نايف خوري: كتاب جروح الزّجاج نادي حيفا الثقافي –  23.10.2025

نايف خوري: كتاب جروح الزّجاج

نادي حيفا الثقافي –  23.10.2025

جروح الزجاج، باكورة أعمال الكاتب أندراوس أسعد حدّاد.. إنها مجموعة من الأفكار والتّأملات، القصص والحكايات، الفلسفة والرّوحانيات، الشّعر والمقولات.. يضعها الكاتب في قوالب متنوّعة ممّا جادت به قريحته..

ما إن اطّلعت على هذه المجموعة حتى استبشرت خيرًا، وتوسّمت بالكاتب صراحة أقواله وعمق أفكاره، وجعلني أبتسم، إذ رأيت أنّ الكاتب متمرّس، بليغ، فريد القول والقلم.

شدّتني هذه المجموعة الأدبية، بأنّها مباشرة، تخاطب الفكر والقلب، وتدعو لفتح آفاق فكريّة مثيرة للتّساؤل والجدل، وكيف أننا نطرح الأمور المتعارفة، والمسلّم بها على أنها بديهيات، ثم نناقش أصولها وجذورها، ونبني الحكايات وشبه الأساطير حول تفسيرها.. لماذا نفرح باكتشافنا أمور الحياة التي نمارسها دون سبر أغوارها؟ كيف نُمضي حياتنا على هامش الزّمن، وفجأة ننتظر من يعيننا على موقف واجَهَنا، أو عائق أو مانع وحتى حاجز؟ إن الكاتب يخاطب القراء من خلال مواضيعه التي يعالجها، فهو يرسل الرسائل الهادفة إلى كافة الجهات..

ففي رسالته إلى أمي يقول: كلّ الأبناء لهم أمّهات، لكنّكِ وحدكِ أمّي.

ويقول لحبيبته، حبيبتي… يا من عشقَتها روحي، ولازمها ظلّي، يا حبيبتي في كلّ الأشياء، وكلُّ الأشياء من أجلها.

وفي رسالة ثالثة يخاطب إخوته، وفي الرابعة يتحدث إلى أصدقائه وفي الخامسة يلفت إلى كل من أعينُهم في رؤوسهم.

ويطرح الكاتب بعض القضايا الفكرية بقوله إن الفكرَ الإنساني دائمُ البحثِ والتّفتيشِ عما يرضيه ويسعده، فيظنّ المرءُ أنه اكتشف ضالّته حتّى يجد أنّ من سبقَه في الحياة، كان في نفس الموقفِ والحالةِ التي بحث عنها.. ويحاور الموتَ والحياةَ، بعد أن أعطى لكل منهما وظيفة الآخر.. فسادت الفوضى في العالم.. واستخلص أنها حالة غير طبيعية ولا منطقية.. فأعاد الوضعَ إلى حالته الطبيعية..

وها هو الكاتب أندراوس حدّاد، يورد لنا من الأساطير ما ينعكس على حياتِنا اليوميّة، ويندرج في نطاق التّجارب الحياتيّة، والسّياقات الفكريّة.. فنجد أفروديت، إلهة الحبّ والجمال، تعيش حياتها الخالدة كفكرة.. وكذا سكان الأوليمبوس، فهل هذه الآلهة أفكار مجرّدة؟ وتُمضي حياتها في الأبديّة المطلقة؟ أم أنّها تلعب دور المثل والعبرة التي نتّعظ بها؟ إن الدماء سيطرت على كلّ شيء، الأحمر أصبح سيّدُ الوجود، لا لون غيره يملأ الفراغ، لا طعم للهواء سوى ثقل المعدن والاحتراق. الأرض، التي كانت يومًا مهدًا للحياة، تحوّلت إلى ساحة تتخبّط فيها الأجساد، تبحث عن معنى للنّجاة وسط الفوضى.

إن جروح الزّجاج مزدوجة المعنى، فهو الزّجاج الجارح، وكذا المجروح.. فإن كان الزّجاج جارحًا، فهذا يعني أنّه مكسور، وحوافه جارحة لحدّتها. وأمّا الزّجاج المجروح فهو الذي تعرّض للأذى.. إنّها الرّوح بشفافيّتها، ببراءتها وقوّتها، بصلابتها وهشاشتها.. فحياتنا كلّها بين الغموض والشّفافية، وبين الجارح والمجروح، نقتفي أثر الفكر الذي يمضي بنا في مجاهيل التّجارب وأدغال الأشواك والأشجار.. تصيبنا الجروح والقروح، وتقعدنا الأمراض والأسقام، ونحن نُصرّ على كسب المزيد من الخيرات الدّنيوية والنّعم المادّيّة.. وننسى العودة إلى أرواحنا وذواتنا إلّا بعد فوات الأوان..

ويقول: أنا لستُ ككلّ الرّجال، ولا أنتِ كباقي النّساء، ولا يمكن للعقل البشريّ أن يستوعب كيف أنّنا رغم مسافاتنا، رغم تباعد أفكارنا، نحتاج لبعضنا هذا الاحتياج الكامن في أعماقنا. دوني أنتِ نصف، ودونك أنا مسخ، فكيف يمكنني أن أكون كاملًا وأنتِ غائبة عنّي؟ كيف أكون إنسانًا مكتملًا في روحي وعقلي وجسدي، إذا كانت شظاياكِ مفقودة في كياني؟ لا بدّ أن تفهمي هذا، يا حبيبة روحي، إنّنا لا نقاوم بعضنا بل نكمّل، كما تكمّل الرّوحُ الجسد.

إن الرّوحانيّات والتّأملات التي يوردها الكاتب في جرح الزّجاج، تنحو بنا نحو مشاعر الإحساس بالانتماء، وضرورة التّفكير بالوطن، ومحبّة الأرض.. ولا يتجاوز أيّ خطوة من الجروح والمصاعب، دون الّلفت إلى نبذ العنف وإدانة القتل، وشجب الموت، وتحريم الجريمة.. فالوطنيّة محبّة وانتماء لما نحب، لأنّ الشّعور الوطنيّ متجذّر في النّفس، فنتمسّك به ويعيدنا إلى مراحل حياتنا التي عشناها ونعيشها.. فمن منّا لا يذكر ولا يحنّ إلى طفولته، إلى مسقط رأسه، إلى نوستالجيا رفاقه وجيرانه، إلى تبعيّات خدماته ومقولاته وأفكاره.. إلى حكاية أم أحمد: التي تغني للزعتر والميرمية: (زعترك يا بلادي.. أكل أهلي وأولادي.. عَ التّلّة والوادي.. منك لا يحرمونا).  أو: (ميرميّة يا طريّة، نابتة عَ عين الميّة، فرجيهم الهويّة، أحسن ما يحبسونا)..

إن جرح الزّجاج خبرة ذاتيّة، وحالات فكريّة وجمعيّة، وينأى عن التّفرقة والعنصريّة والطّعن بالآخر، ويبتعد عن التّحريض والادّعاء والتّباهي والكبرياء.. ألا يجدر بنا أن نتّعظ ونكتسب العبر والدّروس من مواقف حياتنا؟

لا يخفي الكاتب تجاربه الحياتيّة الشخصيّة، ورغبته في خلق مجتمع أفضل، مليء بالمحبّة والفرح، يسعى لتحقيق الآمال والأمنيات، ينشد الخير العام والطموح نحو مستقبل النّور والسّعادة..

أعتقد أن هذا الكتاب، وإن كان الأوّل وباكورة إنتاج أدبيّ، فهو فاتحة لما سيأتي بعده، ويسير على نهجه، وأرى الكاتب يدوّن خواطره وأفكاره وتأمّلاته وحكاياته على الدّوام، ويسكبها من روحه وفكره وقلبه في قوالب جميلة وشائقة.. وأختم بواحدة من القصائد التي وضعها الكاتب، وهي بعنوان: سِجنُ العُيون

خُذيني إلى منفاي، واغلقي عينيكِ… فقد سُجِنتُ في ظلالك، ولا ضوءَ إلا في مقلتيكِ. صَدَرَ حُكمٌ بأمري، أنا المُجرمُ العاشق، فما كان جرمي قاتلًا، بل كان عبادةً وصلاة. ولأيِّ جُرمٍ أُعاقَب؟ وهل فيهِ سكبتُ دمًا؟ نعم، ذرفتُ الدّموع، ولم ينتابني فيها ندم. أأُصلَبُ في محرابكِ؟ وفيه سجدتُ، وما ارتكبتُ خطايا، أنا من توضأتُ بالشّوقِ مرّات، وختمتُ باسمكِ دعائي. فهل أُدانُ لأنّي أحببت؟ أم تُنسى الذّنوبُ إذا بُحتُ بسرّي؟ أنا الموقوف على قارعة العيون، منفيٌّ بين حلمي ودهري. وإن لا بُدّ من عقاب، فاسجنيني داخل أجفانك، ولتكن قضبانُ سجني، بين لَحظِكِ وأهدابك.

نبارك لأندراوس – أبي أسعد.. هذا الإصدار المميز.. ولكم كل المحبة والخير.

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

سلمى جبران: “جروح الزجاج” وخفايا النصّ – قراءة تفاعليّة

سلمى جبران   مباركٌ هذا الكتاب الذي يمتدّ على طول الحياة وعرضِها وعُمقِها وارتفاعاتِها. هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *