مداخلة د. صالح عبّود حول كتاب: ظواهر اللّغة والبناء الفنّيّ عند الشّاعر “عمر رزّوق الشّامي”- دراسة نقديّة للباحثة إيمان مصاروة

د. صالح عبّود 

مداخلة حول كتاب: ظواهر اللغة والبناء الفني عند الشاعر “عمر رزوق”

دراسة نقدية للباحثة إيمان مصاروة

نادي حيفا الثّقافيّ – 25.07.24

يا سَادَتي حَيْفا تُعيدُ لِقاءَنا               في كُلِّ أُمْسِيَةٍ نَرودُ مَعادًا

أَقْبَلْتُ فيها نَحْوَ ذاتي مَرَّةً              فَوَجَدْتُ فيها بُغْيَتي وَمُرادًا

وَهُنا اِجْتَمَعْنا ضِمْنَ نادٍ ناجِدٍ            نَسْمو إلى نَجْدٍ يَفوقُ نَجادًا

عُمَرٌ يَفيضُ بِتِيهِهِ مُتَأَمِّلًا           وَالحُبُّ يَخْفُقُ في القَصيدِ فُؤادًا

تاهَتْ بِهِ الآمالُ حينَ تَوَرَّدَتْ               أَبْياتُهُ فَتَوارَدَتْ أَوْرادًا

أَمّا إيمانُ فَمِنْ نَميرٍ نَقْدُها            يَصْفو وَيَزْكو لا يُصيبُ نَفادًا

أَرْوَيْتِنا بِدِراسَةٍ عَقَدَتْ لَنا                 عَقْدَ التَفَضُّلِ هِمَّةً وَقِيادًا

وَحَصَدْتِ نُبْلًا وَالعُلومُ تسالَمَتْ     فيكَ اجْتِماعًا زَرْعَةً وَحَصادًا

للهِ درُّ البارعاتِ تَفَنُّنًا                   أَسْلِمْ لَهُنَّ منَ الرشيقِ قِيادًا

يَبْلُغْنَ فَخرَ الخالداتِ وَفَضْلَةً         فَالمَرْءُ يَزكو بالعَطاءِ رَشادًا

إنّي وَفَيْتُكِ يا إيمانُ بِقطعةٍ            من نظمِ عرفانٍ نَما فَازْدادا

وَوصِيَّتي أن تكتبي وَتُسَوِّدي       صُحُفَ البياضِ فَتَقلبيهِ سَوادًا

السيّدات والسادة،

شكرا للمجلس الملّيّ الوطنيّ الحيفاويّ ولنادي حيفا الثقافيّ ممثّلًا بكوكبةٍ من الحاضرات والحاضرين، في غُرَّتهم الصديق المجتهد فؤاد نقّارة وعقيلته الكريمة سوزي والقيّمين معهما في النادي يتعهّدون رسالة حيفا الثقافيّة العربيّة المدوَّنةَ بمدادِ الجمال والانتماء والعطاء، وشكرنا موصولٌ مشفوعٌ للجمهورِ اليوحانيّ الأنيقِ الذي آثر أمسيّتنا هذه على تفاصيلَ أخرى فاختار الخير، ونحن معَ غروب شمسِ هذه الخميسيّة مع تكريمِ شاعرٍ غزيرٍ يستحقّ الثناء بكلِّ أسبابه ومعالمه، ومعَ تكريم كاتبةٍ وباحثةٍ وناقدةٍ أديبةٍ غزيرةٍ صديقةٍ نفخر بيراعتها وبراعتها وبُلْغَتها في التأليف والتصنيف العزيزة: إيمان مصاروة، واشكرا لها إيلاءَها إيّاي هذه الوَلايةِ في قراءة دراستها المُغَذِيَّةِ النافعةِ ظواهر اللغة والبناء الفنّيّ عند الشاعر عمر رزوق الشامي.

والآن، إليكِ يا باحثتنا الحَثيثةَ في ركابِ التأليف والتوليف أدبًا ونقدًا، وأنت الطارقةُ أبوابَ البحوثِ المخلِّدَةُ تركةً بحثيّةً واسعةً منوّعةً تشهد على سِعةِ اطّلاعك وامتدادِ رؤيتك وثراءِ مِدادك، إذ أثرَيْتِ خِزانة البحوث والدراسات بالعشرات من المؤلّفات والكتب والأبحاث الهادفة في مجالاتِ النقد والأدب والفكر واللغة والتراث والسياسة والواقع والتاريخ والثقافة، وقد تُرجمت بعضُها للّغاتِ الأجنبيّة كالإنجليزيّة والفرنسيّة والتركيّة والإيطاليّة، وأنتِ مع ذلكَ كلّهِ، الشاعرةُ التي تسنَّمتِ الشعرَ فنظمَتْ فيهِ نظمًا وعَزَمتْ فيهِ عَزمًا، فصدرَ لها ما يقارب عشرينَ إصدارًا شعريًّا مطبوعًا ورقيًّا أو رقْمِيًّا.

فهنيئًا للكتابةِ والمعرفةِ والأدبِ بإيمانٍ التي ضربَتْ لنا نموذجًا مُشرقًا ومُشرّفًا لصانعةِ المستحيلِ وطالبةِ المزيدِ والمنهومةِ في الاشتغالِ بما ينفعُ ويَحْسُنُ على الباحثِ أن يُحسِنَهُ، إذ أبليتِ البلاءَ وأمضَيتِ المَضاءَ وأروَيتِ الرَواءَ، فكنتِ من أهلِ البَدارِ والإيثارِ واستقامَ عندكِ وفيكِ المَيسِمُ، وَاستَوَتِ الطريقةُ كي تصلي موفّقةً راشدةً ذاتَ خبرةٍ وكفايةٍ نحمدها فيكِ، ونستبشرُ فيها هنا وهنالكَ وفي كلِّ آنٍ ومكانٍ، فشكرًا على ما قَدَّمتِ، وشُكرًا على ما تُقدّمينَهُ، وشُكرًا على ما ننتظرهُ منكِ والقادمُ أغزرُ وَأوفَرُ..

السيّدات والسادة،

نعودُ محمودينَ منَ الدارسةِ إلى الدراسةِ، وهي وقفةٌ هامّةٌ ينبغي الإفادة منها والاكتساب منها، والوقوف عند ما تتضمّنه من مادّةٍ نقديّةٍ هامّةٍ في مجالها، وليس من نافل القولِ التذكير بأنّ ظواهرَ اللغة والبناءَ الفنّيَّ في المنتج الشعريّ موضوعٌ خليقٌ بالدراسة والتحليل الحصيف المعمّق، فهو في أصل الأمور تتبّعٌ لأبرز أسباب الفرادة عند المبدع الشاعر، كما أنّه سبيلٌ من سبل كشف جماليّات النصّ والصورةِ والدلالةِ الشعريّة عند الشاعر، كما أنّه قبلَ كلّ ذلك وبعدَهُ دليلٌ وموجّهٌ صالحٌ يعين المتلقّي ويمدّه بأسباب القراءة والتأويل والإحاطة الوافية الشافية للنصّ.

تهدفُ دراسة المحتفى بها الباحثة العزيزة إيمان مصاروة إلى استكشاف ظواهر بناء اللُّغةِ الشعريةِ وأهم مظاهرِها الأسلوبيّةِ والصور الشعريّة عند شاعرنا الشاميّ في مجموعته آمالٌ تائهةٌ الصادرة في عامنا الماضي 2023، وغاية الدراسة في مجمل ما وقفت عليه في فصول دراستها النقديّة المزدحمة بالتحليل والتنظير استقراءُ قدراته ومُكنتهِ في توظيف اللغة والبناء الفنّيّ توظيفًا دلاليًّا، يُعبّر من خلاله في لغته الشعريّة عن تجربته الإنسانيّة في أغراضٍ شعريّةٍ شتّى منها: الغزل، والحبّ، والهِجران، والغربة، والوطن، والنبش في مدى أثرها عند المتلقّي، والوقوف على جماليّات استخدامه للصورةِ الشعريّةِ وآليّاتِ توظيفِه وتقنيّاتِهِ السائدةِ، وصولًا إلى تصوّرٍ وتبصراتٍ يتأطّر معها أسلوبُه وخطابه الشعريّ.

تعتبر دراسة إيمان بوّابةً للولوج إلى عوالم الشعر من خلال كثيرٍ من المصطلحات التي اعتدنا على ثرائك في استعراضها والكشف عنها والتقيّد بها ضمن مسار تأليفك النقديّ العريض، ومن تلك المفاهيم الأدبيّة التي أبرزتها في دراستك: المعجمِ الشعريِّ، اللغةِ الشعريّةِ، الحقولِ الدلاليّةِ، الصورةِ الشعريّةِ، الانزياحِ بنوعيهِ الدلاليِّ والتركيبيّ، وغيرها من المفاهيم المؤسّسةِ اللازمة لتمام سبر غور النصوص والصدور منها بدلالاتٍ دالّةٍ على عمق قراءتها..

تحصّلت الدراسة على كثيرٍ من التبصراتِ إزاء مجموعتك أيّها الشاميّ، فقد أشادت بها وأشارت إلى ما فيها من محاور عكست صورة العلاقة مع المرأة، والفراق الموجع والحبّ المشتّت للجوارح باطنها قبل ظاهرها، كما اهتمّت الدراسة كثيرًا بتبيان أسلوب الشاميّ شعريًّا ولفظيًّا معنويًّا وإيقاعيًّا، وارتكزت خلال مسارها النقديّ للنصّ الشاميّ على ركائز ثلاثٍ محوريّةٍ هي:

  1. التركيب، فَبانَ من خلالها أنّ الشاعر قد أجاد توظيف العبارات والجمل اختياريًّا تارةً وجَبريًّا تارةً، وذلك باتّباع أساليبِ التقديم والتأخير، والحذف، والالتفات، والتنكير والتعريف، والتكرار، والمفارقة، والتناصّ والصور الشعريّة وتراسل الحواسّ، وتعدّديّة التأويلات، لأغراضٍ ضروريّةٍ تخدم الفكرة والمعنى والصورة في النص.

  2. الركيزة الثانية هي الانزياح… ولعلّه من أهم الأركان التي تقوم عليه دراسة الأسلوبية لدى شاعرنا الشامي، وهنا يجدر بالتنويه إلى اعتداد الدراسة بكثيرٍ من الثوابت النقديّة المشهورة حول الانزياح وأهمّيته في الشعر الحديث بأشكاله المختلفة.

  3. الركيزة الثالثة هي الاختيار، بمعنى انتقاء الشاعر لمفردة أو لفظة، أو تركيب لغوي دون غيره رغم أن هناك مفردات وتراكيب أخرى تقوم مقامه. وهذا بالطبع يحدده وعي الشاعر والصورة الذهنية في عقله، ورؤيته الخاصة في اختيار هذه الكلمة دون غيرها لأسباب لا يعرفها إلا الشاعر والكاتب نفسه، لإحساسه بأن المعنى الذي يريد التعبير عنه وإيصاله للمتلقي لا يتحقق إلا من خلال هذه المفردة أو اللفظ أو التركيب الذي يختاره في نصه.

ثلاثُ الركائزِ المذكورةْ، تبيّن العلاقات البنائيّة والشكليّة والعضويّة بين اللغة والمعاني، متجاوزةً اللغةَ السطحيّةَ المألوفةَ إلى لغةٍ أعمق وأبعد غَورًا، وهي في رأي ناقدتنا، التي تحدد المعالم الأساسيّة لأسلوب الشاعر وترسم بصمتَهُ التي تنمازُ به عن غيره من الشعراء.

رصدت الدراسة مادّة الشعر عند الشاميّ في مجموعته أمالٌ تائهةٌ” بالاستناد إلى موجّهاتٍ شكّلت موديلًا نقديًّا سائغًا ومُنجّعًا، وتشكّلت تلك الموجّهات من ثلاثة منطلقاتٍ ساريةٍ في سائر الدراسات النقديّة الشعريّة هي:

  1. اللغة الشعريّة… وهنا بيّنت إيمانُ بشكلٍ وافٍ كيفيّة نجاح الشاعر الشاميّ في تحريك نظام اللغة الجامدة وخلخلةِ بنيانها وأسسِها الإنشائيّةِ، عبر الصياغةِ المُغايرة للغة العياريّةِ، والعدول عن المألوف إلى طرائق تعبيريّةٍ جديدةٍ تقوم على خلق حالةٍ من الحركة داخل السكون.

  2. المعجم الشعريّ: وهو منبع الشاعر اللغويّ، وقد استمالكَ معجمُكَ الشعريُّ يا شاعرنا، في رأي ناقدتِنا إيمانُ، إلى فضاءٍ مغايرٍ شكّلت مفرداته وعباراته عالمكَ الشعريّ متشكّلًا في قصائدكَ في “أمالٌ تائهةٌ”.

  3. الحقول الدلاليّة، وهي تنطلق من وعي الشاعر بدلالة المفردات وتوظيفها بشكل سليمٍ ومختلف متجدّدٍ، ومن الحقول الدلاليّة التي توقّفت الدراسة عندها حقل الحبّ والمرأة والكون والطبيعة والحزن واللون والوطن، وقد أفردت لكلٍّ منها تحليلًا موجزًا متورّكًا إلى شواهد من مجموعة الشاعر الشاميّ، مُدلّلةً على كونه نهبًا موزّعًا في مشاعره ووجدانيّاته بينها جميعًا..

في الحقيقة، لقد نجحت الدراسة في تحقيق غاياتها، وصدرت عنها فرضيّاتٌ هامّةٌ لعلّ أبرزها أنّ الشاعر عُمرَ الشاميّ تبلّغ بالنجاح في توظيف شاعريّته وتقنيّاته الفنّيّة والتعبيريّة في نصوص مجموعته آمالٌ تائهةٌ، فقصائده مشبعةٌ بالصور الشعريّة الجميلةْ والبلاغة الزاخرةِ الجزيلةْ، والتكرار النافعْ وتدفّق سيل الخيال الرائعْ، ممّا يجعل مجموعته مثارَ دهشة ناقدتنا وإعجابها، وهذا ما حثّها على دراستها بإفاضةٍ ورويّةٍ إيمانيّةٍ غير طارئةٍ فيها.

السيّدات والسادة، ختامًا فإنّني أوجز بين أياديَكُم، ملخّص ما توصّلت إليه دراسة ناقدتنا إيمان مصاروة، إذ أكّدت أنّ مجموعة آمالٌ تائهةٌ لشاعرنا عمر الشامي تعتبر تجربةً شعريّةً وشاعريّةً فريدةً تستحقّ الإشادة والقراءة والدراسة في جوانب كثيرةٍ غيرِ محصورةٍ، فلقد تميّزت بمعجمٍ شعريٍّ ثَرٍّ وُظِّفَ في حقولٍ دلاليّةٍ شتّى، واستطاع الشاعر من خلال مُكنتهِ فيها إنشاءَ علاقاتٍ متداخلةٍ متشابكةٍ بين المستويين الواقعيّ والمجازيّ، موظّفًا بمهارةٍ عُمريّةٍ فائقةٍ ومؤثّرةٍ الانزياحاتِ والخيالَ، كما وظف التصويرَ الحسّيَّ وتبادلَ المدركاتِ الحسّيّةِ بلغةٍ فريدةٍ تعكسُ حصيلتَهُ الشعريّةَ اليسيرةَ المُترفةَ، وقد تناظر ذلك معَ تنويعاته الإيقاعيّةِ داخليًّا وخارجيًّا في نصوص المجموعة بِرُمَّتِها.. وقد أجادت ناقدتنا الأريبة إيمان مصاروة في عرضها التأثيرات الواقعة على المتلقّي وما لها من دالَّةٍ عليه وعلى تجربته التفكيريّة والوجدانيّة.

في الواقع، كشفت دراستك يا إيمان ما للشاعر عمر رزوق الشامي من تفرّدٍ في تجربته الشعريّة في مجموعته آمالٌ تائهةٌ، وأنصفت ما لها من أثرٍ ذاتيٍّ وموضوعيٍّ في أيّ متلقٍّ يقع في أسرِ سِحرِها الحلال.

والآن، لم يبقَ في كنانتي إلّا القولُ، إنّك يا إيمان أثبتِّ كما دائمًا، وبما لا يحتملُ إلّا اليقينَ، أنّك باحثةٌ مُجدَّةٌ واسعة الاطّلاعِ، وأنّك مسدَّدةٌ فيما تدرسين وتُصدرين، فبوركتِ وبورك ما بلغتِهِ وما تبلغينَ وستبلغينَ.. وفّقك الله وزادك عطاءً إيمانيًّا مؤصّلًا وَعريضًا..

شكرًا لكم

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *