسطيني وتاريخه، وللطريقة التي تعامل بها العالم مع القضية الفلسطينيّة. يُظهر دراج قدرة كبيرة على التحليل الثقافي والاجتماعي، حيث يستعرض كيف أثر الاحتلال في الهوية الفلسطينيّة وكيف حاول العديد من الجهات الأجنبية والمجتمعات المحلية تزييف أو تشويه هذه الهوية.

في هذا السياق، لا يتردّد درّاج في نقد المواقف السياسية والاجتماعية التي قد تساهم في تآكل الهوية الفلسطينية، مستعرضا التناقضات التي قد تكون موجودة داخل المجتمعات الفلسطينية سواء في الداخل أو في الشتات. أسلوب الكتاب النقدي يتجلّى في دعوته لتفكيك الصور النمطية حول الفلسطينيين، وتسليط الضوء على الظروف المتناقضة التي يواجهونها، سواء من جهة الاحتلال أو من الداخل الفلسطيني نفسه.

على الرغم من أنّ الكتاب يتّسم بالطابع الفلسفي والتأملي، إلا أنّ كاتبنا لا يغفل عن السرد القصصي الذي يُبرز أبعاد القضية الفلسطينية من خلال سرد حكايات شخصية وجماعية. يعرض تجارب الفلسطينيين في الشتات، من خلال قصص ذات أبعاد إنسانية تُظهر تأثيرات النكبة والتهجير على الأفراد والعائلات الفلسطينية. هذا الأسلوب السردي يجعل الكتاب أكثر قوة تأثيرا، لأنه يسمح للقارئ بالاتصال الشخصي مع القضايا التي يناقشها، ويجعله يشعر بالواقع الذي يعيشه الفلسطينيون.

أسلوب الكتاب مليء أيضا بالرموز والصور البلاغيّة التي تحمل معانٍ عميقة وتُظهر حالة الفلسطينيين. حيث يستخدم درّاج الرمزيّة بشكل فعّال، إذ يعتبر الشتات الفلسطيني مثل الظلال التي تلاحق الفلسطيني أينما ذهب، ولكنها في ذات الوقت تمثّل مقاومة حيّة، على الرغم من كلّ محاولات المحو والطمس. يُمكن قراءة الكتاب على أنه نصٌّ رمزيٌّ ينطوي على مستويات متعدّدة من الفهم، ويُحيل إلى مفاهيم مثل الذاكرة، التاريخ المشترك، والعودة.

على سبيل المثال، يُمكن أن نرى أن الأرض الفلسطينية تصبح رمزا للهوية المفقودة، ولكن في ذات الوقت تصبح العودة إلى الأرض هي العودة إلى الهوية. هذه الرمزية تحمل الكثير من المعاني العميقة، مما يجعل الكتاب أكثر من مجرد سرد تاريخي، بل نصا متعدد الأبعاد.

كما لا يخلو الكتاب من الجانب العاطفي والوجداني، وهو ما يميز أسلوب فيصل دراج عن الكتابات السياسية التقليدية. يتطرّق الكاتب إلى تجارب الفلسطينيّين بحساسيّة شديدة، مُستخدما أسلوبا عاطفيّا يخلق صلة وجدانية بين القارئ والقضية الفلسطينية. الحزن، الأمل، الألم، والصمود هي مشاعر تتداخل في أسلوب الكتاب، مما يجعل النص يحمل بُعدا إنسانيا وعاطفيا يتجاوز السياسة والحسابات العسكرية.

على الرغم من أنّ الكتاب مليء بالأساليب الأدبيّة والفلسفيّة، فإنّ فيصل دراج لا يتخلّى عن أسلوب السرد المباشر في بعض الأحيان. أسلوبه في بعض الفصول يعتمد على الوضوح والبساطة في التعبير، ممّا يجعل النص في بعض اللحظات بعيدا عن التعقيد الفلسفي ليقترب أكثر من الخطاب اليومي الذي يستطيع أن يتفاعل معه القارئ العادي.

خلاصة القول في أسلوب الكتاب: أسلوب فيصل دراج في الكتاب يتميّز بالعمقِ والتحليل النقدي، لغة الكتاب واضحة وذكية، كما أنّه يتجنّب الأسلوب الإنشائي أو العاطفي المفرط، وهو ما يجعل الكتاب أكثر تأثيرا. في الوقت نفسه، يتمكّن من تقديم قضايا معقّدة بشكل سهل الفهم للقارئ.

أسلوب الكتاب مزيج من البلاغة الأدبيّة، التحليل الفلسفي، والرمزيّة العميقة، حيث يقدّم فيصل درّاج رؤية فلسفية في تناول الهوية الفلسطينيّة والمقاومة. الكتاب في مجموعته أسلوب متنوّع، يمزج بين الأسلوب الأدبي الذي يستخدم الصور الشعرية، وبين الأسلوب النقدي الذي يستعرض القضايا الفكرية والاجتماعيّة الفلسطينية. كما أنّ الأسلوب الرمزي والوجداني يضيف للكتاب عمقا إنسانيّا يجعل القارئ يشعر بالارتباط الشخصي مع معاناة الفلسطينيين.

التحديات المستقبلية للفلسطينيين من منظور الكتاب

التحديات المستقبلية للفلسطينيين من منظور كتاب “كأن تكون فلسطينيّا” لفيصل دراج

في كتابه “كأن تكون فلسطينيّا”، يعرض فيصل دراج رؤية معمقة للعديد من التحديات المستقبلية التي تواجه الشعب الفلسطيني في ظل الواقع الراهن. الكتاب لا يقتصر على تحليل الظروف التاريخية والسياسية، بل يعكس رؤية فلسفية وإنسانية شاملة حول الوجود الفلسطيني في ظل الاحتلال، الشتات، والظروف المتغيرة على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

التحديات التي يطرحها الكتاب تتراوح بين التحدّيات السياسية، الاجتماعية، والهوية الثقافية، وصولا إلى التحديات المستقبلية المتعلقة بمسألة الحرية والعدالة. هذه التحدّيات تتطلّب إعادة تفكير في الآليات التي يمكن للفلسطينيين استخدامها من أجل مواصلة النضال والحفاظ على هويتهم وحقوقهم في المستقبل.

1.التحدي السياسي: التغيير الديموغرافي والتقسيم الجغرافي

أحد أكبر التحديات التي يواجهها الفلسطينيون في المستقبل، كما يراها فيصل دراج، هو التغيير الديموغرافي والتقسيم الجغرافي الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي. الكتاب يطرح القلق الكبير بشأن محاولات إسرائيل تغيير التركيبة السكانية في الأراضي الفلسطينية من خلال التوسع الاستيطاني المستمر، ومصادرة الأراضي، وتفريغ المدن والقرى الفلسطينية من سكانها الأصليين.

دراج يُشير إلى التهديد الأكبر المتمثل في محاولة إسرائيل لخلق واقع جديد على الأرض لا يتناسب مع الحقوق الفلسطينية، بل يُسهم في مزيد من التفكيك السياسي والشتات. يمكن أن يؤدي هذا التغيير الديموغرافي إلى أزمة مستقبلية للفلسطينيين في كلّ مكان، سواء في الأراضي المحتلة أو في مناطق الشتات، حيث يصبح الشعب الفلسطيني مهددا في أرضه وفي هويته.

2.التحدّي المتعلّق بالهوية الثقافية: الصراع مع النسيان والتفكك

من أبرز التحديات المستقبلية التي تطرق إليها دراج في كتابه هو التحدي الثقافي المرتبط بتعريف الهوية الفلسطينية في المستقبل. يتناول الكتاب الخوف من محو الهوية الثقافية الفلسطينية جراء الشتات الطويل، وهو ما يهدد أن يُفقد الفلسطينيون صلة قوية بأرضهم وبذاكرتهم الجماعية.

دراج يرى أن الشتات الفلسطيني في دول اللجوء، بالإضافة إلى الاحتلال والتهجير القسري، قد يؤدي إلى فقدان العديد من الأجيال الفلسطينية المتعاقبة لتاريخهم و تراثهم الثقافي. وبالرغم من المقاومة الثقافية التي يمارسها الفلسطينيون للحفاظ على هويتهم، يطرح دراج تساؤلات حول مدى استدامة هذه الهوية في المستقبل مع مرور الزمن، وخاصة عندما يتزايد التأثيرات الغربية و التغيرات المجتمعية التي قد تؤدي إلى تآكل الثقافة الفلسطينية.

في المستقبل، يظل التحدي الأكبر هو استمرار مقاومة النسيان والمحافظة على الذاكرة الجماعية الفلسطينية من خلال التعليم، الأنشطة الثقافية، والممارسات اليومية التي تحافظ على الترابط بين الأجيال المختلفة.

  1. التحدّي الاجتماعي: التفرقة الداخليّة والاختلافات السياسيّة

من التحديات الكبرى التي يعرضها الكتاب هو التشتت السياسي والاجتماعي الداخلي في المجتمع الفلسطيني. يعتبر دراج أن هناك تحديا داخليا كبيرا يتمثل في الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية، وأحيانا بين المجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما يؤثر على القدرة على التوحد في مواجهة الاحتلال. هذا الانقسام يشكل عائقا كبيرا في سبيل التوصل إلى استراتيجية موحدة لتحقيق الأهداف الفلسطينية في الحرية والاستقلال.

بالتوازي مع الانقسام السياسي، يتناول الكتاب التحدّيات الاجتماعيّة التي يعاني منها الفلسطينيون في الداخل والخارج، مثل الظروف الاقتصادية الصعبة، البطالة، والتهميش الاجتماعي، خاصة في المخيمات التي تحتضن اللاجئين الفلسطينيين. يطرح دراج أسئلة حيوية عن كيفية تحسين هذه الأوضاع في المستقبل، ويقترح أن أحد الحلول يتمثل في إيجاد آليات تعاون دولية لدعم المجتمع الفلسطيني في الشتات.

4.التحدّي الاقتصادي: القيود المفروضة على التنمية

الكتاب يتناول بشكل خاصّ التحدّي الاقتصادي الذي يواجه الفلسطينيّين في المستقبل، خاصّة في ظلّ القيود الاحتلاليّة على حركة البضائع، الأشخاص، والموارد. الاقتصاد الفلسطيني يعاني من الضعف في ظلّ السيطرة الإسرائيليّة على الأراضي الفلسطينية، خاصّة في الضفة الغربية وقطاع غزة. يعكس الكتاب مدى تأثير هذا الوضع على التنمية المستدامة للفلسطينيين، مما يخلق حلقة مفرغة من الفقر والبطالة.

دراج يشير إلى أن إعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني في المستقبل لن يكون ممكنا إلا إذا تم تحرير الأرض وتوفير الحرية للفلسطينيين في بناء اقتصادهم الخاص دون تدخلات الاحتلال. في هذا السياق، يعرض الكتاب التحدي المتمثل في الاعتماد على المساعدات الدولية والضغط من أجل إصلاح الاقتصاد الفلسطيني عبر سياسات أكثر استدامة.

5.التحدّي المرتبط بالقدرة على التغيير: مقاومة الإحباط والجمود السياسي

أحد التحدّيات الجوهريّة التي يعرضها الكتاب هو التحدّي النفسي والفكري الذي يواجهه الفلسطينيون في ظلّ الأوضاع الراهنة. دراج يلفت إلى أنّ هناك شعورا بالإحباط يزداد بين الأجيال الفلسطينية الشابة في ظل الجمود السياسي وغياب التقدم في عملية السلام. هذا الإحباط قد يؤدي إلى نمط من الجمود في التفكير السياسي، ما يجعل من الصعب على الفلسطينيّين أن يطوّروا استراتيجيّات جديدة لمقاومة الاحتلال.

يحذر درّاج من أن التسلّط الداخلي على الرؤى السياسية والفكريّة قد يؤدّي إلى فقدان القدرة على التغيير، وهو ما يعوق التحرّك الفعّال نحو تحقيق العدالة والحريّة. ويطرح الكتاب أنّه من الضروري تحفيز الأجيال الجديدة لتبني آليات جديدة للمقاومة، سواء كانت سياسيّة أو ثقافيّة أو فكرية.

6.التحدي المرتبط بالعودة: حقّ العودة في ظلّ الواقع الدولي

وأحد أكبر التحدّيات التي يتناولها الكتاب هو حقّ العودة، الذي يراه درّاج حقّا ثابتا لا يمكن التنازل عنه. في المستقبل، يظلّ حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين من أكبر التحدّيات القانونيّة والسياسيّة، خاصّة في ظل الواقع الدولي المعقد والتقلبات في السياسة العالمية.

منظور الكتاب يعكس القلق الفلسطيني من أن تصبح ممارسة حق العودة مسألة صعبة أو مستحيلة في ظل التغيرات الجيوسياسية والضغوط الدولية، وتزايد مشاعر التصلب من قِبل القوى الكبرى في القضية الفلسطينية.

  1. التحديات السياسية

على الرغم من أنّ الكتاب يركّز على الهوية والذاكرة، فإنّه يتطرّق بشكل غير مباشر إلى التحديات السياسية التي تواجه الفلسطينيين اليوم. من خلال تسليط الضوء على مقاومة الاحتلال، يشير فيصل درّاج إلى أنّ فلسطين لن تكون قادرة على الخروج من مأزقها الحالي دون مقاومة شاملة على مختلف الأصعدة.

  1. التحدّيات الثقافية

من ناحية أخرى، يوضح الكتاب أنّ التحدّي الأكبر للفلسطينيين يكمن في الحفاظ على ثقافتهم وهويتهم في ظلّ محاولات الصهيونية لطمس هذه الهوية. هناك دعوة مستمرة في الكتاب للحفاظ على اللغة الفلسطينية، والتراث الشعبي، والذاكرة التاريخية كجزء من عملية مقاومة الاحتلال.

بعض المآخذ على الكتاب

1.التعقيد الفلسفي: بينما ينجح الكتاب في طرح مسائل فلسفية عميقة، قد يجد بعض القراء صعوبةً في استيعاب التعقيدات الفكرية التي يعالجها، خاصة أن الكتاب يمزج بين التحليل الفلسفي والتاريخي. قد يكون الأسلوب صعبا في بعض الفصول، وهو ما قد يحد من وصول الرسالة إلى جمهور غير متخصص في الفلسفة أو الفكر السياسي.

2.الأبعاد المجرّدة: في بعض المواضع، قد يشعر القارئ أن الكتاب يغرق في التحليل الفلسفي المجرد مما قد يؤدي إلى غياب بعض التفاصيل التاريخية الواقعية التي كان من الممكن أن تكون أكثر تأثيرا في القارئ العادي.

  1. البُعد السياسي: التوجه السياسي أحادي الجانب: يمكن اعتبار الكتاب مؤيّدا بشكل واضح للقضية الفلسطينية دون أن يقدّم سردا موضوعيا في التعامل مع بعض القضايا الداخليّة، أو التناقضات التي قد يواجهها الشعب الفلسطيني. هذا يضع الكتاب في إطار نقدي صارم تجاه الاحتلال الإسرائيلي دون أن يتناول بعض الجوانب الداخليّة في السياسة الفلسطينيّة، أو نقد بعض السياسات الفلسطينيّة التي قد تكون محلّ جدل.

4.الانتقائية في عرض الأحداث: يعرض الكتاب الأحداث التاريخية من منظور قومي فلسطيني، وهو أمر قد لا يُعطي كامل الصورة حول الديناميكيات السياسية في المنطقة. البعض قد يعتبر أن الكتاب يغفل بعض التفاصيل التاريخية التي تشمل مواقف القوى الدولية الكبرى.

5.إغفال تأثيرات الشتات العميقة: على الرغم من أنّ الكتاب يعرض أهميّة الشتات في بناء الهوية الفلسطينية، إلا أنّه قد لا يتناول بشكل كافٍ الآثار السلبية للشتات على الجيل الفلسطيني الثالث والرابع الذي وُلد في المخيمات أو في الخارج. هذا الجيل قد يعاني من انفصام هوية، حيث يواجه صعوبة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية في ظل الثقافة الغربية السائدة.

6.الافتقار إلى التفاصيل الواقعية الدقيقة: أحيانا يفتقر الكتاب إلى التفاصيل الدقيقة التي تُمكن القارئ من فهم الأبعاد السياسية بشكل أكمل. على الرغم من أن الكتاب يقدّم تحليلات قيّمة، إلا أنه يغفل بعض التفاصيل الواقعية التي كان من الممكن أن تضيف دقّة وتحليلا أكبر للمشاهد السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية.

7.استخدام الرمزية قد يكون معقّدا: على الرغم من أنّ الرمزية تعزّز عمق الكتاب، إلا أنّ بعض القراء قد يجدون صعوبة في تفسير بعض الرموز التي استخدمها الكاتب. على سبيل المثال، الرمزيات المتعلقة بالمكان والعودة قد تكون غير واضحة للكثيرين، ممّا يجعل المغزى الفلسفي للصورة الرمزية غير مرئي للبعض.

خلاصة القول

يُعدّ كتاب كأن تكون فلسطينيًا لفيصل درّاج عملًا فكريًا ونقديًا محوريًا في الأدب العربي المعاصر، حيث يقدّم نظرة عميقة وشاملة للمستقبل الفلسطيني. يتجاوز درّاج التحليل السياسي التقليدي للقضية، ويرى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كصراع وجودي يمسّ الهوية، والأرض، والذاكرة.

بأسلوب أدبي وفلسفي عميق، يحلّل درّاج الهوية الفلسطينية، مؤكدًا أنها ليست مرتبطة بالبقاء المادي على الأرض فحسب، بل بقدرة الشعب الفلسطيني على التمسك بذاكرته وثقافته، مما يجعل فلسطين فكرة ووجودًا مقاومًا لا يمكن محوه. يسلّط الكتاب الضوء على كيف أن الصراع المستمر، سواء في الداخل أو في الشتات، يُشكّل جوهر الذات الفلسطينية.

إنّ الكتاب ليس مجرّد شكوى من الواقع أو استنكار له، بل هو دعوة للتفكير النقدي والعمل الهادف. يدعو درّاج إلى المزيد من التضامن والالتزام بالعدالة، ويؤكد أن الفلسطينيين قادرون على مواجهة الصعوبات التي تقف في طريقهم نحو الحرية. لهذا، يبقى “كأن تكون فلسطينيًا” مرجعًا أساسيًا لفهم القضية من منظور إنساني، فلسفي، ونقدي عميق.

 

 

 

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

صباح بشير: رواية “عين الزّيتون” للأديب محمّد علي طه.. وثيقة صمود في سجلّ الذّاكرة

صباح بشير   صدرت عن الدّار الأهليّة للنّشر والتّوزيع (2025م)، رواية “عين الزّيتون”، للأديب محمّد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *