د. نبيه القاسم: أسعد الأسعد و”جمر الذكريات”

د. نبيه القاسم

أسعد الأسعد و “جمر الذكريات”

“جمر الذكريات” الإصدار الجديد عن “مكتبة كل شيء” في حيفا لصاحبها صالح عباسي للشاعر والروائي أسعد الأسعد الذي يتميّز عن الكثيرين من الشعراء والكتّاب من أبناء شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة أنّه اختار طريق المُواجهة والتّحدّي ورَفْض الواقع والعمَل على تغييره وبناء واقع أفضل تسود فيه الحرية والمساواة والتّعاون والديمقراطيّة في وطن مستقل يوفّر الأمان والحياة الكريمة لكل أبنائه. وكونه الابن البكر لأسرة لاجئة من قرية محسير في الضفة الغربية هُجِّرَت عام النكبة 1948 مع كل أهل البلدة لتعيش في مخيم “عقبة جبر” قرب أريحا تعاني الغربة والفقر والتشتت كان الدّافع القويّ لتوجّهه النّضاليّ في مختلف المجالات.

وكان والد الكاتب مناضلا عمل على التصدّي للقوّات اليهودية التي هاجمت بلدته محسير عام 1948، واضطر بعد سقوطها، كما الجميع، على ترك البلدة والتّوجّه مع أسرته نحو الضفة الشرقية لنهر الأردن، ولكنه سرعان ما استعاد العزيمة وتماهى مع حركات التحرّر العالمية والعربية، وحرّكته مَشاعرُه القومية وخطاباتُ جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي فترك بيتَه في مخيم “عقبة جبر” وانتقل ليعيش في مدينة أريحا حيث انضم للشباب المُنَظَّمين سياسيا، وشارك في الحراك المُناهض للنظام الأردني وضدّ دخول الأردن في حلف بغداد، ومن ثم إعلان التمرّد والثورة واحتلال مَخْفر الشرطة وإعلان قيام جمهورية “عقبة جبر” عام 1956 ممّا دفع الجيش الأردني لمُهاجمة المخيّم واعتقال العشرات، وكان والد أسعد أحدهم.

بدأ أسعد الأسعد نشاطه السياسي في بيروت عام 1966حيث كان يدرس هناك وانضم إلى خليّة شيوعيّة لبنانية تعتمد الفكر الشيوعي الماوي، ولكنه سرعان ما تركها بعد ثلاثة أشهر. ومع اندلاع حرب حزيران 1967 واحتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان ترك بيروت قاصدا العودة إلى الوطن حيث تُقيم أسرتُه، ولكنّه فوجئ عندما وصل إلى مدينة عمان أنّ أسرته قد هربت إلى عمان خوفا من بطش الجيش الإسرائيلي، فغضب أسعد ورفض الإقامة في عمان، ولما رفض والدُه العودة إلى بيته في مخيّم قلنديا تركهم وعاد وحيدا مُتحدّيا كلّ المخاطر، فاجتاز نهر الأردن ساعات الليل إلى الضفة الغربية، وقطع كلّ المسافات إلى أن وصل إلى مدينة أريحا صباح يوم 17.6.1967 بعد أسبوع من احتلالها. ثم كان، وبعد عدّة مُحاولات نجح أسعد في أنْ يُقنع والدَه بترك مدينة عمان والعودة إلى بيتهم في قلنديا يوم 23.8.1967.

يذكر أسعد إحساسَه بالحزن والألم والغضب عندما رفض والدُه طلَب أسعد بأن يتركوا مدينة عمان ويعودوا إلى بيتهم في قلنديا قائلا “لم أتقبّل قرار والدي بالهَرب من قلنديا، ردّدتُ في داخلي، وكأني أقول له: “لماذا يا والدي ترتكبُ نفس الخطيئة مرّة أخرى، لم أكد أسامحُك على فعلتك الأولى عام 1948، فلماذا عدتَ إلى نفس الكارثة بعد أقلّ من عشرين عاما؟ لماذا هربتَ من بقيّة وطنك، بل آخر ما تبقّى من فلسطين؟ لماذا يا والدي؟”(ص46)

ويقول الكاتب شارحا أكثر: ” كنتُ أحاورُ والدي مرّات ومرّات، وما زلتُ مُقتنعا بأنّ التشبّث بالوطن كان مُمكنا، ألم تكن الجبالُ المحيطة بالقرى الفلسطينيّة، وما بها من مغارات وخنادق، وأخاديد وأنفاق طبيعيّة، قادرة على إخفاء أهلها إلى حين؟”(ص 47).

ويُحاولُ تبريرَ هرَب الأهالي من قراهم عام 1948 بأنّ خوفَ الأهالي أنْ يصيبَهم ما أصاب أهالي دير ياسين وغيرها من القرى قد دفعَهم للهَرب قبل أن يحلّ بهم ما حلَّ بتلك القرى،” ويقول حازما: “لكنّي واثق من أنّ الموت في الوطن، أشرف من التّشرّد في أوطان الآخرين والتّعرّض للإهانة، إذ أنّي أومنُ بأنّ موتا بكرامة أشرف من عيش بمَهانة.” (ص47)

أسعد الأسعد لم يتّبع الخطّ التسلسلي في سرد سيرته، وإنّما اختار مقاطع مختلفة ومُتباعدة زمَنيّا ومُتفرّقة الأمكنة، يتنقّل بينها لينقل لقارئه مشاهد مختارة من الصورة البانوراميّة الكبيرة لما حلّ بالشعب الفلسطيني خلال الثمانين عاما التي عاشها من عام النكبة 1948 حتى اليوم.

وبذكاء السياسي المُجرّب الخبير والكاتب المُتبَصّر بما سيأتي به المستقبل يختارُ يوم توقيع “اتّفاق أوسلو” بين منظمة التحرير الفلسطينيّة والحكومة الإسرائيلية الذي اعتبره، كما والده، أكبر خطأ ارتكبته منظّمة التحرير الفلسطينيّة، فهذا الاتّفاق “اتفاق أوسلو” كما يقول: هزيمة ونكبة أكبر من نكبة 1948، وقد اختار الكاتب هذا اليوم ليكون بداية لسرديّته، مُنطلقا منه ما بين الماضي والحاضر ليستعيد الأحداث والمشاهد والتّحوّلات والكوارث التي شهدها العالم وكان ضحيّتها العرب والشعب الفلسطيني حَصْريّا.

يسترجع الكاتبُ تلك الدّقائق الحَرجة التي دخل فيها على والده وضيوفه، “ما أنْ ألقيتُ التحيّة على والدي وضيوفه حتى عاجلني وقبل أن أجلس بسؤال لم يخطر على بالي: دَخْلك.. قُل لي.. اتّفاق أوسلو هذا شو بحْكي؟ عن بيت محسير؟ وَلْلا ما بحكي؟ فاجأني والدي بسؤاله، لكنّي تمالكتُ نفسي وأجبتُه: لأ يابا، لا بحكي عن بيت محسير ولا عن يافا ولا عن حيفا ولا حتى عن القدس. فردّ والدي: اسمع يا أسعد، اسمعوا كلكم، أنا ضدّ أوسلو وضدّ أيّ اتّفاق ما برَجِّعني لبيت محسير (بلدته).. فاهم!

كان والدي غاضبا، يُشير بيده كأنّي أنا المسؤول عن اتّفاق أوسلو أو أنا الذي وقّعتُه. وصمتَ والدي قليلا، لكنّ الشرر كان يتطاير من عينيه ثم عاد يُخاطبني بنبرة أقلّ حدّة وأكثر جدّيّة: شوفو يا جماعة، راح يسجّل التاريخ أنّ هذا الاتّفاق كان أكبر خطأ ارتكبته منظّمة التحرير، هم فرحون بعودتهم إلى الضفّة والقطاع، لأنّهم بيفكروا إنّهم راح يكونوا أحرار، وانهم راح يتحرّكو كيف ما بَدْهم، ما بعرفو الإسرائيليين. أنا بعرفهم. اتّفاق أوسلو هزيمة ونكبة أكبر من نكبة 1948.إنّ اتّفاق غزّة وأريحا أوّلا، راح يكون أوّلا وأخيرا، راح يجْمَعوهم ويحُطّوهم هان (وأشار إلى بطنه) عشان يكونوا قُدّام عينيهم. بكرة راح ييجي عرفات ورَبْعُه، وإذا بَدّو يزور بيت لحم، أو غزّة أو نابلس بدّو تصريح من الإدارة المَدنيّة الإسرائيليّة. وكذلك إنْ أراد الذهاب إلى عمّان أو أي بلد آخر، عربي أو غير عربي. مجانين، كيف أقنعوهم؟ مش عارف.” (ص10-11)

ويقسمُ أسعد سنوات الضياع الفلسطيني منذ عام 1948 إلى قسمين:

سنوات ما بعد النكبة الأولى عام 1948 وسنوات ما بعد النكبة الثانية الأكبر والأهمّ اتّفاق أوسلو يوم 13 سبتمبر عام 1993. هذا الاتّفاق أفقدَ والدَه الأملَ والحلمَ بالعودة إلى بلدته “بيت محسير” حتى أنّه في زيارته الأخيرة لها لم يستطع مُتابعة سَيْره وطلب من أسعد أن يعود به سريعا إلى البيت حيث تساقط ونام على “الصوفة” في الفرندة وظل على حالته يُعاني من الشلل النصفي إلى أن مات في العاشر من حزيران عام 1997.

ويتحدّث الكاتب عن خوضه في عمله السياسي مختلف المُواجهات والقضايا خاصّة أثناء عضويته للحزب الشيوعي الذي استقال منه فيما بعد لاختلافه مع قيادة الحزب على تقييم البريسترويكا والغلاسنوست التي نادى بهما غورباتشوف وكانتا السبب في انهيار الاتحاد السوفييتي وكل المعسكر الاشتراكي. وبعد سنوات، وفي عهد السلطة عيّنه الرئيس ياسر عرفات سفيرا لفلسطين في ست دول في آسيا الوسطى مركزها “أوزبكستان” كانت هذه السنوات كما يقول: مَفْصلا مهما في حياتي حيث حصلتُ على الدكتوراة في التاريخ بعد خمس سنوات من جامعة طشقند عن رسالة بعنوان “الثقافة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال” كما وعمل مُحاضرا في نفس الجامعة. وكان لأسعد الأسعد الدَّور المهم في الحراك الثقافي والأدبي كشاعر له طريقتُه الخاصّة في طرح الفكرة واختيار المفردة وصياغة القصيدة التي يُريد، وكروائي نشر العديد من الروايات التي واكبت وصوّرت وثوّرت ودفعت بخطوات إلى الأمام بالحركة الأدبية الفلسطينية. وعمل في الصحافة في عدّة صحف محلية وأصدر مجلة “الكاتب” وافتتح “مكتبة شروق” وكان له الدور المهم في تأسيس “اتحاد الكتاب الفلسطينيين” وترأسه لسنوات.

يُشكل “جمر الذكريات” وثيقة مهمة للحالة الاجتماعية والاقتصادية التي عاشها الفلسطينيون بعد نكبة 1948 من تشتّت مُعظم الذين هُجِّروا، وحتى أبناء العائلة الواحدة كما حدث لأسرة الكاتب التي تنقَّلَت في معيشتها ما بين مخيمات “الكرامة وعقبة جبر وقلنديا”، وما كان يلقاه الواحدُ من إهانة ومَسّ بشخصيته لكونه أصبح لاجئا فقيرا لا يملك شيئا.

وجمر ذكريات أسعد الأسعد يُوثّق للحالة الثقافيّة والسياسية في المجتمع الفلسطيني على مَدار ما يقارب الخمسين عاما بعد نكبة 1948 موزّعة بين الحكم الأردني من عام 1948 حتى حزيران 1967 وتحت الاحتلال الإسرائيلي من حزيران 1967 حتى عام 2004 مركزا حديثه على الفعاليات والنشاطات والمهمّات الثقافية والسياسية التي قام بها مُبرزا المُضايقات المُتلاحقة التي عاناها من الاحتلال مثل إيقاف إصدار مجلة “الكاتب” وإقفال مكتبة “شروق” واعتقاله والتّحقيق معه الكثير من المرّات، وفصله من عمله كمدرّس. كما يكشف عن تفشّي الفَساد والانتهازيّة في السلطة وموظّفيها وفي مختلف المؤسسات والأحزاب والتنظيمات.

ويتحدّث عن أبي خالد محمد البطراوي القيادي الشيوعي والمُفكر والرّاعي للمئات من الشباب والشابات، وإلى أي مدى كان لمحمد البطراوي تأثيره الكبير على فكر وتوجّه الكاتب.

وأذكرُ أنّ أوّل لقاء لي مع أسعد الأسعد كان في بيت محمد البطراوي في مدينة البيرة، ومحمد البطراوي كان الشخص الأوّل الذي تعرّفتُ عليه بعد الاحتلال الإسرائيلي. وربطتنا صداقةٌ استمرّت عشرات السنين حتى آخر يوم من حياته، وكان نافذتي للتعرّف على الشخصيّات السياسيّة والثقافية والأدبية في الأراضي المحتلة.

جوانب مختلفة تناولها أسعد الأسعد في جمر ذكرياته الخاصّة منها والعامّة، وشخصيات ومواقف وأحداث ذكرَها، منها بإسْهاب ومنها باختصار كبير وبتلميح أحيانا، لكنّ اللافت للانتباه أنّه لم يتطرّق للأحداث الكبيرة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في المَنافي: الأردن، لبنان، الكويت. ولا في الأراضي المحتلة وبالتّحديد الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية وحصار الرئيس ياسر عرفات وموته. قد يكون الكاتب أسعد الأسعد قصد تَرْك هذه الأحداث الكبيرة لجزء ثان وثالث من “جمر الذكريات” ليكون الشاهدَ الكبير على ما وصل إليه شعبنا الفلسطيني حتى هذه الأيام الأليمة، والتي يبدو فيها تَحقّقُ نبوءة والد أسعد الأسعد بأنّ “اتّفاق أوسلو” كان سببَ النّكبة الكبرى التي يُواجهُها الشعبُ الفلسطيني هذه الأيام أمام مَرآى ومُتابعة كلّ شعوب العالم، وخاصّة أمام جماهير الشعب العربي المَهزومة المَقْموعة في كلّ أقطار العالم العربي.

للصديق أسعد الأسعد كلّ التحيات، ونحن في انتظار جَمَراته المُتَوَهِّجَة المُتدَفّقة من فيضاناته الآتية.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *