نايف خوري
صياد.. سمكة وصنارة
متحف محمود درويش – رام الله
28.4.2025
“صياد، سمكة وصنارة” لفؤاد مفيد نقارة. إنه باكورة أعمال المحامي ورئيس نادي حيفا الثقافي فؤاد نقارة الأدبية، هذا الكتاب الذي جعل الكاتب يتردد كثيرا، هل يطبعه أم لا. وتردد كثيرا ماذا سيكتب فيه؟ هل سيكون كتابا تتداوله الأيدي وتتناقله الألسن؟ أم كتابا سيُصمد على الرفوف ويعلوه الغبار؟ أسوة بسائر الكتب التي لا تمتد الأيدي إليها ألا نادرًا، أو تبقى في مكانها دون حراك، لتقرأها الأيام وتطالعها الساعات، وينصرف عنها الأبناء، ويعزف عنها محبو الشعر والقصص والروايات. أم سيكون كتابا ينافس الحاسوب ويتحدى الموسوعات، ويفاجئ الذكاء الاصطناعي؟ كلها تساؤلات وردت في الذهن، وحيّرت الآراء حتى جاءت الأستاذة سوزي، زوجة الكاتب رفيقة دربه، والأستاذة صباح بشير، وسواهما من الأصدقاء والمعارف، وضخوا في نفس فؤاد وروحه ضرورة حب المغامرة، والاتكال على المحتويات وجودتها، وتميّزها، وجمالها، كي يوافق على وضع مؤلَّفه هذا تحت دواليب المطبعة، وإخراجه من دار الشامل، وأيدي سائر العاملين في المطبعة، وأسند إليهم عملية الطباعة..
ها هو الكتاب بين أيديكم، لوحة فسيفساء متناغمة، تحتوي في قطعها المزخرفة والجميلة، المعلومات، والصور، والحكايات. فأما المعلومات، فإنها تثري القارئ وتغنيه، وتوسع آفاقه ومداركه بالتعرف على أنواع السمك والحيوانات البحرية العائمة والهائمة في البحر الأبيض المتوسط. لم يذهب فؤاد بعيدا في اختيار أسماكه التي تحدث عنها في الكتاب، لا إلى المحيطات ولا إلى القفار البحرية البعيدة، بل أخذنا في رحلة ممتعة في البحر الأبيض المتوسط، والشواطئ القريبة من بلادنا، وأثرى معلوماتنا بتلك الأحياء التي تعيش في هذا البحر الغني الواسع. وأخذنا معه في رحلات بحرية، نقاوم فيها الأمواج، ونجدف بالمجاديف، ونعتلي اللجج، ونخوض أعماق البحر لنكتشف مع دليلنا فؤاد، أي الأسماك تعيش قريبة من السطح، وأيها يعيش في الأعماق، وأيها في المياه العذبة، وأيها يتوجب الحذر من وخز زعانفه، والابتعاد عن وضعه على الموائد، وأيها يفضل تناوله مقليا أو مشويا.. فتعرفنا على أبو نفخة، وهي سمكة قاتلة، أبو نوح، أو طبيبة البحر، الأجاج أو الدنيس من مزارع السمك إلى موائدنا، الإربة وحش البحر، الأرفيدا راقصة البحر، البلاميدا جوهرة البحار، البوري المتعدد المذاقات، الحنكليز ذات الأسنان الحادة. الجربيدن الجميلة، السردين، السرغوس، السلفوح، عقرب البحر، القرش ملك البحار، الفريدن اللذيذة. طبعا لا مجال لتعداد كل أصناف السمك في الكتاب، فهو بين أيديكم لتتعرفوا على كنوز البحر الأحياء.
وأما اللوحات والصور الملونة، والواضحة، التي تدخلنا عالم المتاحف الفنية، إن كانت المتاحف البحرية أو السمكية، أو الفنية، لأن الكتاب خرج تحفة فنية، بألوان الأسماك الطبيعية والزاهية، ومناظرها المألوفة أو الغريبة والعجيبة.. أو التي سمعنا عنها في الحكايات والأساطير البحرية. إننا ندخل في صياد، سمكة وصنارة مُتحفا يمدنا بجمال الطبيعة وهيبة البحر، ويطرح أمامنا بهجة الموج وفرح المياه، مدى البحر واتساع المحيط، وغموض المكنونات وغرائبها وعجائبها.
ولذا فالكاتب يأتينا بالحكايات في مستهل الكتاب، إنها ليست حكايات من الأساطير، بل هي وقائع حدثت، وتحدث مع الصيادين، ووقع منها ما وقع فعلا مع الكاتب نفسه، ابتداء من الحكايات التي سمعها من والده، الذي علّمه الصيد والتعامل مع البحر، لظروف حياتهما في عكا بلد البحّارة والبحر. ومن الحكايات رحلة صيد عكاوية مع الأصدقاء، وصراع على سمكة، هذا الصراع الذي أصبح درسًا في الأخوّة. وذاك الصياد الذي يبالغ في حكايات الصيد، فيجعل نفسه في موقف محرج نظرًا للمبالغة في مغامراته مع البحر وكمية الأسماك التي اصطادها. فقصص الصيادين كقصص الحيات.. وحدث لي ذات مرة، وأنا ولد صغير، جاء لزيارتنا أحد الشيوخ المسنين، فتوجه إلي طالبا أن أحضر له روح السمك.. فنظرت إليه مستغربا.. روح السمك؟؟ فأكد لي طلبه قائلا: نعم روح السمك.. يوجد عندكم منه. نظرت إلى أبي مندهشا.. روح السمك عندنا في البيت، ويريده ذاك الرجل، أين هو؟ أين موضعه؟ أين خبأته أمي؟ فضحك أبي وقال: أحضر له الماء ليشرب.. لأن الماء هو روح السمك.. فإذا أخرجته من الماء مات.
ولا يفوت القارئ ما أورده الكاتب فؤاد نقارة من الأمثال والأقوال، كالقول إن صيد البحر سر لا يفقهه إلا أهله، أولئك الذين يجيدون قراءة الأمواج، وفهم رموز التيارات، كما يجدِون في مصارعة الأمواج وصيد الأسماك متعة لا تضاهى، وسعادة لا توصف. وكقوله: إن أسرار البحر لا تنتهي، ودائما ما نكتشف مخلوقات جديدة، وسلوكيات مذهلة، تثري معرفتنا بعالمنا الطبيعي المدهش، فكل سمكة هي كنز ثمين، يجب علينا حمايتها والحفاظ عليها. والقول إن الصيادين وأبناء البحر يدركون عِظَمَ مخاطر البحر، ورهبة عواصفه، لكنهم لم يستسلموا يوما لهذه المخاوف، بل ظلوا يمخرون عبابه، بحثا عن الرزق والمغامرة.
ويشير الكاتب إلى ظاهرة مقلقة في شواطئ بلادنا، وهي غياب كميات من الأسماك من شواطئ حيفا وعكا. ويرجح أن يعود ذلك على التلوث البيئي، والصيد الجائر الذي يؤدي إلى استنزاف المخزون والثروة السمكية. إلى جانب التغير المناخي على درجات حرارة الماء، وكذلك قضية تدمير موائل الأسماك، التي يقوم بها الإنسان بأعمال البناء واقتلاع الشعاب، فتذهب باحثة عن بيئة جديدة.
لم يكتف الكاتب فؤاد نقارة بالأسماك، بل وضع أمامنا كمية من الطوابع البريدية التي تظهر فيها الأسماك، أو ذات العلاقة بالأسماك، فهو جامع طوابع منذ عشرات السنين، وبحوزته عشرات الألبومات من الطوابع الفريدة والمتنوعة. ورأى بمشورة الكاتبة صباح بشير أن يضع في ختام الكتاب صياد، سمكة وصنارة، هذه المجموعة من الطوابع، حيث يحمل كل طابع صورة سمكة، وهو بمثابة نافذة سحرية، تطل على عالم البحار الخفي، لتكشف أسراره وجماله، وتروي حكاياته المنسية في أعماق الزمن، لعل هذا هو السبب الذي دفع عديدا من الدول التي تزخر بالثروة السمكية، إلى تصميم طوابع بريدية، تحمل صورا لأسماك تعيش في مياهها، لتبرز هذا التنوع البيولوجي الفريد. إن شغف الكاتب بالطوابع بدأ منذ صغر سنه، ووجد نفسه يشارك في مزادات محلية وعالمية في مجال الطوابع. حتى حصل على كميات هائلة منها لكافة الدول العربية المحاذية للبحار، والتي أصدرت الطوابع التي تحمل صور الأسماك، مثل مصر، لبنان، رأس الخيمة، ليبيا، سلطنة عُمان، قطر، سوريا، دبي، جيبوتي، أم القوين، اليمن، الأردن الكويت، الفجيرة، الشارقة والإمارات العربية المتحدة.
وخلاصة القول، إن هذا الكتاب يحمل بين دفتيه كنزا معرفيا، للثروة السمكية، ولمضمارٍ حياتيٍّ يعيش منه الآلاف، بل ملايين الصيادين، أولئك الذين يعتبرونه مصدر رزق أو الهواة الذين يجدون ضالتهم ورغباتهم مع الصنارة والشبكة، كما هو الحال مع مؤلفنا الكاتب والمحامي فؤاد نقارة.. إنه يخرج يوميا في ساعات الفجر إلى البحر، حاملا عدته وعتاده، وتصحو الطبيعة مع الشمس وهو يناجي البحر، ويسأل السمك بالخروج ليرعى بجواره فيصطاده. وكثيرا ما يوفق في ذلك، أو يحالفه الحظ لتمتلئ جعبته من كنوز البحر ومخبّآته.