د. فيّاض هيبي
في وصف حالنا المأزوم
قراءة في ديوان الشاعر د. صالح عبّود “أوراق الغروب”
تمهيد:
أسعد الله مساءكم بكلّ الخير، شكرا للقائمين على هذا المشروع الثقافي الهامّ، وفي هذه الظروف الراهنة التي تشهد حساسية عجيبة غريبة، نسأل الله ألا تفقدنا ما بقي فينا من إنسانية!
إنّه لما يثلج الصدر حقيقة أن أعود وألتقي بصديق عزيز، صديق الدراسية الجامعية في سنوات خلت، ألتقيه وهو شاعر ومبدع وأنا قارئ، مجردُ قارئ لا أكثر وبكلّ تواضع ومسؤولية أقول هذا الكلام! هي لقاءات تعيدنا ولو قليلا إلى إنسانيتنا الغائبة المغيبّة وسطَ هذا الجنون والعمى!
أمّا بعد،
قرأت ديوان الصديق الشاعر د. صالح عبود، ولمست فيه الكثير الكثير من الغضب وقليلا قليلا من التفاؤل! كيف لا والواقع لا يبشّر بخير على الإطلاق، وتحوّلاته الغيريّة لا تبقي ولا تذر، ولأنّ المبدع الشاعر في حالتنا هذه، يمتح كحال المبدعين عموما من الواقع ومن همومه وآلامه، كان من البديهي أن تكون معادلة الغضب والتفاؤل عند شاعرنا على النحو الذي أشرت إليه سابقا.
أرى أنّ الشاعر في ديوانه “أوراق الغروب”، يراقب المشهد العربيّ محليا وعربيّا، ولا يجد فيه ما يسرّ أبدا! حالنا لا يسرّ ولا حالهم، هناك في الوطن العربي الكبير، يسرّ كذلك. وعليه ازداد منسوب الغضب على حساب التفاؤل والأمل في ظلّ هذا الواقع المأزوم! وانا للحقيقة كنت قد اخترت عنوانا لهذه القراءة “في وصف حالنا المأزوم”. ويبقى السؤال الكبير والهام في الوقت نفسه، كيف يعبّر الشاعر عن هذا الواقع المأزوم، وما هي أدواته وأساليبه الطاغية في ديوانه هذا للتعبير عمّا سلف؟ هو سؤال تفرضه الدراسة العلمية الأكاديمية بالضرورة لا بالمشيئة، لكنّه من الناحية الأخرى، من الشروط القبلية عندي على الأقلّ، التي يجب على القارئ التسلّح والتزوّد بها في سعيه للوصول إلى جمالية النصّ وتذوق النصّ، واستكشافه وسبر أغواره، لتبعث الحياة في النصّ والرضا في نفس القارئ على حدّ سواء. وهذا السؤال سيشكّل محور النقاش في هذه الورقة، وأنا أعترف أمامكم مسبقا أنّ الديوان يستأهل قراءة أعمق وأشمل، تتجاوز هذه القراءة، على أمل ان يتحقّق ذلك في سياق آخر.
قلت إنّ الشاعر يعاين ويراقب الواقع العربيّ محليّا وعربيّا، بعين المبدع، والمثقّف، وأولا وقبل كلّ شيء بعين العربي الخائف! الخائف من حالة التيه والضياع التي تعيشها هذه الأمة، ومجتمعُنا بطبيعة الحال. هو خائف وأنا كذلك مثلُه خائف! لأنّ الجهل والتفكّك يحيط بنا من كلّ جانب، ولأنّ الصوتَ المسموعَ المجلجلَ هو صوتُ التفاهة والنّفاقِ، غابت المعايير وباتت الأخلاقيات التي ميّزتنا في غابر الأزمان عملةً نادرةً، فكيف يمكن في ظلّ هذا التردّي والخنوع والاستسلام أن نتفاءلَ ونحن نساوم على إنسانيتنا وضمائرنا وتاريخنا يوم بعد يوم! وأن يطاوعَنا الحرفُ وتطاوعَنا القصيدةُ، لنتغنّى بأمجاد ومثاليات تتنكّر لنا، وهي التي ألفتنا وألفناه فيما مضى! كيف؟
وعليه، يتكئ الشاعر في ديوانه هذا على جملة من الأساليب والتقنيات في محاولته للتعبير عن هذه الواقع المأزوم! وهي كما أرها تحقق معادلة “تعالق الشكل والمضمون” الهامة لتعزيز جمالية النصّ وأدبيّته، نذكر من هذه الأساليب:
-
التناص
-
الأوكسيمرون (الإرداف الخُلفي)
-
الحنين إلى الماضي (Nostalgia)
-
موتيف الموت
استعان الشاعر بهذه التقنيات وبغيرها ليدلَّ على هذا الواقع، ولينتقدَ ويفضحَ بكلّ ما أوتي من قوّة ولغة! وبتقديري فقد أحسن الشاعر في انتقائه لهذه التقنيات التي تفي بأغراض الانتقاد والفضح. فالتناصّ عنده أمّا أن يذكر بأمجاد وبطولات غائبة، كما هو الحال في قصيدة “عادل” فيها يحنّ الشاعر إلى مقام العدل ومثال الاستقامة المتمثّلين بالفاروق عمر بن الخطاب، فهذا الالتفات فيه تعبير جليّ واضح عن بؤس الواقع، ومحاولة الهروب منه إلى زمان سادت فيه معاييرُ بتنا نفتقدها. محاولة استنطاق التاريخ هذه، هي محاولة البحث عمّا يمكن أن يعزّز من مناعتنا النفسية المتزعزعة في ظلّ هذا الواقع، فلا يتردّد الشاعر في محاولته هذه، ليقينه بقدرتها على الاتهام، وهو أضعف الإيمان!
ومن جانب آخر، جاء التناص ليعين على تبئير الواقع بسوداويته وعبثيته، وليعين الشاعر على تفريغ هذه الكمّ الهائل من الهموم، فكانت نيران نيرون روما حاضرة، وكتائب أبرهة كذلك، ولا بدّ من أبي رغال حتى يكتمل المشهد العبثيّ هذا.
أمّا الإكسيمرون (الإرداف الخُلفيّ)، وهو بكلمات قليلة بسيطة “تناقض بلاغيّ يجمع بين كلمتين متناقضتين، وهذا التناقض يولّد نبرة حادّة صارخة” (كما جاء في تعريف د. ريما أبو جابر – برانسي لهذا المصطلح). وما أحوجَنا إلى ما يفجّر، وينذِرُ فلعلّ وعسى! ومن أمثلة ذلك في هذا الديوان، نذكر: أعفان رقيقة / شمس ليليّة/ فوز مهزوم/ بناء الهدم. وكلّ هذه الأمثلة كما نلاحظ تحاول فهم هذا الواقع بعبثيته وتناقضاته اللامتناهية
الحنين إلى الماضي (Nostalgia):
أليس في الحنين والرجوع إلى مكان ومضى، اتهام صارخ للحاضر؟ فالحاضر لم يتابع خطواتِ الماضي ويطوّرها ولم يأتِ بجديد يجعل من الماضي ماضيا حقّا، فيكون الحنين إلى ما كان تعبيرا واضحا عن الفشل والقصور، لأنّ الحاضر يتوسط طرفين لا محالة، هما الماضي والمستقبل، فإذا فشل إنسان هذا الزمان في جعل الحاضر امتدادا لماضي الأمجاد والبطولات والعزة، سيكون عاجزا أمام المستقبل كذلك، فنراه يقوم بممارسة رجعية خلفية تقرّ بفشله وحنينه إلى ما كان، وفي هذا الديوان نذكر مرة أخرى قصيدة “عادل” التي يتسع لها المقام في هذه التقنية كذلك، وقصيدة “عراقنا” فيها يحن الشاعر إلى العراق الذي كان، ونلاحظ فيها كيف ألزم الشاعر العنوان بالضمير المضاف، محاولا بذلك ان يجعلها مثالا لنا جميعنا، هي عراقنا في أمجادها وبطولاتها، فالتذكير بما كنّا عليه، على ما فيه من تعبير عن قصور وعجز، خير من الفقد والفقدان، فقدان ما يمكن أن نتكئ عليه في هزائمنا المتواصلة.
موتيف الموت:
لم يكن ذكر موتيف الموت في نهاية استعراضنا للتقنيات والأساليب المعتمدة في هذا الديوان، مؤشرا على مدى أهميته بين التقنيات الأخرى على الإطلاق، بل هو باعتقادي المحور المركزي فيها وفي الديوان، ويأتي ذكرنا له في هذا الموضع لنفرد له مساحة كافية في هذه القراءة. يكثر الموت في هذا الديوان كمّا وكيفا، وعليه كان يسهل على القارئ ملاحظة ذكر كلمة الموت ومرادفاتها في قصائد الديوان. ألا يكون الموت بتجلياته المختلفة ناتجا طبيعيا، لحالات التخلّف والجهل والضياع التي تسود الواقع؟ فيتجلّى هذا الموت واضحا جليّا في قصيدة الشاعر الجميلة “غابة”، ويتحكّم بإيقاع الواقع كيفما يشاء. تصوّر هذه القصيدة واقعنا نحن الدامي، المتمثّل ممارسةً بظاهرة العنف وانتشار السلاح، هذه الظاهرة التي باتت تقضّ مضاجعنا جميعا، ولم يسلم منها أحد، حتى القصيدة! والتفات الشاعر لهذه الظاهرة الدامية المقلقة، فيه الالتزام واعتراف بدور النصّ والقصيدة، التي يمكن أن تحقّق، وبشكل مفارق، ما فشل المسؤولون وأصحاب القرار المزعومون عن تحقيقه! ألا تمنحنا القصيدة هذه المساحة من البوح والاتهام والصراخ في وجه القاتل، دون أن يكون قادرا على ردّ الصاع لنا صاعين وأكثر؟ ألا يمنح النصُّ المقتولَ الحقَّ في النيل من قاتله إن أردنا له ذلك؟ وهل نحن على هذا القدر من الجرأة والقوة في الواقع بعيدا عن النصّ والقصيدة، حيث يجب أن نقيم وزنا لمن لا وزن لهم، فنعيد حساباتنا ويردّنا خوفنا وعجزنا غالبا؟ فمن أقدر وأجرأ نحن أم القصيدة، في ظلّ هذا الواقع المشوّه؟
يقول شاعرننا في القصيدة المذكورة “غابة” (سلاحنا في بيتنا كمؤونة) وأتساءل أنا: لماذا فضّل الشاعر اعتماد كاف التشبيه في هذا القولة الجميل البليغ! ألم يكن من الأجدى حذف الكاف لتكون الصرخةُ أعمقَ وأصدقَ وأكثر اتهاما، ودون أن ينتقص ذلك من بلاغتها شيئا! وبالمقابل أجاد الشاعر حين جعل عنوانَ هذه القصيدةِ بصيغةِ التنكيرِ لا التعريف. ليكونَ أشملَ وأوجعَ! فالتعريف يضيّق الخناق ويحدّد رقعة الاتهام في هذه الحالة، والتنكير يشمل الجميع دون استثناء. ومثلها قصيدة “الحقيقة”، التي يمكن اعتبارها امتدادا أو نصّ ثانيا للقصيدة السابقة، لتؤرخ هي الأخرى لهذا العبث والجنون الذي بات يعصف بهذه الأقلية ويهددها تهديدا حقيقيا ووجوديّا! وبخلاف القصيدة الأولى، جاء العنوان فيها معرّفا، وقد أجاد الشاعر مرة أخرى. لأنّنا أمام حقيقة بعينها مؤلمة دامية، فأرادها الشاعر محدّدة معرّفة بارزة واضحة وضوح الشمس في عزّ الظهيرة! وتأتي قصيدة “قسطرة” في هذا السياق كذلك، لتبين يؤس وتردي هذا المجتمع وأبنائه وبطولاتهم الباهتة الفارغة، بطولات النراجيل كما يسمّيها الشاعر، وبحقّ!
في النهاية:
في النهاية أعترف مرة أخرى أنّ قراءة سريعة ماسحة كهذه لا تفي هذا الديوان حقّه بتاتا! وفي النهاية أتذكر كذلك أنّ الديوان غلّب مواضيع القتل والموت، والتخلّف والجهل، على مواضيع الحبّ والغزل فلم تظهر إلا قليلا! وكأنّه بذلك يؤكّد مجددا مدى بؤسنا ووجعنا، فلا عجب إذا والحالة كذلك أن يختم شاعرنا ديوانه بالتحذير من الويل المتربص بنا!
شكرا لشاعرنا على هذا الإصدار وإلى مزيد من الإبداع والتألق.