نايف خوري في لقاء مع قطبَيّ الشعر الفلسطينيّ الحيفاويّ: حنّا أبو حنّا، وأحمد دحبور

نايف خوري في لقاء مع قطبَي الشعر الفلسطينيّ الحيفاويّ: حنّا أبو حنّا، وأحمد دحبور

دحبور: لا أظن أن في الوجود مدينة مثل حيفا.

أبو حنا: لم أجد تعلّقا كهذا بحيفا يبلغ حدّ التّقديس    

الشاعر أحمد خضر دحبور، ولد في حيفا في 20.10.1946 وغادرها مع ذويه إلى حمص في 20.10.1948. كتب العديد من أغاني فرقة العاشقين الشهيرة، أشغل مناصب عديدة منها: رئاسة تحرير مجلة اللوتس، إدارة الدائرة الثقافية في منظمة التحرير الفلسطينية، رئاسة مجلة البيادر الفصلية التي صدرت في تونس، عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين، حاصل على عدة جوائز وأوسمة رفيعة، مثل جائزة توفيق زياد في الشعر 1998. استضافه نادي حيفا الثقافي الأسبوع الماضي، والتقيت به في مقهى سانتا ماريا على جبل الكرمل، مع شاعر حيفا الأستاذ حنا أبو حنا، بمبادرة الصديق المحامي فؤاد نقارة، رئيس نادي حيفا الثقافي، وكان لنا الحوار التالي:

نايف – ها أنت تجالس قطبا من أقطاب الشعر الفلسطيني، الأستاذ حنا أبو حنا، وأنت تجدد مشاعرك نحو حيفا مسقط رأسك، ويبدو أنك المتأهب للعودة أبدا.

دحبور – لدي نظرية تقول إن البشر نوعان، ناس من حيفا وناس من غير حيفا. ولذا أقول أيضا إن أمي هي التي ربطت حبل سرتي بحيفا. إنها امرأة أميّة، لكن لها مخيلة غريبة، فأذكر أيام الفقر والعوز كان ينقصنا كل شيء، لأننا لاجئون ومشرّدون. وكانت أمي تقول إن المطر ينزل في حيفا على الزرع فقط وليس على الناس، ولذا تبقى حيفا خضراء.

نايف – لماذا قالت ذلك؟

دحبور – لأننا في المخيم عشنا في الخيمة، وأيام الشتاء نشعر بالبرد الشديد فعلا، والمطر ينهمر فوق رؤوسنا، وندوس الوحل في الطريق، وربما أنت تعرف هذا الجو، لكن حيفا عالم آخر.

نايف – وماذا قالت أيضا؟

دحبور – قالت أشياء وأشياء، منها أن في حيفا جبلا اسمه الكرمل، يتحرك نحو البحر كل سنة سبع خطوات، فأقول لها: أهذا يعني أنه سيأتي يوم يصبح الجبل في البحر، فتقول: في السنة الفردية يتحرك الجبل من اليمين إلى اليسار، وفي السنة الزوجية يتحرك من اليسار إلى اليمين، ولذا يبقى مكانه كي يحرس حيفا.

أبو حنا – أنا اقترحت عليك منذ مدة أن تكتب سيرتك الذاتية، والتي هي بمثابة سيرة لكل فلسطيني، فتعبر عنا وعن تعلقنا ببلدنا، والقول عن والدك، لماذا لم يقتل ابنه بدل أن يرحل إلى المهجر. أهذا يعني أن تصبح حيفا أهم من الابن؟

دحبور – أنت من الرينة، ولم يرحل منها أحد.

أبو حنا – لا. تركها قسم، وانا تحدثت عن يوم الرحيل هذا في كتابي “ظل الغيمة”. أتعرف منظر الناس الذين يتعرضون للسعات الدبابير فيركضون مسرعين للنجاة بأنفسهم؟ وبينما هم مسرعون، رآهم أحد الزجالين، ويعمل بالحداء، فقال: لا بد يا غرب ما تحمل على حمار وترحل من فلسطين العرب. فقال والدي، ماذا تقول؟ إننا لا نجد حمارا ولا يمكننا أن نرحل. وبعد مدة من الاحتلال أخذوا يعودون كمتسللين، على حسب ما وصفوهم.

نايف – كم كان سنك عندما غادرت حيفا؟

دحبور – عامين تماما. ولدت يوم الأحد 21 نيسان 1946 وغادرنا يوم الأربعاء 21 نيسان 1948.

نايف – ومن هنا رحلت العائلة إلى سوريا؟

دحبور – نعم إلى قرية كان اسمها عين زاط، أي عين النسر، وهي قرية شركسية لها قصة طريفة معنا. وأهل تلك القرية كرماء، حيث قدموا لنا المأكل والملبس، فقالت أمي مخاطبة والدي الشيخ: يا شيخ يجب أن نرد الجميل للجماعة لأنهم أكرمونا، ولا يمكن أن نظهر كالشحادين. فأعدت أمي وجبة طعام وقدمتها لتلك العائلة. فرد رب تلك العائلة على والدي قائلا: بارك الله فيك يا شيخ، عقبال خطف ابنتك. دهش أبي ووقف مستغربا من هذا القول وهذه الأمنية، كيف يتمنى هذا الرجل أن تخطف ابنة أبي الشيخ؟ فقالوا له: إن من عادة الشركس أن يفرح الأب بخطف ابنته عندما يتزوجها أحد الشباب. وهذا يدل على رجولة وبطولة الشاب الذي استطاع أن يخطف الفتاة من عائلتها. فأدرك أبي أن هذا الأمر خير، ولكنه أصر على الرحيل من هناك فورا. ثم انتقلنا من عين زاط إلى حمص، ونزلنا في الجامع الكبير، وهو أكبر جامع في المدينة.

نايف – وكان هناك استقراركم.

دحبور – نعم، ولا يزال أهلي هناك. ثم انتقلت إلى تونس، وكنت من الرواد الفلسطينيين إليها، ومنها إلى غزة، وها أنا الآن في رام الله.

نايف – لكن حيفا ذات نكهة أخرى.

دحبور – حيفا هي النكهة. هي المدينة، وقلت لها أنت المدينة.

نايف – وها نحن نجلس على قمة الكرمل، والبحر أمامك، والأحباب حولك.

دحبور – أنا في الجنة الآن. وأتذكر المرة الأولى التي زرت فيها حيفا، وهو أمر يفهمه فقط كل من يأتي إليها بعد اشتياق.. وكل شيء كنا محرومين منه كنات أمي تعدنا بأننا سنحصل عليه عندما نعود إلى حيفا. كالأطعمة والفاكهة والثمار والطبيعة والبحر والجبل، وأصبحت حيفا هي المرجع الذي تعود إليه أمي.

نايف – تعتبر العودة إلى البلد بالنسبة للفلسطيني، إن كانت حيفا أو غيرها، هي حنين يتغلب على أي شعور آخر. وأنا أعرفه عن كثب لأني من إقرث المهجرة.

دحبور – طبعا، بالنسبة لإقرث، كانت أمي تقول: كل العنب مُر إلا عنب إقرث. وكل ما كتبته كان عن حيفا، ولم أكتب شيئا عن غيرها. وأذكر بعدما رحلنا وعدنا، رأينا الناس فرحين بحضورنا مثل ما نحن فرحين مع أهلنا الذين هناك. وكنا نعتقد أن هذه الفرحة كذبة، هل سأعود يوما؟ أنا في مكان وحيفا في مكان آخر. وقلت: حتى لا تقع حسرتي علي وصلتها ولم أعد إليها..

نايف – ما أجمل ما كتبت عن حيفا؟

دحبور – حيفا هي مُركّب من البحر على الجبل، وهذا من تأثير الأم أكثر من الأب، كان ينقصنا كل شيء في المخيم، فالطقس الشتوي بارد ونحن نرتجف من الصقيع، والمطر ينهمر على رؤوسنا من السقف، فكانت أمي تعوضنا بالقول: يا يمّا، بس نروح على حيفا بتلاقي كل شيء. والصحيح أني وجدت حيفا متطابقة مع المثل الذي يقول: “وقد وفى لك راويها بما وعد”. وتبين أن كل ما كان ينقصني موجود فيها فعلا. لا أظن أن في الوجود مدينة مثل حيفا، إنها مدينة خارقة.

أبو حنا – إن الذي بناها هو ظاهر العمر، ولذا ليس لها تاريخ يهودي. فهي مدينة عربية بأصولها وجذورها، وليس كبعض الأمكنة التي يبحثون وينبشون في الآثار كي يثبتوا أن تلك الأماكن كانت يهودية منذ القديم، ويعودون إلى التوراة ليطلقوا عليها الاسم التوراتي. أما حيفا فلا جذور لهم فيها.

دحبور – إذًا هي حديثة.

أبو حنا – نعم حديثة، وعربية الأصل، وأنا أتيت إلى حيفا لأتعلم من “سدود”. يعني أشدود اليوم، فقد كان أبي يعمل مسّاحا للأراضي، ويأخذ عائلته معه من بلد إلى بلد بحسب عمله. واستقر بنا الحال في حيفا، وكان عمري خمس سنوات في حينه، وأدخلني أبي إلى الكتّاب للتعليم.

دحبور – أبي قال بعد الرحيل متحسرا: لماذا رحلنا، لو بقينا كان أفضل، ليت أصبت بيدي أو برجلي، أو حتى فقدت ابني وليتني قبلت رأي جارنا النصراني، يقصد جارنا أبو جورج. فقد وقف أبو جورج في طريقه وقال له: حرام عليك يا شيخ، والله إذا خرجت من هنا فلن تعود لتراها، حرام عليك وعلى أولادك وبناتك. وكان أبي يبكي، ودموعه تتساقط من لحيته، فقد كان ملتحيا وعلى رأسه عمامة.

نايف – عندما عدت التقيت بأبي جورج، صحيح؟

دحبور – نعم، سألت عنه عندما عدت إلى حيفا عام 1994، أرجو أن تدلوني على بيت “كامل الشلبي أبو جورج”، وكان مسنا لا يزال على قيد الحياة، وقلت أريد أن أزوره فقط لبضع دقائق. وعندما دخلت إلى بيته هجمت وقبّلت يديه، فدهش مستغربا مما يحصل، وتساءل: من هذا الذي يقبّل يدي ولا أعرفه. فقلت له: عمي أبو جورج، هذه الأيدي ياما شالوني وحملوني، وكنت تضعني على أكتافك. فسألني: ابن من أنت بلا صغرى؟ فقلت: أنا ابن الشيخ خضر. فرفع نظره إلى البعيد، وتطلع إلى الماضي مستعيدًا ما يستطيع أن يتذكره، وفجأة تذكّر والدي وصرخ: أأنت ابن الشيخ خضر؟ فقلت له نعم، أنا أحمد. الغريب أنه نشأ حبل سُرّي بيننا وكأنه أبي الآخر، ونظر إلي كأني ابنه فعلا.

نايف – لنتحدث عن أهل حيفا اليوم، عن الناس والسكان.

دحبور – أقول للأهل إن ابنكم راجع إليكم. هؤلاء أهلي وأصحابي وخلاني.

أبو حنا – هذا الشعور يعطي الهوية الحيفاوية. يمكنك أن تتعرف على ابن حيفا نتيجة هذا الشعور، في كل مكان يتواجد فيه، لأني لم أجد تعلّقا كهذا بحيفا يبلغ حد التقديس.

دحبور – أنا عرفت أبا الأمين منذ زمن.

أبو حنا – صحيح، فقد كتب عن كتابي ظل الغيمة في جريدة الاتحاد. وكانت الطبعة الأولى في أوائل التسعين. ومعرفتنا بأحمد دحبور الشاعر زادت لأنه ابن حيفا، وهو حامي حيفا وحارسها ورافع علمها في العالم. إذا أهينت حيفا أمامه فإنه يعتبر ذلك إهانة شخصية له.

دحبور – التقيت مرة ببنيامين غونين، وكان المرحوم سالم جبران يترجم لنا، وأردت أن أكتب شيئا، فتناول غونين قلما وقال: “خذ هذا قلم من واحد حيفاني مثلك”. فقلت له أبو يوسف، الهدية مقبولة، لكن أنت حيفاني أما أنا فحيفاوي. فتقدم مني وقبّلني وقال إنك تقول الصدق.

أبو حنا – أنا عرفت غونين منذ أن كنت في سكرتارية الشبيبة الشيوعية وهو كان في اللجنة المركزية. حدثني عن مشاركته في احتلال صفد.

نايف – لا بد من الحديث عنكما، عن محبتكما لحيفا.

أبو حنا – أنا قلت له في احتفال التكريم: أنت في حيفاك يا شاعري، هو شاعر فلسطيني من الطبقة الأولى. وسبق كثيرين كانوا قبله، فهو يكتب بدم قلبه وبرؤيا إنسانية تحررية، وبلغة يسيرة وسهلة ويرسم صورا جميلة، وهناك نقاد كثيرون كتبوا عن شعره، ولذلك يستحق شاعرنا محبتنا كلنا. ونحن انتظرنا حتى يأتي ويرى حيفا اليوم، وعسى يتمكن من الإقامة فيها ثانية. أحمد دحبور شاعر حيفاوي وهو بالتالي مثلنا كلنا شعراء فلسطينيون.

نايف بالنسبة لقصائد دحبور، فإن ما كتبه سرعان ما دخل القلوب وأصبح على كل لسان من الأغاني التي ينشدها المطربون والفرق الفنية، كفرقة العاشقين. وهي قصائد لشاعر صادق مع نفسه ومع مشاعره.

دحبور – أعتقد أني مدين بهذا كله لأمي، فقد كانت لها مخيلة متأججة، وكانت تقول عندما ينقصنا أي شيء فإننا سنجده في حيفا. ودائما حيفا هي الوعد المؤجل الذي نحصل فيه على كل ما كنا نتوق إليه. أما بالنسبة لفرقة العاشقين، فأنا في صلب هذه الفرقة، وهي أنا وأنا هي. علمًا أن حسين نازك، الفنان المقدسي العظيم، هو مؤسس فرقة العاشقين، وقد غنت لي الفرقة معظم أغانيها، وأشهرها: يشهد العالم علينا وعا بيروت، يا أولاد فلسطين، والله لزرع اللوز الأخضر، هذه الأغنية كتبتها قبل تأسيس العاشقين.

نايف – أستاذ حنا، عندما تسمع شعرًا كهذا، لا بد أنه يحرك عواطفك.

أبو حنا – بدون شك، وكانت لي أيضا تجربة جوقة النشيد الوطني، فبعد النكبة عام 48 قررنا تأليف فرقة غنائية للظهور في المهرجانات الشعرية، وأقمنا جوقة الطليعة في الناصرة بعد ثلاثة أشهر من الاحتلال.

دحبور – كان الراحل محمود درويش يقول دائما إن حنا أبو حنا هو معلمنا.

أبو حنا – كان معنا شاب لاجئ من حيفا اسمه ميشيل درملكنيان وهو موسيقي عاش في الناصرة، قاد جوقة الطليعة بأربعة أصوات، وأنا أكتب لهم: أرضنا اغتصبوها، أهلها شرّدوها، أين يأوي بنونا الصغار.. إلى آخره. وكتبت نشيدا للمرأة: انهضي وانبذي القيود/ إنما أنت للوجود.

نوره الزاهر البهي / يا ابنة العالم الجديد/ حطّمي ذلّة العبيد/ أدركي العالم الهَني، إلى آخره.

دحبور – أبو الأمين أنت كتبت مقدمة لأول كتاب لمحمود درويش.

أبو حنا – صحيح.

نايف – أريدك أن توجه كلمة لأهالي حيفا، مثلي أنا الإنسان العادي في وادي النسناس وسائر أحياء حيفا، الذين جئت لتراهم.

دحبور – حيفا هي المرجع، وهذا هو عنوان ديواني “هنا هناك”. وأقول لهم: ألله يصبحكو بالخير إذا الدنيا صباح، وألله يمسيكو بالخير إذا الدنيا مسا، ويعممكو بالخير حيث يكون الخير، كل إنسان له حبل سُرّة، وكان حبل سرتي في حيفا. وأمي كانت تقنعني أن الدنيا تمطر في حيفا على الزرع فقط وليس على الناس. لأن حيفا مدينة مطواعة، تتحد بالسماء عندما تخاطبها السماء، وهي الأرض التي نحلم بها، هي المدينة التي تسبقك دائما، وهي مدينة وديعة. فأرجو لكم كل الخير.

نايف – شكرا للصديق فؤاد نقارة الذي جمعنا هنا على قهوة الصباح، وشكرا لحضور أستاذنا الكبير حنا أبو حنا، ولشاعر حيفا حتى النخاع أحمد دحبور، ولنتمتع بهذه القهوة على قمة الكرمل الحبيب.

شاهد أيضاً

صباح بشير: من ذاكرة الأيام

  صباح بشير: من ذاكرة الأيام من رحاب الأزمنة، نستحضر هذه الصورة النادرة لأعضاء الهيئة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *