سلمى جبران: رسائل بفعل فاعلة، للكاتبة نعمة حسن

 

سلمى جبران:

رسائل بفعل فاعلة، للكاتبة نعمة حسن

قرأتُ كتاب رسائل بفعل فاعلة مرّتين محاوِلةً أن أتبيّنَ جوهرَ رسائلِ الكاتبة الغَزيّة الأبيّة نعمة حسن، ومحاولةً أن أفهم ما تعيشُهُ امرأة داخل جُدران غزّة.

اللغة مليئة بالإيحاءات والمجاز والصور الإبداعيّة المميّزة: اقتباس ص9: “أنا امرأة لا تُجيد الغَزَل، تحبّ اللعنات، تصنع منها باقةً ملوّنة وتُهديها للنهر… لا تحبّ التلويح وتُعطي ظهرها للراحلين… تصرخُ بصمتٍ عالٍ لا يسمعُهُ إلّا الورق! وفي ص55: “الحِكايات بينَنا كلُّها أنيقة منمّقة يا عزيز: إلّا أنّي امرأةٌ غَجَريّة تؤمِنُ أنَّ الحبَّ جُنون، وأنَّ الحظّ يسكُنُ فقط في قاع الفنجان.”

العنوان يوحي بجدَليّاتٍ يطرحُها الكتاب: فالرسائلُ هي تواصُلٌ ايجابيّ أو موضوعيّ غالبًا بينما ” فعلُ فاعِلة” تعبيرٌ لهُ ظِلٌّ جِنائيّ!  ولوحةُ الغِلاف مُعَبِّرة حدَّ النُّطْق، فهي أيضًا تجمَعُ كثيرًا من المتناقِضات التي تصفُها الرسائل. غطاءُ الرّأس طائر/والعيون مغمَضة/ وتسريحة الشعر تصبو إلى الكَمال ولكنَّ جانِبَها الأيمن ناقص/ والعُنُق غير متناسب مع ما يظهر منَ الجَسَد/ وتحْتَ العُنُق الصَّدْرُ العُلوي مكشوف/ والنهدان مُسطَّحان، وكأنَّ في اللوْحة محاولة لإبداع تناسُقٍ غير متناسِق! ومُحاولة لتقديم الكتاب بدقّة متناهية!

في الكتاب 102 رسالة وجدانيّة و120 صفحة، معظمُها مُتَخيَّلة ويغلب عليها خطاب امرأة جريئة تسأل الرجل أو أيّ رجُل عن كل حالاته وعن تفاصيل حياتِها وحياتِهِ، ولا تنتظرُ جوابًا. ذكَّرَني هذا الكتاب بقصيدة نزار قبّاني: “رسالة إلى رَجُلٍ ما” والتي كتبَها على لسان امرأة تكشف كلّ مناورات الرجل الشرقي في التعامل مع المرأة. هذا الكتاب يعرض أيضًا مُناوراتٍ أقلَّ حِدّةً، ولكنّها مناورات عاطفيّة تتركّز في مدٍّ وجزْرٍ شعوريٍّ محصور في العالَم الذاتي للرجل وللمرأة.

يتجلّى في موقف وأفكار الكاتبة أو الراوية إن صحَّ التعبير، تعميمٌ على كلِّ النساء، فتقول ص7: ” نحنُ النساء نُحبُّ الأوهامَ الرومنسيّة…نعشقُ الكذبات المُقنِعة… وفي رسالة أخرى تقول: ص32 “هذه طبيعة النساء…” وتكرّرَت هذه العِبارة ص95 وفي ص96: “نحنُ النساء بَشِعات وَجْدًا…”.

ص7: “أتباهى بكوْني أنثى من ورَق! “، تقول عن نفسِها أُنثى أمّا عنه فتكتب بتعبير رجل! هل هذا التوجُّه مقصود؟ وماذا يعني؟ وتستمر بالمفارقة والمقارنة بينها وبينهُ ص16: “دعني أستعيد عافِيَتي، وأخرُجُ منكَ، ربّما أعودُ إليكَ امرأةً كامِلَةَ الأُنوثة.”

في بعض الخواطر/الرسائل توجد جُرأة خارجة عن المألوف ومُبهرة: ص11: “إنصاتُها لأنّاتِكَ لا يتوقَّف”. ص17: “تنهَّدْ يا عزيز: فالنّارُ تنفُثُ دُخانَها، وأنا أمُدُّ كُلّي إليْكَ، لكي أستجيرَ، مُدَّ كلَّكَ لي، ولنحترق.” هل هذا الاحتراق جماع على الورق؟ وفي ص27 تقول: ” أريدُ أن آوي لصدرِكَ كما الطيور تأوي لأعشاشِها، وأقولُ لهذا العالَم: إلى الجحيم، ولكنَّكَ شجرة مقطوعةُ الظل، والعالم في جحيم منذُ البِداية.” تواصلُ الكاتبة هنا التقدُّم إليْهِ والتراجُع عنهُ بمناورات تعبيريّة فائقةِ الحِدَّة وبِلُغة مجازيّة.

مساحة كبيرة من الرسائل تُعبِّرُ فيها عن عواطفِها الرقيقة تجاههُ وبنفس القدر تعبِّرُ عن تحكُّم مُطلَق بِمُساءَلَتِها الطويلة للرجل، ولا تنتظِرُ منهُ جوابًا! ص12.  وتقول ص75: “أعلَمُ أنَّكَ لا تملِكُ الإجابات”. وهذا المدّ والجزر بدأ بتغيُّرِ النّداءات: عزيزي، يا عزيز، أيُّها الوسيم … هل لتعدُّد هذه النداءات أبعاد ودلالات على المسافة بينها وبينَهُ؟ وفي ص20 تخاطب عزيزًا في آخر الرسالة، وليس في أوّلها كعادتِها: “ثمَّ نُزهر، نزهرُ يا عزيز.. نُصبِحُ توتًا برّيًّا، أو ربّما يقطين، نستُرُ سوءةَ الضوء وننتَظِرُ عوْدَةَ الأنبياء.” وهنا كما في معظم الرسائل خيالٌ لا محدود يضفي على النصّ جمالًا وأبعادًا أسطوريّة تخدُمُ فكرةَ الرسائل!

في أكثَرَ من مكان في الرسائل تحوِّلُهُ إلى مفعول به فتتناوَبُ تعابير: أُحبُّكَ، أكرهُكَ، أكتُبُكَ وتخاطِبُهُ: أيها الوسيم/عزيز/عزيزي سيُغريني جنوني بأن أطهو صدرَكَ ص38، ويستمرُّ الوصف بكناية مطوَّلة تنتهي: “المائدة جاهزة بكَ…ولكنّي ممتلئة حدَّ الغَثَيان…فأنا لا آكُلُ من بقايا النساء…ولو كانَ من صُنْعِ يديَّ…” التشَدُّد والتراخي بوصف الحالة بينهُما يشير مرّة أخرى إلى لامعقوليّة التناقض بينهما والذي نتجَ عن تعاضُدٍ بين التنافُر والتجاذُب.

الكاتبة نِعمة حَسَن تدمج في رسائلِها بيْنَ الحقيقي المحسوس والخيالي المجنِّح، بينَ الحب والكُرْه، بين الحياة والموت وبين الأُسطوريّ والواقِعيّ، ومثال على ذلك ص42: “أنا امرأة عارية منَ الحياة تقف على أطرافِ أصابِعِها، وحينَ تُدوّي رصاصةٌ تأخُذُكَ بينَ ذِراعيْها وتبتسِم…”

الرسالة ص44، حسَب قراءتي، تُجمِلُ روحَ الرسائل وتفسِّرُ كلَّ الكتاب، وتبدأ “أنا شخصيّة مُنافية للفكرة…” لذلك، كاتبة الرسائل هي المعلمة والعاشقة والحُلُم والوهْم والسراب، وهي الباكية والشاكية والصامتة والكاتبة، ص56: ” كن غيمةً لي، ودَعْني أكونُ لك كلَّ المواسم.”

مُعظم الرسائل تحكي عن أسطورة من ورق وأسطورة وجدانيّة! الرسالة في ص69: “يا عزيز، غنِّ لي، أو اكتُب سطرًا… ابتسِم، قُل: أُحبُّكِ… ربّما تنتهي الحرب.” ص110 تقول: “الصَّرَخاتُ في قلبي ترومُ وطنًا، افتحْ حُدودَ ذراعيْكَ، لأُعلِنَ اللجوء.”

مثيرة للاهتمام رسالة تَصِف أسطورة الرجل الشرقي الذي صنَعَ منها آلاف النساء يجلِسْنَ حوْلَهُ.. وأنهت الرسالة: ” أيُّها الرّجُلُ الأزرق القابعُ خلْفَ الضوء تُبًّا لك لا تتأوَّهْ بصوتٍ مرتفع، قد يَسْمَعُكَ المارّة، تحَسَّسْ وَجَعَكَ الأزرق، تلك كانت نهايةَ الفكرة.”

في الرسالة رقم 74، خاطَبَتْهُ: “ذَهَبْتَ يومًا، عانَقْتَ سلاحَكَ.. البندقيّة لم تكن تشعُرُ بالبرْد، أعلَمُ هذا… ولكنَّكَ احتضَنْتَها يوْمًا، وتَرَكْتَني أرتجِف…” ص100، في رسالة بعْدَها تقول: “أخافُ عليكَ مِنّي، ومِنْكَ على قلبٍ يشهَدُ أنَّ الحُبّ حياةٌ أو موت.”

وأخيرًا، قرأتُ الرسائل بتعمُّق فوَجَدْتُها شواهدَ أساطير تحكي عن حالات كثيرة، ذاتيّة وِجدانيّة عميقة، تعيشُها المرأة بشكل عام، والمرأة الفلسطينيّة خاصّةً.

مبارك هذا الإصدار الغنيّ!

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *