محمّد علي طه: كأن تكون فلسطينيًّا

اختار د. فيصل درّاج، النّاقد والمفكّر العربيّ الفلسطينيّ الكبير أن يتّكئ على كاف التّشبيه في عنوان سفره الممتع الّذي أغنى المكتبة العربيّة، ففتحت الكافُ منجمًا من الصّمود والعزّة ورسمت دربًا الى العودة.

أسرني هذا الكتاب من ألفه الى يائه، وداعبتني حروفه وهزّتني كلماته فعشتُ ساعاتٍ وأيّامًا كأنّني أسمعُ صوتًا قادمًا من أحراشِ يعبد، وآخر طالعًا من بين صخور القسطل يقول: “كأن تكون فلسطينيًّا”.

ما أصعب أن تكون فلسطينيًّا يا فيصل درّاج بعدما سرقوا طفولتك في قرية الجاعونة الّتي عبرنوها فصارت “روش بينا” حينما اغتالوا طفولتي في قرية ميعار الّتي سبوها وأسموها “ياعاد”.

واعذرني يا فيصل فأنا شيخٌ بلا طفولة، (أعوذ بالله من شابٍّ تغرّب وشيخ مات مجايلوه) ويعيش في دولةٍ لا تعترف بمواطنته، وأمّا جنسيّته فهي خطأ مطبعيّ يحرجه أخوات الشّلّيتةِ، بلغة فنّاننا الشّهير ناجي العلي، كلّما طلبوا منه في المعابر الدّوليّة تسجيلها في الاستمارة الجافّة مثل ورقة التّين في تشرين غير مدركين أن جنسيته “لا جنسية”.

تكتب يا أخي أن يكون المرء فلسطينيًّا “يعني أن تحفظ ذاكرته ما عاناه في المنفى، ألّا يسقط في إقليميّة خائبة تُنكر العرب والعروبة، ألّا يُقدّس قياداته القائمة أو المؤجلّة، وأن يُدرك أنّ القدر الظالم نشر الفلسطينيّين في شتاتٍ لا حدود له، وأن يرى الثقافة في القيم والأخلاق…. تمتدّ من مظاهرات القدس العارمة عام 1920… وصولًا الى بطولة غزّة الخالدة، وأن يحارب الظّلام ويدافع عن التّنوير والاستنارة… وأن لا كرامة بدون وطن حقيقيّ” والأهمّ من كلّ ذلك أن يُدرك الفلسطينيّ “أنّ نكبته الأخيرة ليست بأخيرة”. ألف لام ميم. هذا كلامُ لا ريب فيه، ولكن الى متى يا فيصل؟ الى متى يبقى هذا الشّعب العظيم يدفع الثّمن الباهظ؟

وفي غزّة روايات وقصص وملاحم وموت وجوع وعطش وابادة مستحيلة وصمود يُعانق السّماء.

متعة كبيرة أن يقرأ المرء لفيصل درّاج مقالًا أو دراسةً أو كتابًا، ومتعةٌ كبرى أن يجلس معه ويشرب القهوة معه ويسمع كلامه الهادئ الرّصين ويحاوره، ومتعةٌ أدبيّة فكريّة ثقافيّة أن يقرأ كتابًا لهذا الناقد الأدبيّ الكبير، رائد المدرسة البارزة في النّقد الأدبيّ العربيّ وصاحب كتابيّ “نظريّة الرّواية والرّواية العربيّة” و “الرّواية وتأويل التّاريخ” وغيرهما وغيرهما.

أدهشني فيصل في هذه السّيرة وأنا أقرأ عن العلاقة بين أضلاع المثّلث الأدبيّ البارز، سعد الله ونّوس المسرحيّ وعبد الرحمن مُنيف الرّوائيّ وفيصل درّاج النّاقد، وأثرى معلوماتي وأنا أقرأ ما كتبه عن أنيس الصّايغ وكريم مُروّة ومهدي عامل وربطني بروايات غالب هلسا الّذي ما زلت أذكر قصّته القصيرة الجميلة “البشعة” الّتي قرأتها قبل نصف قرن ونيّف فحبّبتني بالقصّة القصيرة الّتي عرفتها عند موباسان وتشيخوف.

أعادني هذا الكتابُ الى الأيّام الجميلة وأنا أقرأ ما كتبه فيصل عن جورج لوكاتش وجان جونيه وآلتوسير وغارودي وسارتر وطه حسين وجبرا وكنفاني وبسيسو.

بعد أن قرأتُ الفصل الجميل عن صديقي العزيز الشّاعر الكبير عزّ الدّين المناصرة قلتُ في سرّي حبّذا لو قرأ “أبو كرمل” رأي محمود درويش بشعره الّذي ذكره فيصل درّاج لامّحت عندئذ سطورٌ من مرارته، وحبّذا لو استجاب فيصل درّاج لطلب محمود درويش وكتب المقال عن “عزّ” في مجلة “الكرمل” بعدما كتب مقاله عن معين بسيسو، وحينما قرأت ما كتبه عن صديقي وأخي محمود درويش أدركتُ أن فيصل يعرف الدّرويش مثلما أعرفه منذ كنّا على مقعد دراسيّ واحد منذ العام 1956 الى العام 1960 حتّى قصيدته “أما آن لهذه القصيدة أن تنتهي”.

لم ألتقِ بصاحب “غربة الراعي” النّاقد والباحث الكبير د.احسان عبّاس إلّا أنّني عرفته وأنا تلميذ في الثّانوية في أواخر خمسينات القرن الماضي عندما قرأتُ كتابه عن الشّاعر العراقيّ عبد الوّهاب البياتيّ فاعتمدتُ عليه وكتبتُ يومئذ مقالًا عنوانه ” الرّمزيّة والغموض في شعر البياتيّ” ونشرته في مجلّة “المجتمع” وكان هذا المقال هو مقالي الأوّل في جريدة، وتقديرًا لهذه القامة الأدبيّة الباسقة قمتُ ومجموعة من الأدباء والشّعراء في مطلع أيلول 2003 ( كنتُ يومئذ رئيسًا لاتّحاد الكتّاب العرب في الدّاخل) بالسّفر الى أطلال قرية عين غزال مسقط رأس احسان عبّاس وأقمنا حفل تأبين غير عاديّ في ذكرى الأربعين لرحيله وتحدّثتُ فيه وهاتفتُ من هناك من على أطلال بيته زوجته في عمّان معزيًّا إيّاها فتأثّرت السّيدة الجليلة كثيرًا. ولا بدّ أن أشير الى أنّ هذا التأبين لأديبٍ فلسطينيّ عاش ومات في الشّتات على أطلال بيته في قريته المهجرّة لم يحظ به سوى احسان عبّاس.

عرفتُ فيصل درّاج منذ سنوات الثّمانين في القرن الماضي عندما كنتُ محرّرًا أدبيًا لصحيفة “الاتّحادّ” الحيفاويّة وتسّنى لي في تلك الفترةِ أن أقرأ مقالاته في مجلّات “الطّريق” و “الحرّيّة” و “الكرمل” وغيرها وأعدتُ نشر ما تيسّر منها في الملحق الثقافيّ لصحيفة “الاتّحادّ”، وفاجأني فيصل عندما أهداني مشكورًا مقالًا نشره في مجلّة “الحريّة” بعد أن قرأ قصّتي “العلم”، ثمّ تابعتُ قراءة مقالاته العميقة في مجلّة “الكرمل” بعد عودتها وصاحبها الى رام الله.

أرغبُ أن أشير الى جلسات لي ممتعة مع فيصل في مدينة عمّان حيث تحدّثنا في احداها عن نجيب محفوظ وعندما أشرتُ الى ظاهرة البطل المومس في روايات محفوظ أدهشني بتحليله واستنتاجه، وفي جلسة أخرى تبادلنا اعجابنا بطه حسين الرّوائيّ والأديب والمفكّر والمُصلح الاجتماعيّ وأما في الجلسة الثّالثة فقد ذكرتُ له اعجابي بالمفكّر الفلسطينيّ ادوارد سعيد وبكتابيه “الاستشراق” و “الثّقافة والامبرياليّة” الى أنّني حينما قرأتُ “خارج المكان” شعرتُ أنّ الرّجل من عالم غير عالمنا ولم يشدّني كما شدّني “غربة الراعي”. ولم يعلّق فيصل على حديثي.

“كأن تكون فلسطينيًّا” هو سيرة ذاتيّة للثّقافة الفلسطينيّة والثّقافة العربيّة التقدّميّة، ولا بدّ لي من أن أشير الى أنّ فيصل الّذي عاش في بيروت ودمشق في أوج الثّورة الفلسطينيّة لم يذكر في كتابه شخصيّة سياسيّة أو شخصية عسكريّة أو قائدًا أو زعيمًا فلسطينيًّا بل كتب عن الأدباء والشّعراء الّذين أحبّهم ورحلوا من هذا العالم.

ربطتني، من حسن حظّي، علاقة صداقة ومودّة بناقدين عربيّين كبيرين هما: المرحوم محمود أمين العالم والدّكتور فيصل درّاج الّذي أسأل الله تعالى أن يُطيل عمره ويهبه الصّحة الجيّدة.

صباح الخير يا فيصل من حيفا وكرملها وبحرها ووادي النّسناس، وصباح الخير من الجاعونة وسهل الحولة، وصباح الخير من الجليلِ والمثلّث والنّقب والضّفة الغربيّة والقطاع المدمّر وزهرة المدائن.

صباح الخير من أهلك المنغرسين في هذا الوطن الصّغير الجميل.

صباحُ يرتّل “كأن تكون فلسطينيًّا”.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

صباح بشير: فيصل درّاج وذاكرة لا تمحى.. قراءة في كتاب “كأن تكون فلسطينيّا”

صباح بشير     في رحاب الذّاكرة، تُنسَج خيوط الزّمن؛ لتحمل عبق الماضي وأمل المستقبل. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *