محمود شقير: عن رواية صباح بشير “فرصة ثانية”
محمود شقيرعن رواية صباح بشير “فرصة ثانية”
بلغة من نوع السهل الممتنع وبأسلوب لا ينقصه التشويق تكتب صباح بشير عن العلاقات الزوجية في مجتمع شرقي، وتغوص عميقًا في نفسيات الزوجات والأزواج، لتكشف بعض أسباب الخلافات التي تقع داخل الأسرة، فتعكّر أجواء البيوت، وتكون سببًا في التوتر والغضب والنفور والاستياء، وقد تتفاقم وتؤدي في حالات غير قليلة إلى الطلاق.
فيما يتدخل العقلاء من الأهل ومن الصديقات والأصدقاء لتصفية الأجواء المتوترة بين الأزواج، ويسهمون في تحسين الأجواء وتهيئة فرص جديدة لاستمرار الحياة الزوجية بتفاهمات كثيرة أو قليلة، لكنها في كل الأحوال أفضل من الوصول إلى الانفصال الذي يعني الإخفاق في الحياة الزوجية التي يتحمل المسؤولية عن عدم استمرارها الزوجُ أو الزوجةُ أو كلاهما على هذا النحو أو ذاك.
تظهر المشكلة التي شكّلت عصب الرواية والحدث الرئيس فيها من جراء تعسُّر ولادة فاتن زوجة مصطفى، ثم تتفاقم الحالة أثناء إجراء عملية قيصرية لها وحدوث نزيف دموي تصعب السيطرة عليه، فتموت فاتن لكن طفلها ظل على قيد الحياة.
تتولى هدى الشابة الجامعية، شقيقة فاتن رعاية الطفل الذي سمّاه أبوه: يحيى، وكانت هدى معنية برعايته ولكن إلى متى؟
في الأثناء نتعرف إلى عبد الله الشقيق الأكبر لمصطفى، وهو زوج لبنى الأنانية المشغولة دومًا بنفسها وبرغباتها الخاصة، من دون أن تعير زوجها أي اهتمام، لكن هذا الزوج يحبها برغم انصرافه إلى قراءة الكتب، فيما تغرم هي بالمسلسلات وببرامج التسلية الخفيفة، فلا يظهر انسجام بينهما في الاهتمامات وفي الرغبات، ولا ندري بعد ما هو مصير هذه العلاقة الزوجية التي تشهد بعض توترات، فالكاتبة تمسك بخيوط السرد على نحو محكم متين.
في الأثناء أيضًا تقدّم الكاتبة طبيب الأسنان إبراهيم الذي عانى من زواج أول ثم انتهى هذا الزواج إلى الطلاق، ما جعل إبراهيم يقرر العزوف عن الزواج وإغلاق قلبه أمام أي تجربة حب أو تجربة زواج جديدة.
غير أن الصدفة المباركة تقوده إلى نهاية، المرأة التي تسكن في شقة في البناية التي يقيم إبراهيم في إحدى شققها. نهاية هذه محبّة للموسيقى، وإبراهيم كذلك محبٌّ للموسيقى، وخصوصًا تلك المقطوعة التي تحمل اسم “نينوى” التي وحّدت بين مزاجه ومزاجها، وفتحت الأفق لتطور العلاقة بينهما، فهل يحدث ذلك؟
تعود الكاتبة لمواصلة الحديث عن مصطفى الذي ظل غارقًا في الحزن من جراء وفاة زوجته فاتن، فلم يعد يفكر بالزواج من شدة افتقاده لها وحزنه عليها، غيرَ أن سكرتيرته سناء المطلقة، وضعته في ذهنها منذ أن ماتت زوجته، واستطاعت أن تجتذبه وهي تعلن حبها له، حتى بلغ به وبها الأمر أن غادرا حيفا، مسقط رأسيهما، إلى يافا، حيث لا يعرفهما أحد هناك، لقضاء ليلة في فندق على البحر، صارت سناء بعد تلك الليلة تتوقع أن يجاهر مصطفى بحبه لها وأن يعلن عن رغبته في الزواج بها.
غير أن شيئًا من ذلك لم يحدث، وسنرى كيف أن سناء استقالت من عملها في وقت لاحق وخرجت من حياة مصطفى ومن العمل معه سواء بسواء.
وكان واضحًا من خلال السرد أن وضع مصطفى غير المستقر ما زال يبحث عن استقرار. وقد جاءت المبادرة هذه المرة من والدته أم عبد الله، التي اقترحت عليه أن يفكر بالزواج من هدى شقيقة المرحومة فاتن، وهي التي تعتني بيحيى كما لو أنه ابنها. هنا وقع الرفض القاطع من مصطفى الذي يرى في هدى أختًا له، ثم إن فارق السن بينه وبينها لا يسوّغ له الزواج بها.
لقد تمكنت صباح بشير من الدخول إلى أعماق مصطفى لمتابعة ردّات فعله وانفعالاته تجاه هذا الأمر، ومتابعته كذلك بعد أن وافق على الزواج بهدى، وعدم قدرته لفترة غير قليلة على القيام بواجبه الزوجي تجاهها، إلى الحد الذي دفعه إلى الشك في سلوكها، ودفعها إلى التفكير بالانفصال عنه، لولا تدخّل لبنى التي قدمت لها النصائح الكفيلة باجتذاب مصطفى وتخليصه من العقدة النفسية التي جعلته عاجزًا عن الأداء.
نصل أو تصل بنا الكاتبة إلى لبنى التي كنا نلمس تناقضها الواضح، فهي لا تشعر بأي انسجام مع زوجها وتتعمد إهماله، وفي الوقت ذاته تقدم النصائح لهدى لكي تحقق الوصال مع زوجها.
ثم تقوم لبنى نفسها بشرح عقدتها بعد أن قرر عبد الله الانفصال عنها وطلاقها، لولا تدخل هدى هذه المرة، التي حالت بين عبد الله وبين تنفيذ قراره بالانفصال عن لبنى التي عادت إلى انتهاج الطريق الصحيح في العلاقة مع زوجها، بحيث نرى في نهاية الرواية كيف نجحت الكاتبة صباح بشير في السيطرة على خيوط روايتها وفي بث رؤية تربوية إنسانية غايتها تعزيز الروابط الأسرية، والتأكيد على أنه توجد فرصة ثانية لاستئناف علاقة زوجية صحيحة برغم تفاقم الخلافات التي تنذر في لحظة ما بانعدام الفرص*.
*فرصة ثانية، رواية صباح بشير، 259ص، دار الشامل، نادي حيفا الثقافي 2025.
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.