د. خالد تركي: نافِذَتي تُطلُّ على مجموعةٍ قصصيَّةٍ “عند منتصف الليل”

د. خالد تركي

 نافِذَتي تُطلُّ على مجموعةٍ قصصيَّةٍ “عند منتصف الليل”

“عِندَ منتصَفِ الليلِ” هي مجموعة قصصيَّة للكاتب الفلسطينيِّ إِبن بيت لحم الصَّيدليِّ نضال الحايك، والتي وصلتني حديثًا ومباشرةً من هناك، وهو صاحب رواية “من بيت لحم إِلى موسكو..رحلة لا تنتهي” الجميلة والمشوِّقة، التي أَعادتني إِلى أَيَّام دراستي الجامعيَّة في جمهوريَّة تشيكوسلوفاكيا الإِشتراكيَّة.

يحتوي الكتاب على مجموعة قصصيَّة، عاشها الكاتب خلال فترة دراسته في الإِتِّحاد السُّوفييتي، حين كان طالبًا جامعيًّا في كليَّة الصَّيدلة، في ثمانينيَّات القرن المنصرم، في جامعة مدينة زاباروجيا، أُوكرايينا، الإتِّحاد السُّوفييتي..

منتصف الليل هو موعد انتهاء يومٍ وبداية يومٍ آخر، حين تتعانق عقارب السَّاعة في قمَّة دائرة السَّاعة، في قطبها العلويِّ، حيث ينقلُ العقربُ الكبيرُ للعقرب الصَّغير أَخبار اليوم الغابر ويوصيه بالحذر من اليوم التَّالي، المُقبل، ومن شدَّة تشوُّقه ليومه الجديد باسمهِ الجديد ورقمه الجديد تضرب السَّاعة جرسها إِثنتي عشرة رنَّة معلنةً ومبشِّرةً ببدء يومٍ جديدٍ، وأَملٍ جديدٍ، غير الذي عشناه..

يُذكِّرني بحياتي الجامعيَّة والسَّكنيَّة والدِّراسيَّة والعاطفيَّة والرَّحلات في أَحضان الطَّبيعة الهادئة الخلابة، في جمهوريَّة تشيكوسلوفاكيا الإِشتراكيَّة، مدينة براتيسلافا، عاصمة جمهوريَّة سلوفاكيا الإِشتراكيَّة وكأَنَّ الكاتب نضال الحايك أَنا وكأَنِّي هو..

يجدر بكلِّ إِنسانٍ أَكاديميٍّ دَرَسَ في جامعات الدُّول الإِشتراكيَّة قراءة هذه القصص، التي تعيدنا إِلى ذلك الزَّمن الجميل، الهادئ، الرَّائع، الذي نشتاق إِليه دومًا، ويُجيِّش ويُهيِّج فينا الحنين إِلى الأَيَّام الخوالي الغوالي، والإِشتياق إِلى تلك الجامعات التي منحتنا كلَّ الإِمكانيَّات المادِّيَّة والحياتيَّة اليوميَّة والدِّراسية وجادت علينا بكلِّ ما تملك من مساعدات وتوفير الوقت والرَّاحة والطَّمأنينة لكي ننجح ونعود إِلى بلادنا لنخدم أَبناء شعبنا ومجتمعنا وأَهلنا..

جعلتنا هذه القصص نتوق ونتشوَّق لِتلك الأَيَّام..

إِنَّ فاتحة تلك المجموعة القصصيَّة هي قصَّة “عِندَ منتصَفِ الليلِ” (ص 13)، تحكي لنا قصَّة طالب يسكن في مسكنٍ للطَّلبة لا يأتيه الوسنُ ولا النَّوم بل يتغلَّب عليه الأَرق والسُّهاد، لأَنَّه يُفكِّر بلقاء حبيبته بعد انقطاع عن لقائها بسبب فترة الإِمتحانات، “..الطَّويلة والمرهِقة” (ص 13)، وكأَنَّ البرد القارس والصَّقيع في الخارج يَطرقُ نوافذ غرفته كي لا ينام “لكنَّ الرِّياحَ أَخذت تزدادُ غضبًا..تزيد طرقًا على الزُّجاج، تكاد تُحطِّمه ..ويتحمَّل طرقها بصمتٍ”(ص 15)، يفكِّر بلقائه معها ويُطلق موجات اشتياقه لها، يوم غدٍ في الصَّباح، الذي طال انبثاقه، “أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا انجَلِ” لأَنَّ الغد سيكون الأَجمل بلقاء المحبوبة..

 يُحدِّثنا الكاتب عن طالبٍ جامعيٍّ تقع على عاتقه مسؤوليَّةٌ كبيرة وهي الدِّراسة والنَّجاح، حيث تُبعده جدَّيتُه والتزامُه بهدفه لتحقيق أُمنياته عن متاع الحياة، كلُّ شيئٍ في حينه جميلٌ، وكل شي بوقتو منيح..

تقول له حبيبته لحظة لقائهما الدَّافئ، الذي طرد الصَّقيع في الخارج وأَخرس طرقات الرِّياح على نوافذ غرفته، وزاد من حرارة اللقاء وسخونته، “أَراك فارسًا على صهوةِ فرسٍ شهباء”(ص 16)، وهنا يتساءل من تخصُّ في هذا المديح، أَهو الفارس المغوار والشُّجاع المقدام والفحل أَم هي الفرس الشَّهباء، البيضاء، النَّاعمة..

لكنَّ عقارب السَّاعة قطعت عنه حبل التَّفكير “..يتجاوز العقربان الكبيران منتصف الليلِ، يبداُ يومٌ جديدٌ، يرحل آخر، ويُمسي في يوم أَمس”(ص 17)، لكنَّها لا تتركه لراحته ساكنًا من عراكه معها يوم أَمس فهي “قطَّةٌ مشاكسةٌ لا تُصغي ولا تُغادر”(ص 17)، يُحاول مغازلتها بلغته الرُّوسيَّة التي لم يتمكَّن منها بعد، بترجمته الحرفيَّة من روايات “أَلف ليلة وليلة”، وبحديثه لها عن أَميرات وصبايا النِّيل حين يردن

 للإِستحمام  فمهما حاول ترجمتها للغة الرُّوسيَّة تكون ضعيفة غير مفهومة لأَنَّ للتَّرجمة أُصولها وحتَّى تترجم للغة أُخرى، بإِتقان، عليك أَن تكون متمكِّنًا منها وفصيحًا، “بدت له صورتها حائرة، تنظر باستغراب، لم أَفهم..”(ص 18).. ومن بعدها خلد إِلى النَّوم العميق حاضنًا وسادته التي دفن فيها وجهه وكأَنَّه سابح في نهديِّ حبيبته، فتاته التي ابتسمت له وراح يغُطُّ في نومه مرتاحًا وحده، وكأَنَّه ليس وحده..

لا أَدري إِن كانا قد التقيا حقيقةً في القصَّة أَم أَنَّ لقاءهما كان من نسج خياله وتوقَّعاته أَم أَنها ذكريات تؤرِّقه وتشوِّقه للقاء جديدٍ، ويبقى السُّؤال هل كان اللقاء بينهما في فترة ما وسيلتقيان، أَم أَنَّها ذكرياته التي يحاول أَن يستعيدها بعد أَن عاد إلى أَرض الوطن، هل ستعود هذه

الأَيام، بالطَّبع لن تعود لأَنَّ الأَيام تجري مسرعةً إِلى أَمام..

“غدًا تلتقيه، ستأتي باسمةً”(ص 15)، لكنَّها لم تأتِ..

إِنَّها ذكريات يملكها الكاتب وحده، تسكن قلبه وحده، يستعيدُها هو لوحده، يتمنَّى عودتها، يحملها في طيَّات ذاكرته، ويجوز أّنَّها أَصبحت تُسبِّب له أَرقًا، يُفكِّرُ في أُمورٍ كان يريدها ولم يستطع، لا يُمكن إِعادة عجلَةَ التَّاريخ إِلى الوراء “الزَّمن يمشي قُدُمًا ولا يعودُ أَدراجه إِلى الوراء أَبدًا، أَحيانًا يتمنَّى لو يفعلُ..”(ص 51)..

 “أَغدًا القاك”، “عسى الأَيَّام أَن تُرجع..”.

يحكي لنا في قصَّة “كتب زمن المراهقة”(ص 25)، عن شظف العيش، حيث كانت عيشته صعبة جدًّا، خاصَّة بعد أَن بدأَ هو وإِخوته يدرسون في الجامعات، حيث باع والدهم سيَّارته كي يؤمِّن لهم قسط الدِّراسة، لقد كان يُشجِّعهم على القراءة والدِّراسة والتَّثقيف، إِذ كان والدهم يسافر مع أَبنائه، من بيت لحم إِلى مكتبات القدس لاقتناء الكتب لهم، حيث يبدأُون بمطالعتها ويعيدون قراءتها مرَّةً تلو الأُخرى “أَشعرُ حين أَنظر إِليها بفخرٍ واغتباطٍ، كأَنَّها كنزٌ أَحصل عليه..بعد أَسابيع أُعيد الكرَّة، أَبدأُ القراءة من جديد”(ص 26)، يحدِّثنا عن عشقه للكتاب وللقراءة لرائحة الحبر والورق ولونه، حيث يعيش أَحداث القصَّة ويشعر أَنه يحاول استعادة لحظات العشق والحبِّ التي ترافق ذاكرته “..منذ عقودٍ من السِّنين.”، “فأُصبح جزءًا من الرِّواية أَو إِحدى شخصيَّاتها، بل أَهمَّها على الإِطلاق..” لكنَّه يختمُها “هل نغرق معًا أَم نخرجُ معًا من زمنٍ عشقتُه ولا أَزال، ربَّما بمقدار حبِّي لك بل ربَّما أَكثر.”(ص 28)، وحين يقتني والده الكتب يدفع ثمنها بعد سجالٍ مع البائعة لتخفيض الأَسعار..

عيشة على قدِّ الحال، يكرِّس والدُهُ كلَّ ما يملكُ من أَجل سعادة أَولاده وتثقيفهم ودراستهم ونجاحهم..

كيف لا وهم ﴿..زينة الحياةِ الدُّنيا..﴾

إِنَّ قصَّة “هواء ثقيل” (ص 38)، تحكي لنا عن كارثة التَّسرُّب النَّوويِّ، في منطقة تشيرنوبيل، وكيف استطاع الإِتحاد السُّوفييتي، لملمة جراحه وتحجيم الكارثة وإِحاطة المنطقة المنكوبة، “فالحياة في الإِتحاد السُّوفييتي تستمرُّ في كلِّ الظُّروف مهما تكن، لا شيئَ يُوقفُها، ولا شيئَ يقفُ في طريقها، تتحدَّى كلَّ الصِّعاب وتُذلِّلها، فلا شيئَ ولا أَحد يستطيع أَن يوقف جريانها”(ص 41)..

ما هي البُثُور؟ البُثُور هي حبوب جلديَّة ملتهبة تحتوي على صَديد أَو قَيح، تُسبِّب نتوءات جلديَّة مؤلمة، ويكون علاجها مضادَّات حيويَّة على شكلِ حبوبٍ أَو دهونٍ أَو استعمال الشَّكلين معًا..

يَحكي لنا في قصَّةِ “بُثُور” (ص 42)، عن عودته إِلى البلاد بعد تخرُّجه، كيف وجد بلاده كيف تغيَّر شكل ناسها بعد أَن تقدَّموا في السِّنِّ، وكيف تغيَّرت اهتمامات النَّاس وأَوليَّاتهم، يجوز أَنَّه قصد بعضهم، “إِنَّه هو، بالتَّأكيد هو”(ص 42)، “أَهذا أَنت؟ أَأَنت فلان؟ يا لها من ذاكرة..” (ص 43)، ويحكي لنا قصَّة الحلاق الذي لا يهتم بنظافة أَدواته “يجزُّ شعري بالأَدوات نفسها، المقص والمِشط، أَبدًا لا يغيِّرهما ولا يُعقِّمهما، أَردتُ أَن أَرفضَ وأَن أَقول لا، لكن..لا يصحُّ ولا يجوزُ، إِخجَل وأَهدأ” (ص 46)، هكذا كانوا يقولون للأَطفال، لطفل أَن يرفضَ، جاء دوره للحلاقة بعد انتظارٍ طويلٍ، دون تعقيم وتنظيف أَدوات الحلاقة حيث اهتمَّ والداه بعدها بتعقيم رأسه وتنظيفه جيِّدًا، بسبب البثور التي كانت على رأس مَن سبقه..

درهمُ وقاية خيرٌ من قنطار علاج..

يصفُ لنا في قصَّة “ساعة منبِّه” (ص 60)، عمل السَّاعة ودوران عقاربها الفوسفوريَّة المضيئة التي لا تتعبُ أَبدًا ولا تكلُّ وكيف تُزعجه تكتكتها وتقطع هدوءه “وصوت التَّكتكة يقطع هدوءًا”(ص 62)، ورنين جرسها يُعلِمنا بذلك أَنَّ موعد الإستيقاظ قد حان “هدوء ليلٍ لا تقطعه إِلا تكتكة ساعة منبِّه..”(ص 60)، وتسبِّبُ أَرقَه، حيث يبدأُ باستعادة ذكرياته في بيته في بيت لحم، كيف أَنَّه كان ينام في حضن خالته، “طفل صغير يرغب في المبيت في حضن خالة لا تزور البلدة كثيرًا..”(ص 61)، يستذكر خلال تعبه في الغُربة دار جدَّيه المهجورة بعد أَن “تناثر ساكنوها في بقاع الأَرض، أَصبح يُعشِّش فيها العنكبوت” ( ص 63)، وهنا يضع إِصبعه على نقطة مهمَّة وهي الهجرة وترك الأَوطان والأَهل والبيوت لتسكنها العناكب “ينسج شباكه ويعتبرها مسكنه.”(ص 63)، تحتلُّ بيوتهم..

لقد أَعجبتني قصَّة “قطعة خبزٍ” (ص 65)، حيث ذكَّرتني بوالدتي وجدَّتي حين كانت الواحدة منهما تنبِّهنا مربيةً على احترام الخبز وعدم إِهماله أَو رميه في سلَّة المهملات، فإِن وجَدنا قطعة خبزٍ على الأَرض حتَّى وإِن كانت جافَّةً علينا حملُها وتقبيلُها وتمريرُها بعد ذلك على جبهتنا ونضعها على مكانٍ مرتفعٍ، فقد قالت له جدَّته “لا تدع قطع الخبزِ أَو فتاته تسقط على الأَرض، فهو نعمةٌ علينا احترامها”، “قبِّلها، وارفعها نحو جبينك ثمَّ تناولها” (ص 66)، وتذكر له سنوات المجاعة، أَيَّام الحكم العثمانيِّ الجائر، “مرَّت في طفولتي سنون مجاعة قاسية، كنتُ وغيري نبحثُ في روث خيولٍ وجيادٍ تجري، عن بقايا قمحٍ أَو شعيرٍ لم تهضمها أَمعاؤها، علَّنا نصنع منها ولو قطعة خبزٍ تسدُّ جوعنا”(ص 66)..

لقد حلَّت المجاعة على بلادنا، بلاد الشَّام، إِبَّان حكم الطُّغاة البغيض حيث حكمنا العثمانيِّون أَربعة قرون أَو يزيد، خاصَّة في بداية فترة انهياره، التي عُرفت آنذاك بالسَّفر برلك، وسنة حمرا الطَّلق، حيث كانوا يطحنون حبَّات الذُّرة المتعفِّنة، التي كانوا يحصلون عليها من العثمانيِّين، تبادلاً ومقايضةً بقمحهم..

“يُحكى أَنَّ النَّاس كانت تُفتِّش في روث الدَّواب عن حبوبِ القمحِ كي تغسلها وتجدُ فيها قوتها، أَو حتَّى كانوا يُقايضون ما يملكون مقابل رطلٍ من القمح لسدِّ حاجتهم، وصدِّ جوعهم، وهناك من زوَّج ابنته بعد أَن كيَّل له رطلَ قمح في المكيال” (كتابي سفر برلك، ص 35)، “ماعنديش ولا حبَّة قمح يا بنتي شوفي ولاد الخواجات، اللي زينا بياكلو خرا، خرا الدَّواب مش البني آدميِّين، والله أَعلم”(رواية “إِحتضار عند حافَّة الذَّاكرة”، للكاتب الفلسطينيِّ أَحمد الحرباوي، ص 105).

وحين وقعت أَرضًا قطعة الخبز، عندما تناول طعامه، في مقصف الطَّلبة، مع طالب سوفييتيٍّ زميله على مقعد الدِّراسة، “نهض عن مقعده، إِتَّجه نحو قطعة الخبزِ، التقطها بيده، رفعها عن الأَرض.. ووضعها على الطَّاولة أَمامه..”، الأَمر الذي لفت انتباه الطَّالب السُّوفييتيِّ، “ثمَّ قال صديقُه بصوتٍ هادئٍ رزينٍ: قرأتُ عن بيت لحم وعن سكَّانها..ونحن أَيضًا نحترمُ الخبز، لا نبدِّده أَبدًا..”(ص 68)، وبدأَ يشرح له كم يتعبون ويكدُّون حتَّى يحصلوا على الخبز، حيث يعملون على صيانة الأَرض وحرثها وزرعها بالقمح وريِّها وحصاد سنابلها وطحنها وعجنها وخَبزِها، إِلى أَن نحصل عليه حاضرًا على الطاولة للأَكل..

الخبزُ مقدَّسٌ والعِيشُ مقدَّسٌ فهو أَساس غذائنا..

يُحدِّثنا الكاتب في قصَّة “فِراش بارد” (ص 69)، عن شابٍّ حديث الزَّواج، عُرسان جداد، يترك زوجته “تزوَّجتُ قبل شهورٍ قليلةٍ..زوجة شابَّة”(ص 71)، بحجَّة أَنَّه رجل أَعمالٍ، “نقوم ببعض أَعمال وأَعود” (ص 72)، لكنَّه يترك سرير زوجته الغضَّ الطَّريَّ، ليذهبَ إِلى مدينة مزدحمة، ليُمتِّع نفسه بزانيتين، يصرفُ كلَّ ما يدَّخره، ويصرفها عليهما وعلى نفسه للمُتعة، ويحدِّث جهارًا دون أَيِّ اكتراث للحضور بصفاقة بليدة “لقد سافرتُ إِلى مدينةٍ مزدحمةٍ، أَقمتُ في شقَّة مفروشةٍ مع امرأَتين، وهو في الحقيقة لم يقُل امرأَتين بل استعمل لفظًا نابيًا”، “حين أَجمع مبلغًا من المال، سأَعود إِلى هناك..”(ص 71)، لقد تغيَّرت إِهتمامات النَّاس وتغيَّرت الأَخلاق والعادات، أَصبحنا بحال سيِّئةٍ عادت بنا إِلى الوراء”بعد انهيار أَنماط ثقافيَّة في مجتمعٍ يسير بخُطىً سريعةٍ إِلى الوراء”(ص 69)..

كان على صديقي الكاتب نضال الحايك أَن ينتفض على هذه الخُطى السَّريعة إِلى الوراء، وعلى قوى الظَّلام التي أَصبحت تتحكَّم في مجتمعنا كان عليه كمُثقَّف أَن يكون في الطَّليعة..

يالطا هي مدينة سياحيَّة ساحليَّة تقع في شبه جزيرة القرم، على شاطئ البحر الأَسود، هي قصَّة عشقِهِ “يالطا” (ص 73)، حيث يُحدِّث صديقته عن عشقه وحبِّه ليالطا عن جمالها، يابستها وبحرها، “شاطئ بحرٍ أَزرق غامق، على قمَّة ربوةٍ ترتدي نباتات كثيفة، أَحسَّ أَنَّه يدخلُ إِلى عالمٍ من جمالٍ ومن خيالٍ”(ص 75)، “أَمواج تُرسل موسيقى يُعانق موج حصى الشَّاطئ، يتراقصان..”(ص 76)، ظنَّت صديقته وهو يتغزل أَمامها بيالطا ظنَّته يتغزل بفتاةِ أَحلامه ولم تعد هي فتاة أَحلامه، غضبَت صرخَت اغتاظَت لكنَّها عرفت أَنها هي فتاة أَحلامه وأَنَّ يالطا هي مدينة أَحلامه..

يحكي لنا في قصَّة “بين أَسفل وفوق” (ص 85)، قصَّة دخوله وصديقته مسكن الطَّلبة، وكيف حاولا التَّهرُّب من البوَّابة المتقاعِدة المناوِبة، حيث لا يُمكن إِدخال ضيفٍ للمسكن دون موافقتها أَو دون إِبراز بطاقة هويَّة، وغالبًا تكون المناوِبات لطيفات يتجاهَلن دخول الزوَّار أَو الزَّائرات، وغير ذلك “فهي ستصل إِلى إِدارة الجامعة ومنها إِلى حيث لا ندري وبالتَّأكيد إِلى حيث لا نرغب”(ص 86)، ويتابع في قصَّته كيف يدخل الطُّلاب المصعد دون أَن يعيروا اهتمامهم إِلى العدد المسموح، وأَحيانًا “مثل علبة سردين مضغوطة”(ص 87)، وحدث مرَّةً أَن توقَّف المصعد بين الطَّوابق، وبدأت التَّوترات والخوف وماذا بعد وهل من منقذ، وفي النِّهاية يتمُّ تخليص الجميع ويخرجون أَحرارًا من علبة السَّردين المضغوطة..

كم هي الحياة الطُّلابيَّة متشابهة، لقد أَعادني الكاتب، إِلى الأَيَّامٍ التي عشتُها أّنا خلال فترة دراستي هناك..

“مترجم قانوني” (ص 98)، هي قصَّة بحثه في المدينة عن مترجمٍ قانونيٍّ ليترجم له الأَوراق الجامعيَّة للإِنجليزيَّة مختموة منه، ليُثبت للمكاتب الرَّسميَّة في بيت لحم على أَنَّه طالبٌ في كلِّيَّةٍ جامعيَّةٍ، “من أَجل الحصول على قرضٍ من مؤسَّسة تعليميَّة يعمل فيها والدي..” (ص 100)، كذلك يُحدِّثنا عن وصول الرَّسائل من أَهل الطَّلبة حيث يفرشها ساعي البريد على طاولةٍ عند مدخل مسكن الطَّلبة وكلُّ واحد يعرف اين رسالته من الخطِّ والطَّوابع، وأَلأَمانة هي عنوان الطَّلبة “لم يحدث أَن شكا أَحدٌ من فقد رسالة أَو ضياعها..لا أَحد يأخذ رسالة ليست له”(ص 99)..

كم كنَّا ننتظر رسائل الأَحبَّة من الوطن، لتطمئننا عنهم وعن أَخبارهم وعن جديدهم، إِن كان..

خاتمة المجموعة القصصيَّة الجميلة هي قصَّة بعنوان “عيد النَّصر” (ص 109)، يحكي لنا عن الإِحتفالات بهذا اليوم.

عيد النَّصر هو عيد انتصار الاتِّحاد السُّوفييتيِّ على أَلمانيا النَّازيَّة وإِنقاذ الإِنسانيَّة من الوحش الكاسر، حيث ضحَّى الشَّعب السُّوفييتي بأَرواح قرابة أَربعة وعشرين مليون شهيد، ثمنًا للنَّصر..

“في ليلة لا تغفو فيها مدن الإِتِّحاد السُّوفييتيِّ، تسبق يوم الإِحتفال بذكرى الإِنتصار في الحرب الوطنيَّة العُظمى”(ص 109)، يسيرون في مسيرات حاشدة ويحملون شارات النَّصر وبيارق النَّصر فوق هامات الجنود المرفوعة ترفرف خفَّاقةً، والنَّياشين معلَّقة على صدور الأَبطال الذين حاربوا من أَجل عزَّة وطنهم، “يهتفون، يُغنُّون، يتقدَّمهم علماء وأَطبَّاء وإِداريُّون يسيرون متجاورين كتفًا إِلى كتفٍ، ترتفع أَصوات بأَناشيد..”(ص 110)، ومن بعدها عاد إِلى بيته وخلد إِلى النَّوم، فهو بحاجة “أَراد أَن يحصل على قدرٍ من الرَّاحة يحتاجُ إِليها

جسده قبل أَن يعودَ زملاؤه..”(ص 111)..

كان بودِّي أَن يُعطي هذا اليوم، يوم النَّصر، أَهميَّة خاصَّةً، ينقل فيها لشعبه الرَّازح تحت الإِحتلال عبرة النَّصر والتَّفاني والتَّضحية من أَجل حرِّيَّة الإِنسانيَّة وحرِّية الوطن..

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ

ختامًا..

تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتب الفلسطينيِّ نضال إِبراهيم الحايك، ابن مدينة بيت ساحور، محافظة بيت لحم، بصدور ثمرة قلمه، مجموعة قصصيَّة “عند منتصفِ الليل”، متمنِّيًا له المزيد من العطاءِ الجميلِ والمُثمرِ والملتزم..

ملحوظة: الكاتب هو خرِّيج جامعات الإتِّحاد السُّوفييتي، كلِّيَّة الصَّيدلة، جامعة زاباروجيا، أُكرايينا، عام أَلفٍ وتسعمائةٍ وستَّةٍ وثمانين، وكذلك حاصل على دبلوم سياحة وتاريخ مع مرتبة الشَّرف من جامعة بيت لحم عام أَلفين وأَربعة عشر، وهو عضو في جمعيَّة خرِّيجي الجامعات النَّاطقة باللغة الرُّوسيَّة وعضو في المركز الثَّقافيِّ الرُّوسيِّ، وكذلك هو عضو في المركز الفلسطينيِّ للدِّراسات وحوار الحضارات..

ملحوظة ثانية: “عند منتصف الليل” هو كتابٌ صادرٌ، عن دار الفارابي، بيروت، لبنان، عام أَلفين وإِثنين وعشرين، من الحجم الوسط في مائة وإِحدى عشرةَ صفحةً، تحتوي على سبع عشرة قصَّةً، حيث أَنَّ قصَّة “عندَ منتصَفِ الليل” هي فاتحة المجموعة، بعد التَّقديم والإِهداء.

 

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

17.07.2025: نصّ المداخلة الّتي قدّمتها الأديبة نبيهة جبارين في أمسية الكاتبة ميساء فقيه.

نبيهة جبارين   أيّها الحضور الكريم مساء الخير والثّقافة كيف لا يكون مساءَ خيرٍ وثقافة …

تعليق واحد

  1. قراءة رائعة د. خالد لمجموعة د. نضال الحليل ابن مدينة بيت ساحور – فلسطين، استمعتُ بهذه القراءة وأطمع بقراءة الأصل… شكراً لك دكتورنا الحبيب،بل شكراً لكما نضال وخالد… وكما قال د. خالد تتقاطع المجموعة معه وكذلك معي في كثير من الأحداث كوننا أبناء مدن او مخيمات فلسطينية ، تجمعنا حياة معيشية متشابهة وكذلك كوننا وانا أيضاً درستُ كما د. خالد في العاصمة التشيكية براغ الجميلة الرائعة كما عواصم بلدان أوروبا الشرقية… شكراً والى لقاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *