كلمة الأديب نايف خوري في الأمسية التّكريميّة للفنّانة سامية قزموز

كلمة الأديب نايف خوري في الأمسية التّكريميّة للفنّانة سامية قزموز
في نادي حيفا الثّقافيّ – 10.4.2025
سامية قزموز، عرفناها ممثلة ومبدعة. أنا شخصيا ظهرت معها في مسرحيّة رمولوس العظيم، مع مجموعة من الفنّانين، المبتدئين والمتقدّمين.. لن أتحدّث عن تجربتي المسرحية تلك، بل سأتحدّث عن هذه السيدة، التي ظهرت في هذه المسرحيّة، وفي المسرحيات العديدة التي تلتها.. وكانت بحقّ ولا تزال سيّدة المسرح، وأجرؤ على القول، إنها سيّدة المسرح الفلسطيني، ولتعذرني جميع الفنّانات، والممثلات الفلسطينيات اللواتي نفخر بهنّ ونرفع رأسنا عاليًا بإنجازهن.. ولا داعي لذكر الأسماء، بل سأوجز كلامي عن سيدة المسرح المكرّمة الليلة سامية قزموز.
رأيتها في أعمال عديدة، معظمها مونودراما، رأيت صدق التعبير ودقّة الحركة، والتماهي مع الدور المسند إليها، فقد شدّتني كما شدّت كل المشاهدين إلى أدوارها، وشخصياتها التي لعبتها وأدّتها.. تقول سامية إنها ظهرت منذ الصغر على خشبة المسرح في المدرسة، منذ سنّها الخامسة.. وتنطلق في قصة عشق حتى الجنون، بل حتى الاستحواذ بين سامية وبين هذا الذي نسميه مسرحًا. هذا هو حال الفنانين الذين يصابون بداء المسرح أو الفن الذي لا شفاء منه. وتتعدّد المسرحيات المدرسية، ثم فرق الهواة، ثم المسرح الناهض، وتتوالى العروض وتنهال عليها الأدوار، المسرحية والسينمائية، وكأنّ هاجسا ما يدفعها دفعا لا يرده رادع ولا وازع، عن هذه الخشبة، سوى التزامها بأصالة فنها، والتزامها الوطني، وحسّها الرهيف تجاه بلدها وبلادها عامة.
ومنذ ظهورها على الخشبة أمام الجمهور، يتفاعل السحر السرمدي بينها وبين هذا الجمهور، فتشدّه إليها وإلى أدائها وأدوارها، ومن ناحية ثانية يشدها الجمهور إليه متعطّشا إلى كل كلمة، وكل همسة، وكل حركة بجسمها أو يديها أو وجهها، أنا أعرف سيحمرّ وجهها خجلا لتواضعها، ويتواصل هذا التفاعل في النضج في قِدر الفن، حتى تتغلغل في أوصال الجمهور تمامًا، وتستحوذ على فكره وقلبه وروحه.
إنها الفنانة التي تستحق الظهور على أكبر المسارح وأشهرها، ومع أهم الممثلين والممثلات، والعمل مع أكثر المخرجين والمخرجات شهرة وعالمية. ولا يعني هذا أنها كانت تقرع أبواب الشهرة العالمية كي تظهر هناك، بل تأتيها الأعمال المتعددة، والعروض الفنية، يطلبها المخرجون، ويسألون عنها، ومنهم من يرجوها لتشارك في الأعمال المسرحية.
ظهرت في المهرجانات المسرحية ابتداءً من مهرجان المسرح الآخر في عكا، إلى المهرجانات العربية وأبرزها مهرجان قرطاج، لأن لها حضورًا ومكسبا بتواجدها في هذه المهرجانات، ويدعونها للمشاركة فيها، لأن أعمالها متكاملة المشاهد، ومتكاملة الحركة والموقف الذي تعبر عنه.
كتب عنها أدباء وشعراء ونقاد، ولن أتطرق إلى ما قاله الآخرون عنها، بل أتحدث عن سامية في نظري، وبعد أن رأيتها على المسرح.. رأيتها تجسّد الفكرة ببناء الحركة والموقف.. وهي تدرك تمام الإدراك مكانها ومكانتها في المسرح خاصة، وعالم الفن عامّة، فهي الحريصة على خدمة شعبها، والدفاع عن كرامته، وعدم الحط من قدره واحترامه، فتشارك بثقة في مسابقات المهرجانات المحلية والعالمية، باسم فلسطين، وتسعى من أجل أن تتقدم بالفن الفلسطيني لينال أرفع الأوسمة، ويكسب أهم الجوائز، أليست هذه صفات سيّدة المسرح الفلسطيني؟
سامية لا تمثل على المسرح، ولا تؤدّي دورًا أوكله إليها المخرج، ولا المؤلف، ولا الجمهور، بل هي تعيش هذا الدور، بتناسق وتهذيب للشخصية، وإتقانٍ.. إنها تهذّب وتشطب ما زاد من الحركات، ويتفاعل صوتها الذي يأتي مطابقًا للموقف، وملبّيًا تمامًا لحرارة الشعور، ودفء الكلام، والتمازج مع النص. إنها لا تغالي في تقمّص الشخصية، لا تتقمّص أبدًا.. بل تعمل على شخصيتها الذاتية، شخصية سامية بكل قوامها، وكل هيئتها، وكل روحها، وكل أفكارها، وتسخّرها للتعامل مع الشخصية التي ستظهر من خلالها على المسرح أمام الجمهور، فتبني دورها وتخرج بالشخصية الثالثة، المركّبة تركيبا متكاملا ومقنعًا.
ينبغي في العملية المسرحية أن يتم اللقاء والتلاقي المباشر بين الممثل والجمهور، فالممثل يعطي إبداعًا من عنده، والمتفرج يعطي إصغاءً واستقبالًا واستيعابًا من عنده، فهذا الأخذ والعطاء المتبادل والمباشر بين الممثل وبين الجمهور الذي يقابله، تتطابق فيه العملية المسرحية بتمامها وكمالها. وسامية تتقن التصرف والسلوك في هذا الموقف وهذا اللقاء تمام الإتقان. فهي تحترم الجمهور، وتجلّ قَدره، وتكرم حضوره، ولذا تقدم له أفضل ما عندها من رقيّ وإبداع وفن.
إن تأثير المسرح كبير جدًا على الجمهور، إنه تفاعل متبادل، لا بد أن يتغلغل الموقف المسرحي الصحيح والسليم في نفوس المشاهدين، كما تفعل سامية أمام الجمهور، وحتى عندما تنسحب كممثلة إلى ما وراء الكواليس، أو تنهي تقديم وأداء هذه المسرحية، أو تختتم تقديم دورها، يبقى تأثيرها واضحًا، وتفاعلها مع الجمهور مستمرًا، خاصة إذا كانت سامية هي التي تقف أمام جمهورها. وعن ذلك قال لينين عندما شاهد مسرحية لصديقه أنطون تشيخوف: أعطني مسرحا وشعبا أعطيك ثورة. وهناك من ينسب هذا القول إلى آخرين، لكن لينين قاله بالتأكيد. وهذا ما تفعله سامية قزموز في أعمالها المسرحية، فتقدم لنا مسرحًا متكامل الحضور، ومتطابق المعنى والأداء، ومتميز الإبداع والظهور.. وهي تلتزم بأدق الأمور التي تؤلّف شخصيتها على المسرح. وهي تُكوِّن أمامنا عملية مسرحية في شخص سامية، قلّما نشاهدها في أعمال أخرى. إنها الفنانة المثقفة، والممثلة الواعية، والمبدعة الحريصة على التزامها بقضاياها الوطنية. إنها تعيش الفطرة والسليقة، فتظهر بكل الثقة والصدق والإتقان أمام الجمهور.
لم تكتف سامية بكونها ممثلة، بل أسهمت بالكتابة ووضع النصوص، التي تتفق مع فكرها ونظرتها ومقولتها الأدبية والفنية والوطنية، وتكتب النصوص والأعمال التي ترى نفسها تمثلها على المسرح، أمام الجمهور. فيأتي المشهد متكامل البناء والأداء، وتتعزز الفكرة، وتتوثق العلاقة بينها وبين الجمهور. كتبت الزاروب التي لاقت رواجا في المهرجانات والعروض، وهي تُعدّ لعمل مسرحي من تأليفها، قد يظهر إلى النور على الخشبة يوما. فهي تكتب كما تريد للمشهد أن يظهر أمام الجمهور، تكتب وهي ترى الجمهور أمامها، تخاطبه ويخاطبها، تقول له ما تريد ويرد عليها ردّ الفعل الصحيح، والتفاعل المتبادل.
هذه هي سامية التي تؤدّي أي دور يسند إليها، وتتمكن منه، وتمنح الدور نفحة من روحها، ومن كيانها، ومن جسدها ومشاعرها. ومن شخصيتها ومعرفتها النفسية وقدرتها الجسمانية، هكذا يفعل كبار المسرحيين، من ممثلين وممثلات.. وسامية تعيش لحظات الدور الذي تريد أن تجسده.
إنها فنانة ذات روح طفلة، ونشوة بنت، وشباب فتاة، وبلوغ امرأة، ونضوج مسنّة، براءة سيدة بسيطة، صدق سيدة فلاحة، وإخلاص سيدة مربية، وهيبة سيدة أعمال، ومسؤولية سيدة بيت، وهي هنا سيدة المسرح الفلسطيني والممثلة العالمية باستحقاق وجدارة.. وهي تستحق منا التحية والتصفيق بحرارة..
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.