كانت تشعر بأنها خُدعت من قبل من نصحوها بالسعي وراء العلم والعمل، وأنهم لم يأخذوا في الاعتبار الثقل الذي سيقع على كاهلها، وأن السعي لتحقيق الذات والتحرر لم يكن بالضرورة بالطريقة التي تصورها المجتمع، بل ربما كان هناك توازن ضائع بين العمل والراحة، بين العلم والحياة الهادئة البسيطة.
جلست سلمى وعلامات التعب ورسوم التذمر تعلو وجهها بعد يوم طويل من التدريس والعمل الشاق. اعتادت أن تتحدث عن يومها بكل تفاصيله، تشكو أعباءها اليومية، وتتذمر من التحديات التي تواجهها.
في غمرة تفكيرها المنغمس، أطلقت عبارات غامضة، تلوح في أفق خيالها فيحر عقلها. “غرائب يحتار لها عقلي!” قالت وهي تتأمل في دهشة تلك الأفكار التي تلوح في أفقها غير المفهوم أحيانًا كثيرة. كانت تحاول فهم تلك الأفكار المترددة في خيالها، وتحليل المواقف التي تعيشها، والتأمل في كيفية جعل الحياة أفضل بعيدًا عن الشوائب والتناقضات.
سلمى، وهي مدرّسة تعمل طوال الأسبوع، دائمًا ما تكون في حركة مستمرة، قليلة الكلام وكثيرة التأمل. تدرك تمامًا أن الظاهر قد يكون خادعًا، وأن الكثير من الأشخاص يعكسون صورة مغايرة لحقيقتهم. يزعجها الكثير من الصور واللقطات التي تمر عليها خلال النهار، فتراها تتأمل في هذا التناقض الغريب لم تكن شقوة النهار تتعبها أكثر من تلك الأفكار التي تخالج ذهنها.
“كم من الأحيان يكون الظاهر خداعًا؟ تساءلت سلمى وهي تتأمل نظرات زوجها أيهم إليها، “فترى أناسًا يشغلون وظائف ليست مناسبة لهم، وآخرين يتصرفون بطرق لا تتلاءم مع شخصياتهم أو حتى مع أسمائهم. ذلك اسمه سعيد، لكن ملامحه كلها كآبة، وتلك اسمها هيفاء، لكنها لا تحمل من النعومة واللطافة في التعامل إلا القليل.” واصلت التأمل في هذه التناقضات، مدركة أنها لو أرادت الحديث عن كل ما يجتاح عقلها، لما انتهت، فهو موضوع لا ينضب من الاستكشاف والتأمل.
بعينين تشعّان بالحب والدهشة، نظر إليها أيهم زوجها. “يا لهذا الكم من الأفكار”، قال وهو يعبّر عن إعجابه بمدى غزارة تلك الأفكار التي تتدفق من داخلها. “هوني عليكِ، فالبشر لا يتغيرون.” أضافت بابتسامة تكشف عن مدى تعمق فهمها للبشر ولغرائبهم المتجسدة في صور معكوسة لا تنتهي.
استمرت سلمى في تأملاتها، تناقش زوجها أيهم بقوة عن حقيقة كل التقدم العلمي والشعارات التي نادت بتحرر المرأة وجعلتها تعمل وتفكر أكثر من طاقتها. بعد لحظات من الصمت العميق، نظر إليها أيهم، وقد حاول أن يضيف بوجهة نظره: “أتعلمين، يا سلمى، هذه الحرية التي تتحدثين عنها، هي بالضبط ما ناضلت من أجله النساء من حقوق على مر العصور. هن من طالبن بها منذ أجيال، والآن قد حصلتن عليها. هذا هو الواقع الجديد؛ العمل، التفكير، وحتى الشعور بالمسؤولية المرهقة. “أليس هذا ما أردتن أنتن النساء”؟
نظرت سلمى إليه نظرة يملؤها التحدي والهدوء في آن واحد. “أيهم، إن الحرية ليست مجرد شعارات نرفعها، أو مطالب نطالب بها. مشكلتنا أننا فهمنا الحرية بطريقة خاطئة. هل يعني التحرر أن نثقل كواهلنا بالأعباء؟ أن نصبح عبيدًا لواجبات لا تنتهي؟ لا، يا أيهم. الحرية الحقيقية هي أن نعرف كيف نوازن بين حياتنا، بين العمل والراحة، بين السعي لتحقيق الذات والعيش بسلام. ما نحتاجه هو أن نتعلم مفهوم الحرية أولاً قبل أن نطالب بها.”
ساد الصمت مرة أخرى، أيهم فكر في كلماتها بعمق، مدركًا أن هناك جانبًا من الحقيقة في حديثها. سلمى لم تكن ترفض العمل أو السعي، لكنها كانت تسعى لفهم أعمق، لفهم ذلك التوازن الضائع، وإيجاد معنى حقيقي لحريتها، معنى لا يُقاس فقط بإنجازاتها المهنية أو المجتمعية، بل بمقدار سعادتها وراحتها في الحياة.