عن رواية رحلة إلى ذات امرأة / صباح بشير : أعيش الحلم الذي طالما أردته وتمنيّته.

صباح بشير:

أعيش الحلم الذي طالما أردته وتمنيّته.

عشقت الكتابة والقراءة منذ الصّغر، نَمَت موهبتي بتشجيع من والدي – رحمه الله- الذي كان حريصاً على وجود مكتبة داخل البيت، ولطالما أدهشتني تلك المكتبة بما احتوته من الكتب الثّقافيّة والأدبيّة، ولحسن الحظّ لم يهمل أبي حصّتنا في المكتبة كأطفال أنا وأخوتي الصّغار، فقد كان في أسفل المكتبة خزانة صغيرة وأدراج مليئة بقصص الأطفال وحكايات الأدباء والعباقرة.

ما زلت أذكر شعوري الغامر بالسّعادة حين كنت اقرأ قصّة أو كتابا صغيرا ملوّنا يحكي لي عن عالِم أو مخترع أو أديب.

حوّلتني تلك المكتبة لقارئة شَرِهة، فقد كانت تنقلني دون حواجز إلى عوالم أخرى أقابل فيها شخصيّات مميّزة ذات فكر تاريخيّ إنتاج وأدب، في أركانها تعلّمت وبدأت بتحصيل علامات دراسيّة عاليّة، كانت معلّمتي تَصِفني بالطّفلة المثقّفة، فأطير بكلماتها عاليا بأجنحة من فرح وسرور، رحت أتشوَّق لاكتشاف المزيد من هذا العالم الواسع الشّاسع. لتلك المكتبة الصّغيرة ولوالدي الحبيب كلّ الفضل لما أنا عليه اليوم.

في المرحلة الثّانويّة كان لي بعض المحاولات الكتابيّة التي نشرتها في صحيفة القدس، لاحقا بدأت الكتابة أثناء العمل في المؤسّسة الاجتماعيّة التي عملت بها، تلك الفترة فتحت لي الآفاق، بدأت المساهمة في إقامة النّشاطات والأمسيّات وشاركت في حلقات النقاش والندوات الأدبيّة، منها ندوة اليوم السابع المقدسيّة، التي كانت تقام أسبوعيّا في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، بدأت الكتابة والنّشر في مجلّة تسلّط الضّوء على قضايا المرأة، في حينها تمرّدت بكتاباتي على العادات الاجتماعيّة الباليّة، ناقشت مواضيع المرأة والقضايا الإنسانيّة، عبّرت عن أفكاري وعمّا يجول في خاطري بصراحة وصدق.

أثناء العمل كنت أستمع إلى الكثير من القصص، خاصة تلك التي تحكي وتصف معاناة النساء، وما تلاقيه المرأة في مجتمعاتنا الذّكوريّة من صعوبات وتحدّيات، كنت أستمع بشغف وألم إلى تلك القصص وأسجّل بعضا منها، وبالطّبع لا يمكن للكاتب الانعزال متفرّجا على مجريات الحياة، لا يمكنه إلّا أن ينشغل بقضايا مجتمعه؛ ليسهم في تطويره، فالثقافة نور ساطع يتعدّى صاحبه ليضيء ما حوله، وما تعيشه الثّقافة العربيّة اليوم وواقع المرأة، يختزل الكثير من القلق، ذلك القلق الذي ما زال يطرح الأسئلة، أسئلة الهوية والآخر والحداثة والمرأة، وما من شكّ فالنّهوض بالمرأة يمثّل مدخلا مهمّا لتحقيق التحوّل الاجتماعيّ الأفضل، وأنا كأيّ كاتب أتغنّى بمجتمعي، أنصهر مع كل العوامل التي تثبت وجوده الإنسانيّ وقضاياه، ولا يمكنني التَّنصّل من ثقافتي وبيئتي، فهي عناصر ضرورية لصياغة نصّوصي وتشكيلها، لذا لا أكفّ عن البحث في خللّ الظرّوف، ودون أن أشعر تعكس كتاباتي واقع المجتمع.

لم أقرّر الدّخول إلى عالم الرّواية آنذاك، وذلك لضيق الوقت الذي كان يحول دائما بيني وبين كتابة نصّي الرّوائيّ الأوّل، لكنّني ما لبثت أن اتّخذت قراري بعد أن سيطرت عليّ الرّغبة في الكتابة، وذلك بعد إصدار كتابي المشترك مع الأديب جميل السّلحوت “رسائل من القدس وإليها”، فقرّرت تدوين أفكاري لأباشر العمل الرّوائيّ الأوّل، واقتحام هذا الفنّ الأدبيّ النثريّ الجميل، فالرّواية منظومة فكريّة إبداعيّة كاملة، تعزّز الجوانب الإنسانيّة والإبداعيّة، وتعبّر عن الواقع وتعكس أحداثه وتقلّباته. من هنا، أحببّت خوض التّجربة واكتشاف هذا العالم الواسع، الذي ما انفكّ يدهشني بجماله، لأقدّم ما لديّ عبر عمل أدبيّ خياليّ، نسيجه وفكرته إنسانيّة، وبالطبع فأنا كناشطة في المجال الثقافيّ والاجتماعيّ، وقد عملت في مؤسّسات اجتماعية وحقوقيّة سابقا، عرفت الكثير عن معاناة النّساء، وكوني امرأة فبالتأكيد أفهم هذه المعاناة جيدا.

بدأت الكتابة فوجدت نفسي في خضّم تلك الأفكار أعيش الحلم الذي طالما أردته وتمنيّته، احتجزتني السّطور بشخوصها وأحداثها وأفكارها، رحت أكتب عن المرأة ولها، وأغوص بعمق في الأماكن المعتمة في حياتها، حيث تتصادم الآمال والأحلام، الحزن والفرح، اللّيل والنّهار، النّور والظّلام، جعلني كلّ ذلك، أجتهد في منح الحياة ونبضها لقلب شخوص هذا العمل “رحلة إلى ذات امرأة”، وذلك بالسّرد والحوار وتنوّع الأحداث والتّفاصيل. وبطريقة السّرد الاستذكاريّ وأسلوب التّتابع حاولت الاجتهاد؛ لألوذ بالنّصّ من التّفكّك والتّشتّت، عدت بذاكرة البطلة “حنان” إلى الماضي وإلى أحداث سابقة مضت، مزجت صّوتها الظّاهر بالمتكلّم الخفيّ “الرّاوي”، ليشكّلا معاً الشّخصيّة الرّئيسة، فتحكي بضمير “الأنا” المتكلّم ما رأت وما خبرت بنفسها من أحداث ومشاهد، فتكشف عن صراعاتها الذاتيّة والخارجيّة.

أخذت حنان تتحدّث عن نفسها كأيّ امرأة، تصف أمومتها ومشاعرها وما يدور حولها، ووقع تلك الأحداث الدائرة عليها وعلى روحها، وكيف ساهم كلّ ذلك في بناء شخصيّتها، تلك الشّخصيّة التي بدأت هشّة ضعيفة، بسبب التّربيّة القمعيّة التّقليديّة التي تربّت ونشأت عليها، ثمّ صقلت بعد ذلك بالتّجربة والعلم والعمل.

أتاح لي ذلك، التوغّل في أعماق شخصيّتها ووصفها بطريقة مونولوجيّة استذكاريّة واعترافيّة، الأمر الذي مكنّني من إيصال مشاعرها وأفكارها دون تكلّف. وجدت نفسي أغوص في حقيقة المرأة، وكيف تربّى الأنثى منذ الصّغر على أدوار نمطيّة محدّدة، تطرّقت إلى قضايا الشّرف والعنف وسمعة العائلة والجرائم التي ترتكب بذريعة الدّفاع عنها، وقدّمت بعض النّماذج النّسائيّة المختلفة، منها الإيجابيّة ومنها السّلبيّة؛ لتكون مرآة تعكس طبائع البشر.

أمّا الرّجل، فجعلته حاضرا بصور مختلفة، منها الرّجل المثقّف المتفهّم، ومنها الأب الحاني المساند والدّاعم لأبنائه وأسرته، وأيضاً الرّجل السّلطويّ المعيق لتقدّم المرأة، حاولت إبراز تلك الشّخوص بمختلف طّباعها وتّصرّفاتها، بكلّ ما فيها من عيوب وبكلّ ما تحمله من عواطف.

وعن اللّغة تلك التي تسكنني وأسكنها كوطن، اتّكأت بنبضها على السّطور لأتنفّس عطر الحرف، نثرتها بطريقتي الخاصّة؛ لتنساب بين السّرد والعناوين والمشاهد، أرفقتها بالأحاسيس والأحلام والرّغبات، والوصف والحوار، ولقطات تلاقت مجتمعة لتبرز واقع المرأة، تلك التي انطلقت في رحلتها الطّويلة للبحث عن ذاتها. وآمل أن أكون قد وفّقت في إيصال الفكرة.

لطالما سكنني هاجس الكتابة، وأشعرني بارتباطي الإنسانيّ مع الحياة، فالكتابة نور يتسلّل إلى شغاف القلب؛ ليبدّد ظلمته، تخلق لي جناحين من شغف، أطير بهما، فأرى نفسي ومواقفي وشخصيّتي بشفافيّة ووضوح، ويا لقوّتها وجمالها فهي الشّاهد الصّامت الحيّ على الحياة، عالم خلق وعطاء، ومتعة تولد في حياة الكاتب وتكبر معه؛ كفعل حريّة وحبّ عظيم، تحلّق به إلى سموات الحلم ليهتدي إلى أمكنة لم تطأها القدم، وهناك.. تأوي الرّوح إلى العزلة وتنبعث في النّفس طاقات عظيمة خلّاقة، يسكنها ضّياء سّماويّ فيشرق النّور بسرّ الحرف وتتشكّل الأفكار مرة أخرى، فيغدو التّأمّل هو الملجأ والصّمت هو اللّغة، وتأخذ الكلمات معناها حين تنساب بعمق، وتبعث من وهج إلى وهج، فتسطع وتحلّق.

شاهد أيضاً

صباح بشير: التّراث الفكريّ في رواية “حيوات سحيقة” للرّوائيّ الأردنيّ يحيى القيّسي

  صباح بشير التّراث الفكريّ في رواية “حيوات سحيقة” للرّوائيّ الأردنيّ يحيى القيّسي تعرض هذه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *