رباب سرحان: “أنف ليلى مراد” وإشكاليّة التّوثيق
د. رباب سِرحان:
“أنف ليلى مراد” هو عنوان المجموعة القصصيّة الجديدة للكاتب زياد خدّاش. تُقسم المجموعة إلى فصلين، يحوي الأوّل قصصًا عن فترات مهمّة ومفصليّة في الحياة الفلسطينيّة سياسيًا وثقافيًا وحضاريًا، مستوحاة من مقالات وقصص نُشرت في سنوات الثلاثينات والأربعينات والخمسينات في جريدة فلسطين اليافاويّة التي تأسّست عام 1911. أمّا الثاني، فيحوي قصصًا عن أشخاص فلسطينيّين فُقدوا، وأغراض وأشياء فُقدت فترة الأربعينات، اعتمادًا على إعلانات الفقد المنشورة في جريدة فلسطين.
ما يُميّز هذه المجموعة هو الدمج بين السرديّ والتشكيليّ، أو المزج بين السّرد اللغويّ والمشهد البصريّ، هذا الدمج الذي من شأنه أن يجعل الكتاب أكثر تشويقًا، إذ كلّ قصّة تقابلها لوحة تشكيليّة من إبداع الفنانة رانية عامودي. واللوحات، في معظمها، مؤثّرة، نابضة، تستنطق المكان المسلوب وتخاطب تفاصيل الحياة فيه، فتجعل نفس الناظر إليها تفيض حنينًا وشوقًا وحزنًا وفرحًا. فكلّ لوحة هي قصّة، وحكاية، وذكريات، وتاريخ شعب فُجع بفقدان الوطن وضياعه.
من المعروف أنّه كلّما ازداد الوعي بالحاضر، يزداد الاهتمام بالتاريخ- تاريخ الحاضر. وكوننا نتحدّث في السّياق الفلسطينيّ، ونظرًا لعلاقة الحاضر بالماضي والتاريخ ما قبل النكبة وما بعدها، فإنّ مجموعة زياد خدّاش القصصيّة هذه تتجاوز كونها صيغة جماليّة للتّعبير، وإنّما هي تحمل أيضا أهميّة كبرى في توثيق الذاكرة الماضية، وتشكيل ذاكرة المستقبل عبر فهم الحاضر والعمل على تحسينه وتغييره. تكشفنا قصص الكتاب على الحياة الفلسطينيّة وحالة الشعب الفلسطينيّ قبل النكبة عَبْرَ أخْذنا إلى زمن الأجداد وحكاياتهم، إلى قصص المناضلين والمناضلات وليالي فلسطين الزاخرة والنابضة بالفنّ والثقافة، إلى ذاكرتنا المفقودة. الأمر الذي يؤكّد على أهميّة دور الأدب في المجال الفلسطينيّ السياسيّ تحديدًا. فهو كتاب يوثّق قصّة الوجود والبقاء، ويدفع كلّ من يقرأه إلى السخرية من الرواية اليهوديّة، وإلى التأكيد على أصلانيّة الشعب الفلسطينيّ وحقّه التاريخيّ في هذه البلاد.
في المضمون:
قصص المجموعة تختلط فيها مشاعر الحزن والفرح والوجع والضحك والبكاء والألم والفخر والمرارة. ولعلّ القصّة الأكثر مبعثًا للحزن والوجع هي قصّة “ظلّ عجيب لياسمينة في حيفا”. هذه القصّة المسكونة بوجع الاقتلاع والنفي القسريّ، من خلال تصويرها لعمليّة سلخ وقلع وتهجير الفلسطينيّين من بيوتهم، ممثّلة في عائلة الشاعر والأديب والمترجم وديع البستاني الذي اضطُرّ وعائلته وقت النكبة إلى ترك بيتهم في حيفا والسفر إلى لبنان بقلب مترع بالوجع والمرارة كما يتجلّى في قوله: “كيف أغادر حيفا التي عشت فيها أكثر من ثلاثين عامًا، بنيتُ فيها هذا البيت الكبير؟ ترجمتُ فيها كتبي عن طاغور وعمر الخيام، وألّفتُ فيها ديواني (الفلسطينيّات). كيف أترك رائحة ياسمينة ابنتي ليلى التي زرعتها أسفل البيت؟” آه يا حيفا سامحيني”.
في قصص عديدة في المجموعة، يصف الكاتب مشاهد المقاومة والاشتباكات والمواجهات التي دارت بين الفلسطينيّين والبريطانيّين واليهود. ففي قصّة “مقاتل برتقاليّ جريح” مثلًا يقول: “قرب نهر العوجا اشتبكتُ، وأصدقائي مع دوريّة إنجليزيّة، أمطرناها بالرصاص، سقط بعض جنودها. حين فرغت بنادقنا من الرصاص، رجعنا إلى بيارة قريبة، اختبأنا عدّة ساعات. وصلت تعزيزات من الجيش البريطاني، حاصروا البيارة، وأطلقوا النار علينا، استشهد رفاقي، وبقيت أنا جريحًا أزحف على قدم واحدة”. وفي موضع آخر من القصّة يقول: “تزايد إطلاق النار في منطقة (تل أبيب) إلى المناطق العربية في يافا، اشتباكات هائلة حدثت في حيّ (المنشية) في يافا، الصهاينة أحرقوا البيوت العربية في سوق الكرمل، وهجوم كبير وقع في منطقة (أبو كبير) حيث قامت سيارة مسرعة على شارع يافا القدس بإطلاق النار، وضرب القنابل على العرب، فأصيب خمسة عشر شخصًا”.
كذلك، أبرزت بعض القصص دور المرأة الفلسطينيّة في المقاومة والنضال، ودخولها معترك الحياة السياسيّة والمساهمة في مقاومة الاستعمار البريطانيّ والصهيونيّ، وذلك عبر توثيق أسماء نساء فلسطينيّات عشن قبل النكبة وكان لهنّ دور في النضال والكتابة ورواية القصّة الوطنيّة. فتتحدّث قصّة “صفحة في كتاب رياضيات” عن مهيبة خورشيد معلّمة الرياضيّات والمناضلة الفلسطينيّة وقائدة التنظيم العسكريّ النسائيّ (زهرة الأقحوان) الذي أسّسته مع أختها ناريمان في مدينة يافا عام 1947، وهو أوّل منظّمة نسائيّة مُسلّحة تقاوم الاحتلال في عام النكبة. وقد أبرزت القصّة دورها الهامّ، كمعلّمة، في خلق وتنشئة جيل واع ثوريّ ومناضل.
وتُوثّق قصّة “حكايات النساء الخطرات” العمل النضاليّ للكاتبة الفلسطينيّة والصحافيّة والناشطة السياسيّة والنسائيّة ساذج نصّار. وهي أوّل امرأة فلسطينيّة تخضع للاعتقال في عهد الانتداب البريطانيّ، في أواخر عام 1938، بتهمة إمداد الثوّار الفلسطينيّين بالأسلحة، بعد أن وصفتها السّلطات البريطانيّة بأنّها “امرأة خطرة جدًّا” و “مُحرّضة بارزة”.
كذلك، نجد نموذج المرأة الفلسطينيّة المُساندة والداعمة للرجل في قصّة “حائك من حيفا”، من خلال شخصيّة الفتاة التي وقفت إلى جانب خطيبها المقاتل ابن جيش الإنقاذ الذي جُرح في آخر معارك وادي الصليب ضدّ البريطانيّين. وكيف كان موقفها هذا مع خطيبها نقطة تحوّل لدى الراوي الذي يعمل خيّاطًا وصحافيًّا في جريدة فلسطين بأن جعله يخرج إلى الميدان، إلى المعركة الفعليّة الجسديّة، لتنتهي القصة وهو جريح مُمدّد قرب بندقيّة في غرفة داخل حيّ شعبيّ، يحاول مع الآلاف من الجرحى إعادة حياكة وطن.
في الشّكل:
يظهر واضحًا في هذه المجموعة أنّ الكاتب زياد خدّاش يؤمن بضرورة العلاقة الحواريّة بين النصّ الأدبيّ والقارئ. وعليه، نجده يوظّف في قصصه تقنيّات وأساليب ووسائل من شأنها أن تجعل نصّه مغايرًا وشائقًا وأكثر إثارة، وبالتالي، مُحفّزًا على التواصل الانفعاليّ والذهنيّ بينه (أي النصّ) وبين القارئ. وأولى هذه الوسائل الإغراب أو الغرائبيّة. والغرائبيّة، كما يقول شاكر عبد الحميد في كتابه (الغرابة- المفهوم وتجلياته في الأدب)، ضدّ الألفة أو حالة بين الخوف والرهبة والتشويق والمتعة والتذكّر والتخيّل. وفي مجموعة زياد خدّاش يصطدم القارئ بهذه الغرائبيّة منذ الصفحة الأولى تحت عنوان “تنويه” حيث يقول الكاتب: “نشر الكاتب هذه القصص في حياته السابقة بجريدة فلسطين اليافوية سنوات العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وأعاد نشرها في حياته الحالية بجريدة الأيام الفلسطينية برام الله عام 2022”. وزياد خدّاش يوظّف هذا الأسلوب في عدد من قصص المجموعة حين يصوغ الواقع في إطار غير مألوف متمثّلًا في غرائبيّة السرد والوصف كما يتجلّى في قصّة “طفلة في علبة شوكولاتة” مثلًا، حيث تتحوّل فيها حبّة شوكولاتة إلى فتاة صغيرة: “فتحت سلمى العلبة بحماسة، التقطت حبة، نزعت غلافها، فإذا بفتاة صغيرة جدا على شكل حبة شوكولاتة تصرخ: لا تأكليني يا سلمى، أنا مجرد بنت صغيرة خرجت من البيت لتشتري شايًا لأمّها”. ثمّ يرسم الكاتب مشهد استشهادها بغرائبيّة واضحة: “كانت الدنيا تمطر، وغيوم كثيرة في السماء، مشيت تحت المطر الذي توقّف بعد دقائق قليلة، أطلّت شمس قويّة، كان المشهد ساحرًا. أحببتُ الشعور بأنّ شعري مبلول والدنيا مشمسة. لكنّ الغريب أنّ غيمة غريبة سميكة، أطلّت من السماء تتمشّى بخيلاء دون أن تصطدم بالشمس ]…[ كانت لحظة عجيبة، لم أفهمها. شيء ما رفعني وأوصلني إلى الغيمة ووضعني فوقها. الغريب أنّني لم أخف، لكنّي سمعت أصواتًا من الأرض تصرخ وتستغيث لنجدتي وإعادتي إلى الأرض”. قصص أخرى في المجموعة ترتبط حكايتها بما هو غرائبيّ، خياليّ وخرافيّ نذكر منها: “اشتقت إلى أميري”، “فريد الأطرش يهذي في حيفا”، “حديث متقطّع لآلة كاتبة”.
أسلوب آخر بارز جدًّا في المجموعة، وقد استخدمه الكاتب استخدامًا بارعًا، هو أسلوب الالتفات. ويعني نقل الكلام من أسلوب إلى آخر، إذ وظّف زياد خدّاش ضميريّ المتكلّم والغائب، وتنقّل بينهما بسلاسة ويُسر بشكل يبعث الدهشة لدى القارئ ويشدّ انتباهه إلى عمليّة السرد نفسها وليس فقط إلى موضوع السرد. هذا الأسلوب يلتقي مع أسلوب آخر أو تقنيّة أخرى هي تعدّد الأصوات (polyphony) حين يقوم الكاتب بتفتيت زاوية السرد وتوزيعها على شخصيّات مختلفة، لدرجة أنّنا نكتشف في بعض القصص أنّ كلّ فقرة يقولها شخص مختلف عمّن نظنّه، ممّا يضطرّنا إلى أن نُعيد قراءة النصّ من جديد. وعلى الرغم من أنّ هذه التقنيّة تجعل القارئ يقظًا وتُجدّد نشاطه القرائيّ ومن شأنها أن تُضيف للنصّ، إلّا أنّها موجودة بكثرة زائدة في بعض القصص لدرجة تستفزّ القارئ وتُغضبه، وبالتالي تضرّ بالنصّ بدل أن تُضيف إليه.
تقنيّة تعدّد الأصوات نجدها أيضًا في القصص: “حين اقتحمتُ غرفة تحية كاريوكا”، “فريد الأطرش يهذي في حيفا”، “لسعة نحلة”، “سيّدة الأحد”، “حكايات النساء الخطرات”.
نلاحظ كذلك أنّ قصص المجموعة، بصفة عامّة، تقدم إجابات على تساؤلات القارئ في سياق القصّة نفسها، بحيث لا تبقيه مع تساؤلاته إلى ما بعد الانتهاء من قراءة النص. في المقابل، نجده في قصّة “مقاتل برتقاليّ جريح” مثلًا يُثير تساؤلات القارئ حول سبب صمت الممرضة فدوى وحزنها الغامض، ليأتيه بالإجابة في نهاية القصّة. والكاتب، كما سيلاحظ القارئ، يهتمّ بالنّهايات، ويدرك أنّ للنهاية وقعها الخاصّ على القارئ، لأنّها آخر ما يعلق في ذهنه وما يتبقّى في ذاكرته، ولها وهجها ودورها الهامّ في تشكيل انطباعه حول النصّ وميوله تجاهه ومدى تأثيره عليه. وللحقيقة، لم نجد في قصص المجموعة نهاية أحبطت النصّ أو أطفأت وهجه.
اللّغة:
إنّ توظيف زياد خدّاش لهذه الأساليب والتقنيّات في مجموعته، بدون شكّ يُثري القصص ويُبقي القارئ يقظًا مدفوعًا إلى متابعة القراءة. إلّا أنّ هذه الأساليب والتقنيّات لن تفعل مفعولها ولن تؤدّي وظيفتها إذا لم تكن مصوغة بقالب لغويّ جيّد ومتين. ولغة زياد خدّاش في المجموعة بسيطة، عاديّة وبعيدة كلّ البعد عن التكلّف والزخرفة والتعقيد. فهو قادر على خلق نصّ جميل يمتاز بالتدفّق والحيويّة بهذه اللغة التي يركّز فيها على الجملة وليس على اللفظة المفردة. هذه اللغة البسيطة الجميلة تتجلّى مثلًا في وصفه لحيفا في قصّة “حائك من حيفا”: “الحياة في حيفا ليست فقط جميلة، إنّها مُلهمة، […] ساحرة ومقاتلة هذه المدينة، لأوّل مرة أرى مدينة تقاتل الأعداء وتصدّهم بينما هي تستقبل الشعراء وتقيم العروض المسرحية، وتعرض الأفلام، وتؤسس الفرق الكشفية والرياضية. سأسمّيها مدينة الغناء والرصاص هذه المدينة”.
خطورة التّجربة:
زياد خداش، في خوضه مثل هذه التجربة القصصيّة يعرف أنّه يُغامر، لماذا؟ لأنّه يكتب عن زمن لم يعشه وعن أحداث وتفاصيل لم يُعايشها. وهو مدرك تمامًا لخطورة هذه المغامرة وما تُحمّله من مسؤوليّة كبيرة، ونراه يعترف بتخوّفه وقلقه إزاء هذه التجربة في مقدّمة المجموعة بقوله: “كنت خائفا بعض الشيء من هذه التجربة الغريبة، وشاعرًا بمسؤولية معيّنة عن كلّ كلمة كتبتها في ذلك الزمان المتدفّق بالأحداث والمتغيّرات والمصائر الشخصيّة والجماعيّة”.
يستحضر الكاتب في مجموعته الأمكنة والأزمنة والأحداث والشخصيّات بأسمائها ومسمّياتها الحقيقيّة، وكلّ ذلك لأجل الغاية الأهمّ وهي التوثيق وحفظ الذاكرة. ومن خلال توظيفه للوسائل والتقنيّات الفنيّة المختلفة التي ذكرناها سابقًا، فإنّ عمليّة التوثيق هذه، لم تتمّ بشكل جافّ ومباشر، وإنّما بقالب أدبيّ تخييليّ، وبأسلوب كتابيّ مميّز يُدخل القارئ، في غالبيّة القصص، إلى جوّ غرائبيّ، عجائبيّ خياليّ. وليس القارئ فقط، وإنّما الكاتب نفسه، نراه متورّطًا في هذا الجوّ، بل وغارقًا فيه. والسؤال الذي نطرحه هنا: إلى أيّ مدى يُسمح للكاتب أن يستخدم الخيال والغرابة والفانتازيا والحلم في عمل أدبيّ توثيقيّ؟ وأليس من شأن هذه الأساليب أن تُضعف، أو أن تلغي حتى، صفة التوثيقيّة عن العمل الأدبيّ؟ كيف يوثّق الكاتب تاريخًا بآليّات الخيال والغرائبيّة؟ فالتّوثيق يعني واقع وحقيقة وحقائق، والخيال عكس الواقع!
وهنا أقول وللمصداقيّة أمام الكاتب وأمام الحضور، إنّ ما دفعني وشدّني لتناول الكتاب هو شخصيّة كاتِبِه المثيرة للتقدير والدهشة أكثر من المجموعة نفسها! فحين نسمع كاتبًا فلسطينيًّا يقول بجرأة: “نحن ضعفاء وعشائريين وقتلة وقساة وسيّئين ومتخلّفين ممكن أيضا بعيدًا عن الاحتلال. وحتى لو زال الاحتلال، سيبقى الذهن الفلسطينيّ والعربيّ على نفس المستوى من التخلّف لأنّ المعركة طويلة مع العقل العربيّ”. هذا كاتب صاحب فكر حرّ. وحين نرى بأنّ هناك من مُحِبِّيه مَن يَصِفُهُ بالمجنون، إن كان بسبب تمرّده كمُدرّس على المنهاج وعلى طرق التدريس التقليديّة وانتهاجه أسلوبًا تدريسيًّا مختلفًا ومغايرًا، أو بصفته كاتبًا يؤمن أنّ الكتابة فعل حرّ مجنون. وهنا، إذا ربطنا بين “جنون الكاتب في الحياة” إذا صحّ التعبير، وهو جنون مرتبط بشخصيّة زياد خدّاش العفويّة والصادقة والباحثة دائمًا عن الحريّة، وبين كتابه هذا، يعود السؤال ليخرج مرّة أخرى: إلى أيّ مدى يلتقي فِعْل الجنون بفِعْل التوثيق؟ والحريّة بالتوثيق؟ وهل يلتقيان أصلًا؟ هذا هو السؤال الكبير الذي رافقني خلال قراءة المجموعة. بالإضافة إلى بعض الملاحظات التي أجد ذكرها ضروريًّا مثل الشعور بأنّ بعض القصص كُتبت بسرعة وبأنّها تحتاج إلى التعمّق وإلى البحث أكثر من قِبل الكاتب. كذلك نجد الكاتب في بعض القصص، لا نعرف قصدًا أو بدون وعي، يُسقط زمنه-واقعه على زمن القصّة في مواضع عديدة، الأمر الذي يُضعف مصداقيّة القصّة. في عدد من القصص أيضًا، نشهد غزارة في الأحداث وعدم ترابط بينها أحيانًا ممّا يُسبّب بلبلة للقارئ وتشتّتًا في أفكاره وحتى شعوره بالضياع، وبالتالي صعوبة قَبْضِهِ على الحبكة، لأنّ هذه الغزارة في الأحداث وبهذا الشكل، من شأنها أن تُضعف الحبكة بل وأن تُضيّعها أيضا، فتضيع القصّة من حيث كونها عملًا أدبيًّا توثيقيًّا. بمعنى، تفقد الجانبَيْن: الأدبيّ والتوثيقيّ.
وفي الختام نسأل: أين أو كيف نموضع قصص المجموعة؟ هل نعتبرها قصصًا خياليّة؟ كلا. هل نعتبرها واقعيّة؟ أيضًا لا. هناك خلط في الوقائع والأحداث في كلّ قصّة ما بين المأخوذ عن الجريدة، يعني الحقيقيّ والواقعيّ، وما بين المُتخيّل أو المُستوحى منها. وهذا حقيقة يُسبّب التباسًا لدى القارئ فلا يعود يعرف التمييز بين الأحداث والوقائع الحقيقيّة وبين تلك الخياليّة.
أمّا ما لا شكّ فيه ولا التباس، أنّ هذه المجموعة القصصيّة منحت الكاتب زياد خدّاش فرصة خوض تجربة ممتعة ومثيرة في أن يعود إلى ذلك الزمن الفلسطينيّ المفقود، وأن يُساهم، فيما ساهم، في أرشفة الذاكرة الفلسطينيّة بفرحها وبِهَوْل فجيعتها.
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.