د. رنا صبح: فرصة ثانية لصباح بشير، نهاية مغلقة.. منفتحة على الحياة

د. رنا صبح: فرصة ثانية لصباح بشير

نهاية مغلقة.. منفتحة على الحياة

يستقرئ المقال النهاية السرديّة التي اختارتها الكاتبة صباح بشير في روايتها “فرصة ثانية”، عارضا لطريقة معالجتها للقضايا الاجتماعيّة والتحوّلات النفسيّة التي طرأت على شخصيّاتها والتغيّرات الذهنية التي عصفت بهم. كما يحاول الوقوف على دلالة مقطع النهاية وعلاقته بالدلالة الكلية للرواية، وعلاقته ببقية عناصر الرواية؛ من العنوان والبداية والأحداث.

النهاية في المعجم ترتبط بالغاية، فالنهاء حيث ينتهي الشيء، ويقال بلغ نهايته، وانتهى الشيء وتناهي ونهّى بمعنى بلغ نهايته. فالنون والهاء والياء أصل صحيح يدل على غاية وبلوغ، ونهاية كلّ شي غايته.

ووفقًا لقاموس السرديّات لبرنس وجيرالد (2003)، النهاية تتبع أحداثا سابقة لها، ولا تكون متبوعة بغيرها من الأحداث، وترتبط بمآل الأحداث وتطوّراتها، وهو أمر يتعلق بتتابع السرد. ويقع مقطع النهاية عادة في آخر النصّ، وينتهي بانتهائه. أمّا الحدّ الذي يبتدئ به مقطع النهاية فيتعين استنادا على تحوّلات السرد، وعلى القرائن المرافقة نحو: التعليق الختامي، الانتقال من السرد إلى الوصف وغيرها.

  1. علاقة النهاية بالعنوان:

العنوان فرصة ثانية يشي بأنّ النهاية حتما ستكون سعيدة، وأنّ اشتداد الأزمة سيكون من بعده الفرج، وأّن فشل الفرصة الأولى، أو انتهاءها بمأساة لا يعني أبدًا انتهاء الحياة.

تتضمّن الرواية سبع شخصيّات رئيسيّة تحرّك الأحداث أو تتأثّر بها حضورا أو غيابا، وهم: مصطفى، فاتن، هدى، عبد الله ولبنى، وإبراهيم ونهاية، لتلقي هذه الشخصيّات الظلال على العلاقات بين الرجل والمرأة، ونوعية الارتباط الاجتماعي والنفسي والشعوري والروحي بالآخر.

كلمة فرصة” لغةً؛ هي الوقت المناسب للقيام بعمل ما، وبما أنّ الحياة قد تقدّم العديد من الأوقات المناسبة، فهناك دائما أمل.

أمّا كلمة ثانية، فلا يمكن التعامل معها بالمعنى الحرفي، فالثانية من اثنين، بينما نجد أنّ الحياة وفّرت لمصطفى أكثر من فرصتين، الفرصة الأولى المعلَنة كانت مع فاتن التي ارتبط بها بمشاعر حبّ حقيقيّة، وتزوجها لتنتهي العلاقة الزوجيّة بموت فاتن بعد ولادة يحيى، لكنّ زواجه الروحي والنفسيّ والشعوريّ منها لم ينتهِ بموتها، ثمّ وفرت له الحياة فرصة مع سناء التي أحبته بصدق ولكنّه لم يجتمع معها إلا على شهوة، لتكون تلك العلاقة واهية، ثمّ حظي بفرصة ثالثة مع هدى.

أمّا إبراهيم فقد كان ظهوره في الرواية أصلا بعد فرصتين بزواجين انتهيا بفراق وشعور بالفشل، لتأتي “نهاية” وتضع نهاية لشعوره بالفشل.

عبد الله الوحيد الذي لم ينل فرصة ثانية، بل هو من منح تلك الفرصة وفرص أخرى غيرها للبنى المتسلّطة الأنانيّة والمتعجرفة، ليبدآ من جديد.

من هنا فكلمة ثانية تكتسب معنى “الجديدة” أو “الأخرى” أو “الإضافيّة”، لتكون تلك الفرصة مبشّرة بأمل جديد.

علاقة النهاية بالعنوان جاءت متطابقة وتبدّت في مصير الشخصيّات التي بحثت عن استقرار في مكوّنات العلاقة مع “الآخر” أو “الأخرى”، لتجد الضالة المنشودة بعد معاناة.

  1. علاقة النهاية بالبداية:

النهاية معكوسة وتمثّل النقيض التام للبداية، فقد نقلتنا إلى حالة مغايرة لما سبق، تبدأ الرواية بالخوف والتوتر والقلق، “روح فاتن منهكة”؛ فهي راقدة على سرير الولادة، تعاني مخاضا عسيرا، ومصطفى زوجها يقدّم لها الدعم محاولا أن يبثّ فيها القوة.

فجأة يتغيّر مسار الحدث وتحوّلت الأجواء إلى قلق كبير يلفّ القلوب.. وسط الألم ولد الوليد، وفاتن التي تعاني ضغطا مرتفعا أدخلوها غرفة العمليات والقلق يساور زوجها والأهل، والراوية هدى أخت فاتن، من كلّ الألوان، لا ترى إلا اللون الأبيض تمهيدا لمصير مأساويّ. فقد فارقت فاتن الحياة، لكن من رحم الموت يولد يحيى.

تغلب الأجواء الثقيلة على البدايات بما فيها من مشاعر الحزن والرعب. بينما كانت النهاية ملأى بالبشائر والمسرّات، حيث يجتمع الشمل في رحاب مزدانة بالصداقة والألفة والوفاق والأمل، وخصوصا بحمل هدى ولبنى ليبشّر حملهما بولادة أمل جديد.

من هنا أصبحت النهاية صدى للبداية، ففيها تجمّعت جلّ الإشارات، ووقع الحسم في كلّ المواقف الحائرة، لينعكس فيها التغيير الحاصل ما بين انبثاق البدء وانغلاق الختام.

  1. علاقة النهاية بتطوّر الأحداث:

يفقد مصطفى بعد وفاة زوجته علاقته بالحياة، ويترك نفسه لليأس، ويحتار بشأن ابنه يحيى.. بينما هدى ترى في يحيى امتدادًا لأختها فاتن وتعلن عليه أمومتها وتأخذه لتربيته.

مصطفى يحاول التغلب على حزنه من خلال إيجاد العزاء في زيارة القبر، وسانده في محنته أخوه عبد الله وصديقه إبراهيم ليشكلوا معًا “ثلاثيًّا متّحدا في مواجهة الحياة”.

مصطفى يعشق السيارات والاتّجار بها، يتعامل معها كمحبوبات، ويطلق عليها أسماء ليدلّلها، وهذا الشغف شجّع صديقه إبراهيم على مشاركته في فتح معرض لبيع السيارات.

نجاحه في العمل جعله ينهمك فيه، ولكنه لم يشفه من ألمه الكبير بفقدانه فاتن.

في العمل، سناء السكرتيرة تحاول إبداء اهتمام خاصّ به، في البداية يحاول أن يقاوم جاذبيتها، لئلّا يتورّط في علاقة عاطفية، تبعده عن التركيز في تربية ابنه. يتجاهل تلك المشاعر، يحارب إغراء الجسد ويعتبره سرابا خادعا.. “أصبحت مقاومة سحر سناء مهمّة صعبة”، فتضاربت مشاعره لكنّه انصاع لرغبته.

تطورت علاقته بالسكرتيرة سناء، “وأصبحت بمثابة خيط أمل في حياته تسلّيه وتحبه وتحسن معاملته فنمت في قلبه بذرة إعجاب بها”..  فحار بين الوفاء لذكرى فاتن والرغبة في سناء..  لم يتجاهل نداء الجسد لكنه لم يبادلها المشاعر نفسها.

عرفت سناء بمخطّط والدة مصطفى بتزويجه من هدى أخت فاتن بهدف الحفاظ على دفء أسريّ يحمي يحيى، خصوصًا وأن هدى بالنسبة لأمّ مصطفى هي أمّ ثانية ليحيى، فهي من اعتنت به منذ اليوم الأول لولادته وتعلّقت به وحنت عليه. حاولت سناء أن تثني مصطفى عن زواجه بهدى، واحتالت لتنال من سمعتها، لكنها استسلمت في النهاية لإدراكها أنّ مصطفى لا يبادلها المشاعر.

من باب الحرص على مستقبل يحيى يوافق مصطفى وهدى على الزواج ببعضهما، خصوصا وأن هدى تشعر بالأمومة تجاه ابن اختها وترى فيه اختها الراحلة، لكنها تدرك انه سيعود الى أحضان أبيه إن هي تزوجت بغيره.

الصراع ينهش مصطفى لأنه يعتبر هدى أختا، ولأنّ فارق العمر بينهما شاسع، بالإضافة إلى شعوره بالذنب إزاء سناء. وهدى تصارع مشاعرها أيضًا فهي ترى فيه أخا. لكن الطفل يجمعهما.

يتزوجان، لا ينجذبان لبعضهما، هدى تستوعب الحالة، وتحاول معالجتها، وتبدأ بالتقرب منه، وهو الحائر بين الواجب والحبّ؛ واجبه لهدى التي ضحّت من أجل يحيي وحبّه لفاتن. حاجز الذكريات يمنعه من تطوير العلاقة، لكنه هدى تشعر بالوحدة، إذ لم تفلح محاولاتها، طلب منها الصبر، فداوت نفسها بالتعليم الجامعيّ وبمشاعر الأمومة التي تحملها ليحيى، إلى أن حصل التغيير عند شعور مصطفى بالغيرة، فغيرة مصطفى على هدى من موسى زميلها، حوّلت مسار الأحداث، ليواجه حقيقة مشاعره، ويذيب حاجز الجليد بينه وبين هدى ويحظى بحياة زوجية طبيعية.

وإبراهيم طبيب أسنان ناجح، تزوّج مرّتين وأخفق في كليهما، آثر العيش وحيدا مكتفيا بمهنته وصديقيه. كان محبًّا للحياة؛ يضفي الفكاهة والمرح والبهجة والدفء على الأجواء. يستقبل مرضاه ببشاشة ويساعدهم للتخلص من الألم، متمرس وخبير، ابتسامته جميلة تُعرِّضُهُ للتحرّش من بعض النساء، لكنّ نزاهته أنقذته في كلّ المواقف المحرجة. كان صبورا، لكنّ قلبه كان جريحا ينزف بسبب فشله في الزواج لمرتين.

يرى في المرأة كائنًا غامضًا محيّرًا يصعب فهمه، وفي الزواج قفصًا ذهبيًّا. لذا كان حريصًا ألّا يقع في الحبّ مجددًا، إلى أن تعرّف إلى نهاية، وعايش معها علاقة حبّ صادقة دون التزام، فقد رفض الزواج منها، كون الزواج يقيّد حريته، فتقرر نهاية قطع العلاقة ليعود إلى حالة الضياع الأولى، والشعور بالفراغ القاتل. أنقذته من خوفه امرأة مثقّفة وقارئه التقاها في أحد المقاهي، ونصحته بعدم التنازل عن حبّه. ليتوّج علاقته بنهاية بزواج سعيد بعد حيرة وصراع.

أمّا عبد الله فيسكن مع زوجته لبنى في الطابق السفلي من البناية نفسها التي يعيش فيها مصطفى، قريبا من أخيه جسديا ونفسيّا، تتّسم علاقة عبد الله ولبنى بالفجوات العميقة، وبلغة حوار ضائعة، “وكأنّها على جزيرتين منفصلتين”، لكنه يحبّها ويدرك أنه يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد لجسر الفجوات. أدرك أنّ لبنى متعالية أنانية وغيورة، حاول إقناعها بضرورة التغيير لكنها تلقي اللوم عليه وتصوّر نفسها كضحية، وأنه هو المذنب الذي لا يشاركها اهتماماتها. يرغب بالإنجاب لكنه يكتشف أن لبنى تتناول أقراص منع الحمل دون علمه. تراكمت خيبات الأمل بينهما، إلى أن بدأ يتساءل ما جدوى هذا الزواج؟ وهل يستحق العناء؟ فيقرر عبد الله أن يطلّق لبنى، لتغرق الأخيرة بنوبات من تأنيب الضمير، والندم، ويتدخّل أخوه وهدى لإصلاح ذات البين، ليمنح عبد الله لبنى فرصة إضافيّة.

نوع النهاية وسماتها:

النهاية مغلقة تقليديّة وسعيدة، تكتمل فيها الأحداث، وينتهي فيها الصراع المعتمل داخل الشخصيات، وفيها تحوّل إلى وضعيّة الاستقرار على عكس الوضعيّة الأولى أو تلك الوضعية المرتسمة في تطوّر الأحداث. تتّسم النهاية بكونها مُرضية، فقد أجابت على السؤال هل سيتمكّن مصطفى من الوصول إلى شاطئ الأمان بعد أزمة الفقدان؟ وكيف سيكون له ذلك؟ كما أنّها نهاية منطقيّة ومقنعة وملائمة لتطوّر الأحداث. رغم أنّ الحلول في معظم الحالات جاءت قسريّة وبتدخّلات خارجيّة، فمصطفى وهدى يتقاربان بعد الغيرة التي أشعلها تواجد زميلها موسى. وإبراهيم ونهاية يتزوّجان بعد نصيحة قدّمتها امرأة ناضجة ومثقّفة وخبيرة بشؤون الحياة، وعلاقة عبد الله ولبنى تعود إلى مجرى طبيعيّ بعد تدخّل من مصطفى ولبنى، لتجمع النهاية الحلول لجميع المشكلات بشكل نهائيّ ودقيق، وتقدّم تلخيصًا للأزمات التي عصفت بكلّ علاقة، لتقنع المتلقّي بعلاقة النهاية بالعنوان “فرصة ثانية”.

الكاتبة لم تترك مجالا للمتلقّي باسترجاع عناصر الرواية وتذكّر الأحداث، بل قامت بذلك بنفسها، ليتّخذ الخطاب شكلا تحليليًّا؛ لتتأكّد من اكتمال الخطاب الذي يتضمّن موقفا تفاؤليا يُخلق فيه الأمل من رحم المعاناة، فالحمل هو السيرورة، وهو الاستمراريّة والولادة والأمل.

كانت النهاية موقع ارتكاز لثنائيّة اليأس والأمل، والاستسلام والعمل، وسعت إلى ترسيخ الانطباع الأخير لدى القارئ بتأكيد الصورة النموذجية للشخصيات وللعلاقات بين الأزواج.

كما أنّ النهاية شكّلت إطارًا يجمع كلّ الحكايات المتفرّقة: حكاية مصطفى وهدى، وحكاية إبراهيم ونهاية، وحكاية عبد الله ولبنى، ذلك أنّ كلّ علاقة من تلك العلاقات مثّلت لوحة مستقلّة ترسّخ علاقة التلازم بين الحياة والفرص السانحة فيها، من خلال التحوّل في قناعات الشخصيّات، وتجدّد الحياة والولادة، وانبثاق الأمل من رحم الألم.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

صباح بشير: يوم المرأة العالميّ، احتفال بالحقوق أم ترسيخ للصّور النّمطيّة؟

صباح بشير يوم المرأة العالميّ، احتفال بالحقوق أم ترسيخ للصّور النّمطيّة؟ لقد كنت ممن خطّوا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *