لبابة صبري: قراءة في رواية “قلادة ياسمين” للكاتب عامر سلطان
لبابة صبري
قراءة في رواية “قلادة ياسمين” للكاتب عامر سلطان
شكرًا للمجلس الملّي الأرثوذكسي الوطني وشكرًا للأستاذ جريس خوري، وشكرًا لنادي حيفا الثقافي وللأستاذ المحامي فؤاد نقّارة وللسيدة الأنيقة سوزي وللكاتبة الأستاذة صباح بشير. وشكرًا للكاتب الروائي عامر سلطان الذي كتب إهداءً لي في روايته.
إنّ إحدى مميّزات أمسيات نادي حيفا الثقافي هو مناقشة الروايات الفلسطينية المتجهة نحو الأعالي في الإبداع والتألّق، ونتوّج الليلة رواية عامر سلطان “قلادة ياسمين” والتي يفوح عطرها بالتفكير حول القضية الفلسطينية.
اتخذ عامر الشخصيّة الرئيسية في روايته قلادة ياسمين من الغرب (بريطانيا)؛ وهذا قد ميّز الرواية بقدرتها على الانصهار والاندماج في مختلف الأجواء التي شهدها البطل جورج في فلسطين أو عاش فيها. كما تميّزت الرواية بمعرفة واسعة وخبرة متنوّعة في الكثير من تاريخ وتجارب حياة الفلسطيني وشؤون السياسة وقضايا الإنسان الفلسطيني ونزعاته وتصوّراته ومواقفه التاريخية.
بالإضافة إلى أنّ الرواية ومن خلال البطل قد منحت الكثير من سعة الأفق وبُعد النظر والمرونة في التفكير حول القضية الفلسطينية وقضايا الصراع الفكري والصدام الحضاري القائم بين الغرب والشرق؛ مثال ذلك بين ما يفكّر به الغربيون (البطل البريطاني) عن القضية الفلسطينية. ولا سيّما المتعلّق منها بالاستعمار والغزو وتحوّلات المجتمع العربي وشجونه، مع إمكانية الحفاظ على الأصالة والانتماء، وقد استخدم عامر قلادة ياسمين كرمز من رموزها.
كما تحاول الرواية الكشف عن أبعاد جديدة للقضيّة الفلسطينية وعناصر رمزية فاعلة سواء في المجال الفنّي أو في مجال النقد الاجتماعي والسياسي والديني؛ تتجلّى الجوانب الفنيّة في أسلوب عامر النقديّ لأفكار المجتمع الغربي عن واقع القضية الفلسطينية وتحليلها تاريخيًا ومحاولة كشفها، من خلال الزيارات التي قام بها جورج إلى فلسطين. وتتجلّى الجوانب النّقدية الاجتماعية والسياسية والدينيّة في الرواية من خلال البطل جورج ومحاولته ليس فقط التعرّف على الحياة الاجتماعية والسياسية والدينيّة وإنّما أيضًا كشف أعمال جدّه الجندي البريطاني من قتل وسرقة لممتلكات الفلسطينيين أثناء خدمته في فلسطين إبّان حقبة الانتداب البريطاني، وبالتالي كشف ما يريد الغرب والاستعمار على السواء إخفائه على المستوى العام، وكشف علاقته الرّوحية والوجدانيّة التي تربطه بالقدس وبفلسطين على المستوى الخاص، وقد كانت قلادة ياسمين هي المحور الأساسي التي تدور فيها أحداث الرواية.
عبّر عامر عن الحياة الفلسطينية وطبيعة تكوينها ومظاهرها كالبساطة والطبية والقناعة والارتباط الوثيق بالأرض وترابها، وهذا ظهر لدى كل من الشخصيات: قاسم (من بيت لحم) بائع التحف المتجول والذي تمّ سجنه عشرين سنة واستشهد ابنه وهُدم بيته، إلا أنّه صامد مليء بالأمل.
وشخصيّة السائق الفلسطيني (من بيت لحم) والذي قال لجورج: لا فرق بين مسلم ومسيحي، هنا الراحة والبركة، في مقابل شخصيّة الاسرائيلي المتديّن الذي التقى بجورج في الطائرة؛ الرجل سأل جورج: هل أنت يهودي؟ وعندما نفى جورج ذلك وأجاب بأنّه مسيحيّ، لم يعجب ذلك الإسرائيلي المتديّن.
وشخصيّة السائق بلال (من القدس) وهو سائق مثقف، كان عرضه لتاريخ مدينة القدس عرضًا عميقًا مطمئنًا، خلافًا لشخصية السائق الإسرائيلي الذي كان عرضه لمعالم مدينة القدس سطحيًا متردّدًا ومرتبكًا، وقد لاحظ البطل جورج الفرق بينهما.
ويهدف عامر من واراء عرض الشخصيّات الفلسطينية إلى توثيق ارتباط الفلسطينيّ بأصله وبمنب جذوره وبتراثه وقيمه الروحية الأصيلة وتراث أجداده في عالم البراءة والنّقاء والصفاء الروحيّ الصريح وعفوية الحياة. وتقف هذه الشخصيّات أمام الشخصيّات الإسرائيلية المرتبكة القلقة التائهة، وبهذا يحقّق عامر مواجهة الفلسطيني للغرب (بريطانيا مثلًا) الذي يخفي الحقيقة ويمشي في الدروب المظلمة والدهاليز الملتوية.
لعلّ انجذاب البطل جورج البريطاني إلى الحياة الفلسطينية سببه الاعتقاد بأنّ شفاءه من الآلام والمخاوف والكوابيس التي تلاحقه هو بإرجاع قلادة ياسمين إلى صاحبتها، والملفت بأنّ عامر قد عمّق شخصيّة البطل إلى منابع الفطرة النقيّة وتراث الأجداد وقيمهم الأصيلة البعيدة عن الزيف والغموض، والتي كشفها في نهاية الرواية والمتمثّلة بأنّ أمّ جورج فلسطينية خطفها جدّه الجنديّ وجدّته من مستشفى في يافا وقت ولادتها. وهذه الحقيقة تدعو القارىء إلى إعادة قراءة الرواية من جديد علّه يستكشف البعد الفنّي العميق خلال قراءته للرواية من بدايتها.
يمثّل جورج رمزًا فلسطينيًا، يشعر في وطنه بالطمأنينة والأمان، يحرسه من الكوابيس واللعنات والانجراف نحو المجهول، ويقلّل من حدّة الصراع الذي يواجهه عندما تُفرض عليه المواجهة مع عوالمه المضطربة وتفكيره بالانتحار.
تعرض الرواية التركيبة التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية لمدينة القدس من خلال جولات البطل جورج، إلى جانب الكشف عن لغز قلادة ياسمين من خلال البحث عن صاحبتها، وقد رافق جورج في جولاته شخصيّة روائية مساعدة له في البحث وهي شخصيّة أستاذ التاريخ في جامعة القدس الدكتور جمال (من مخيم الدهيشة في بيت لحم) الذي بدوره عرّفه على كلّ من السيّد خليل الذي يعمل في بيت الشرق في القدس والدكتور عبد العليم في الخليل، والعائلة الأرمنية المقدسية (الجدّة، الحفيد بيدروس وزوجته روز وابنتهم آراما)، ومن ثمّ عرّفه على الأستاذ زين المتخصص بتاريخ مدينة الخليل وعائلة التميمي للسؤال عن أم إبراهيم (ياسمين) التميمي صديقة جدة والد آراما، وصولًا إلى عبد السلام التميمي وزوجته ياسمين حفيدة أم إبراهيم ياسمين صاحبة القلادة (بيتهم في حارة السعدية وبيتهم الآخر في البيرة).
بالإضافة إلى عرض الرواية للتركيبة المعمارية في القدس من خلال الحديث عن العديد من الأديرة والمباني التي شيّدت في القرن التاسع عشر النمساوية الإيطالية الفرنسية الروسية اليونانية الألمانية الإسبانية والبريطانية. إنّ تناول الجانب المعماريّ في الرواية هو محاولة لكشف الأبعاد الرّمزية ودورها الفاعل في مدينة القدس تاريخيًّا وسياسيًا.
يتّضح من خلال الرواية معنى الالتزام بالقضيّة الفلسطينية ولا يقتصر ذلك على جانب واحد من جوانب الحياة، كالجانب الاجتماعي أو السياسي أو التاريخي أو الديني أو المعماري، وإنّما يشمل الجانب الرّوحي والحضاري الواسع الذي يبحث عن الجذور العميقة، ليش لشخصية جورج لأم فلسطينية فحسب، وإنّما للشخصيّة الفلسطينية عامة أيضًا. كما تبحث الرواية عن مكنونات الإنسان وحقيقته في مجتمعه، وحقيقته في مجتمع آخر لا تربطه به أواصر أو أصول.
إنّ المشكلة الظاهرة التي تشكّل عنصرًا مهمًّا في الرواية هي البحث عن صاحبة قلادة ياسمين، إلا أنّ المشكلة الحقيقيّة يمكن أن تكون أبعد من ذلك؛ فوراء البحث عن صاحبة القلادة تظهر مشكلات أكثر تعقيدًا وأقوى أثرًا في نشوء الصراع وطوّره واحتدامه، ومن بين هذه المشكلات: الاستعمار وما ينجم عنه أو يترتّب عليه من استعباد واضطهاد واستغلال وقتل. بالإضافة إلى الصراع الروحيّ الدّاخلي الذي عاشه جورج والآلام والأوجاع والكوابيس التي لازمته والتي تبيّن في النهاية أنّ روحه ودواخله هي التي كانت تقوده إلى الأرض المقدّسة فلسطين وطنه الأم.
إنّ الفصل الأخير من الرّواية المعنْوَن ب “بداية” هو الإعلان عن قتل البطل جورج في السجن البريطاني بسبب مطالبته بمحاكمة بريطانيا بجرم ممارستها قتل وسرقة ممتلكات الفلسطينيين، ووهو أيضًا الإعلان عن ولادة قريبة لابنه الذي سوف يستلم رايته وخصوصًا أنّ باولا قد رافقت زوجها جورج ودعمته خلال مسيرته الكشفية في فلسطين وعلمت من خلال مذكّرات جدّ جورج أنّ والدته فلسطينية، الأمر الذي لم يعرفه جورج، ولكنّ روحه ووجدانه قد علما بذلك.
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.