
عندما اتّصل سعيد نفّاع ليطلب منِّي تقديم هذه المداخلة عن كتابه، كنت أقرأ كتابا آخر، اسمه القفص الحديديّ Iron Cage ، لرشيد خالدي، ومقالين بالعبريّة عن فترة الحكم العسكريّ الّتي استمرت رسميّا عشرين عاما، وكأنّ سعيدًا قد شعر من بعيدٍ عمقَ الأسى والإحباط الّذي رافقني، وأنا أقرأ. فحاول إخراجي من هذه الأجواء بقراءة كتابه الّذي انتظر دوره على طاولتي وتقديمه.
بدأت من جديد بقراءة كنت قد بدأتها قبل أيّام مع الحصول على الكتاب.
من يقرأ الكتب اليوم؟ قال “قدّها وقدود” وفصل الأمر.
في ص٢١٣ يكتب:
أومن إنّ الكاتب، كل كاتب وفي أيّ مجال، يشغله عند تناول قلمه للكتابة السّؤال، لمن أكتب وهل هنالك من قارئ! وإن وُجد القارئ، هل سيعطي كتابتي حظّا ولو طفيفا، من قيمة ربّما تحمل فائدة او استفادة تستأهلان حيّزا من وقته وعقله؟
إن الكتابة الغزيرة لسعيد نفّاع تعني أنَّه وجد الإجابة لنفسِه، فكتب.
كثيرا ما نهتم بإشهار الكاتب والشّخص أوّلا، فيسبقنا الوقت دون أن نعطي العمل الكتابيّ الوقت الكافي للتّمعّن به.
يمكن أن نقرأ كتابا أدبيّا، شعرا، رواية أو قصّة قصيرة، دون أن نعرف الكثيرَ عن مسيرة الكاتبِ وآرائِه، ولَو إلى حين. ولٰكنْ كتابة المقالات الواقعيّة الّتي تؤرخُ مسيرةَ شعبٍ، تعبّر عن المواقف في السّياسة، والواقع الوجوديّ، لا تدعُنا نفصلُ الكتابة عن السِّيرة الذّاتيّة.
لا أجد حاجة كبيرة للّتقريظ والتّنويه بالكاتب، فهو معروف للحضور، ربّما أكثر بكثير ممّا أعرفه، ولا أعتقد أنّ هذا ما يهدِفُ إليه، فهو حاضر منذ عشرات السّنين، بعمله وتضحياته وخدماته، بكتاباته، ومواقفِه الفكريّةِ والاجتماعيّةِ والسّياسيّة. وإذا شقّ على أحدِكم الأمر، فلا بدّ أن يجدَ بعض الإجابات في ملخصّ السّيرةِ الشّخصيّةِ “سعيد نفّاع” في الكتاب ص. 308-309 ، وهذا الفصل الأخير له أهمّية في فهم الكتاب.
َوَجّهت نظري أوّلا لأستوعبَ العنوانَ : العرب الدّروز 48.
هذا العنوانُ وحدُه يكشفُ عن مضامينَ كثيرةَ قبل أن نتقدّم في قراءة الكتاب.
حصلت على عدسة مكبّرة لأتأكد هل توجد فاصلة أو واو العطف بين الكلمات. وجدت عطفًا ولم أجد واوًا، فالفكرة الأساسيّة موضوعُ الكلام، هي إعلان موجَّه وواضِح. في ختام الكتاب نجد اسما لكتاب آخر عرب ال 48 الهوية الممزَقة بين الشِّعار والممارسة، 2021.
أمّا حجارة الرّحى فقد أدخلتني أوّلا في حيرة، هل حجارة الرَّحى هي إشارة إلى التّراث الّذي يجمع كل هؤلاء العرب بمكوّناتهم المتنوّعة، أم هي تلك الآلة الّتي تدور وتدور فتطحن كل الحبوب الّتي جمعها بيدر التّاريخ في بلادنا، وإذا صحّ الأمر فمن يحظى بالطّحين بعد طحن حنطة البلاد؟ كان لزاما إذن التّقدّم للصفحة التّالية.
الطّبعة الأولى ٢٠٢٤
هل نحن أمام سعيد المتفائل حقّا. عرفنا المتشائم والمتشائل، في زمن لا نكاد نجد فيه من يقرأُ الكتبَ ويتأمّلُ فيها، أللهم إلّا بقيّةً باقية. مراجعةُ بسيطةُ تظهرُ طبعات متتالية لكتب سعيد نفاع مما يشير لاهتمام واسع بها.
الرّعاة للدّراسات والنّشر.
كم نحتاج لرُعاة حقيقيين. تذكّرت أحد الأمثال الّتي ترسّخت، وتعبّر عن سياسة ما “لا يموت الذّيب ولا يفنى الغنم” أو “إمشي الحيط الحيط وقول يا ألله السُّترة” و”إمشي مع الحيط الواقف”.
مقابل الرّعاة تقف كلمة “جسور ثقافية”، في زمن ارتفعت فيه الجدران وهُدمت الجسور.
تعلّمت من الأستاذ الياس عطاالله في حلقة دراسية للّغة العربيّة أنَّ قراءةَ مقدَّمةَ الكتابِ لها أهمّيّةٌ قصوى لفهمه، “لا تبدأ بالقراءة قبل أن تقرأ مقدّمة الكاتب”.
يأتي الإهداء المُطوّل، ليس لِشخص بعينه، بل لكثيرين من أصحاب المواقف الانسانيّة والأدبيّة والوطنيّة.
أقتبسُ منه لمن لم يقرأ بعد:
“الأوطان لا تُحبّ من أبنائِها إلّا الأحرارَ المحبّين بعضَهم بعضا. تذكرت مع هذه القراءة
“بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ».” (يو 13: 35). فأين نحن من هذا!
يبدأ الكاتب في التّمهيد بتوضيح نقطة تَهُمُّه لأنها تتكرّر في البدء وعلى الغلاف الخارجيّ منعًا لأيّ التباس، هي : “ضرورة الكتابة عن شريحة مميّزة من شرائح الشعب الّتي بمجموعها تشكّل المسيرة الكلّية”.
فالكتابة لا تنبع من دوافع انتماء فئويّة طائفيّة، بل من خلال رؤية الجزء كشريحة من الكلّ.
إنَّ المجموعاتِ الصّغيرةَ ذات المميّزاتِ الخاصّةَ جديرة بالكتابةِ لأنَّها لبِنة مميّزة بِظروفها وأحوالها، من اللّبنات الّتي تكوّن المجتمع عموما، ولها تأثير واسع يفوق بكثير الكمّ العدديّ، نظرا لأحوالٍ خاصة فرضتها الظّروف. عموما، أصبحت تفاصيل الأحداث، محطّ أنظار علماء التّاريخ وعلم الاجتماع لأَنّها تعكس بدقّة أحوالَ الشّعوب.
يقول الكاتب “وجد العرب الدّروز أنفسهم بين حجارة رحى غريبة وقريبة تحرّكها أيادٍ خارجيَّة وداخليّة، تطحن دون هواده”. فكان جوابُه على تساؤلي عن حجارة الرّحى في تمهيد الكتاب وفي الغلاف الخارجيّ.
يأتي الكتاب بشكل مقالات دراسيّة يسميها درامقاليّاتي، أي دراسة- مقال. لكنّي قرأتها ” دراما- أقلّيات”!
عندما نقرأ في الكتاب سنجد أنّ هذه المقالات، وإن لم تأت دراسَة تاريخيّة أو اجتماعيّة منظّمة زمنيّا، كما تأتي المقالاتُ الأكاديميّةُ عموما، إِلّا أنّها تتضمّنُ مشاهدَ كتابيّةً توثّقُ مرحلةً طويلةً من الزّمن عايَشها وعاشَها سعيد نفّاع. لم يكن فقط شاهد عيان لها من علياء برج عاجيّ، بل كان هو نفسُه جزءًا من الألوانِ الّتي رُسمت بها هذه المرحلةُ ووُسِمت به طرقاتُها الوعرة.
أحيانا كثيرة يأتي شِبه “صوت صارخ في البرّيّة”. وإن كان يغرّد خارج السّرب فهو ليس وحيدا.
لا تنس الفهرست قبل بداية القراءة
يشمل الكتاب ما يزيد على 300 صفحة بمقالات مُبوّبة نحو مداخل تاريخيّة، التّجنيد الإجباريّ والتّطوع، لجنة المتابعة وغياب التّمثيل الدرزي، القضايا الحياتيّة، الانتخابات، التّواصل عبر الحدود مع الإخوة، الأقلام التّحريضيّة وردود، وعن العمل الوطنيّ المبتور. يأتي التّقسيمُ حسب الثّيمةِ وليس تراكميّا مع الزّمن، فمن الضّروري النّظر، حيث يذيَّل المقال بتاريخ صدوره، لتمتدّ الأزمنة على مدى عشرات الّسنين.
كما توقّعت يصعب حصر هذه المقالات جميعا في ربع ساعة من الزّمن، فهي تشمل مواضيع لا يجوز المرورُ عليها مَُرّ الكرام، بل تحتاج لقراءة ومعرفة واسعة بالتّاريخ والجغرافيا والعقائد، والسّياسة المعلنة والخفيّة، وأيضا فهم المجتمع بمميّزاته ومفرداته.
ولٰكن المدهش برأيي المتواضع، أنّ سعيد نفّاع، وبشجاعة، يكتب عن المواضيع الّتي تبدو كالجمر المتّقد، تلمسُه يلسعُك، لا يتهرّبُ حتى من العقدِ المستعصيةِ.
وبين المقاطع الّتي تشملُ معلوماتٍ بالأرقامِ، وتفصيل للأحداث، تأتي مقولات تحثّ القارئ أن يتوقفَ للتّأّملِ العميقِ، عودةً لِلأديب، القاصّ والفيلسوف.
يكتب سعيد في زاوية الانتماء:
“أن تكون وطنيّا فلسطينيّا ولأنّك ابن لهذا الشّعب وقوميّا أو عروبيّا لأنك ابنٌ لهذه الأمّةِ، فهذا واجبُك، وانت لست بحاجة لإذنٍ من أحدٍ، اللهم إلّا من انتمائك وليس العرقيّ وإنّما الهموميّ”. (نص مذيل بسنة 2011).
ولكنّه يصلح لليوم أكثر وأكثر.
أعجبتني هذه ” الانتماء الهموميّ”، ونحن نلتقي كل أسبوع في الجامعة للبحث في مسألة الهويّة والانتماء، وكيف يعرّف كلّ شخص نفسَه، فالهمّ والغمّ الّذي يضرب في الأرض، يمكن أن يجمع غالبيّة الناس تحت مظلّة واحدة أو “إطار الهمغمة” المفروض على غالبيّة النّاس، بدون تمييز. فكيف إذا كان حمل الهمّ عمليّا يوميّا، وليس من منظور التّضامن الأدبي من بعيد!
وبدون تأخير يضع لنا مقالا في البداية عن “الدّروز وطوفان الأقصى والحراب الحديديّة”، حيث يستعرض بشكل خاصّ الطّريقة التي تتحدث بها الصّحافة الموجّهة عن الدروز وكأنّهم مجموعة واحدة مستعملين كلمات وتعابير تتردد وقت الأزمات من جديد، ولكن عندما تأتي الأبحاث الميدانية تحصل على صورة مختلفة، وتوضح أنّ المجموعة البشريّة لها آراء مختلفة لا تمتّ للوصف الإعلاميّ بصلة واضحة.
فمنذ البداية إذن، يظهر الكتاب بوضوح مدى التّقاطب polarization الّذي يحصل ضمن كلّ الشّرائح في المجتمع. هذا الّذي نراه اليوم يمزّق النّسيج البشريّ الّذي تكوّن مع عشرات السّنين، هذا التّقاطب الفكريّ الأيديولوجيّ، وما ينتجُه التّنافر من تأجيج المشاعر البشريّة.
من الدّراسة أظهِر 3 نقاط أساسيّة
١- ما تظهره وسائل التّواصل والصّحافة الموجَّهة أو الموجِّهة، لا يعبّر بالضّرورة عن الواقع، بل عن حلم wishful thinking، أو وجه واحد يراد استعراضه، وفرض أنّه الحقيقة الوحيدة. هذا الأمر يظهر اليوم في مختلف مجالات الحياة.
٢- بدون استعمال معطيات علميّة حقيقيّة لا يمكن تصوير المجتمع بشكل حقيقيّ. وهذا يظهر في عدد كبير من الأبحاث الّتي تظهِر خلاف ما يعتقَد، أو يعلَن عنه تقريبا في كل شأن يتناوله الكتاب. يبدو لي الأمر بديهيّا لأنّ النهج العلميّ الّذي اعتدتُ عليه يعتمد المعطياتِ الدراسيّةَ العلميّةَ، الوثائقَ الأوّليّةَ، ثم يأتي التَّحليل أو الرّؤية الشّخصيّة.
٣- الكاتب له موقف واضح من كل الأحداث الّتي يستعرضها، وهو معروف في كتاباته، ولكنّه لا يُخفي الرّأيَ الآخر أيضًا، بل يضعُه كما هو، ضمن مقالات كتبها آخرون، ولا يُخفي “ولا يمغمغ” انتقادَه للآراءِ المخالفةِ أو المختلفة.
يخصّص الكاتب صفحات عديدة لإعطاء لمحة تاريخيّة عن الدّروز، نشأتِهم وجذورِهم وبعضِ الأسسِ الإيمانيّةِ، ومراحلَ حضورِهم في فلسطين وعددِهم تاريخيّا، ومع استعراض وجودِهِم في عدد كبير من القرى والمدن، غير ما نعرفه اليوم. ربَما يكون هذا موضوع دراسة خاصّة، أين اختفى كل هؤلاء، وماذا جرى مع أهالي القرى العديدة، والكاتب يذكر لمحةً عابرةً، كيف “أقفرت من ساكنيها ولفّها الخراب” … يقول نفاع “وذهب المهاجِرون إلى حوران”. وفي هذه الزّاوية تركني بشوقٍ وتلهّفٍ لدراسةٍ أعمقَ.
النّبي شعيب حطين 52-57 .
يستعرض جوانب متعددة تتعلّق بعيد الفطر وعيد النّبي شعيب وما تضمّنته هذه الزّيارات، ثم يطرح مشاهدَ من العمل الثقافيّ من أدباء وشعراء من الطّائفة المعروفيّة، ومن الواضح أنّهم أكثر بكثير من نسبة الدّروز من السّكان، وهذه الحاجة للكتابة، أمر يجدر بالباحثين محاولة فهم دوافعه، فالأمر لا يأتي من الفراغ، بل هو تعبير عن ضرورةٍ تمليها الأحداثُ الضاغطةُ، فتحاول البيئةُ الثقافيةُ إعطاءَ إجاباتٍ من خلال الإبداعِ والقلم.
في الصفحات 45-48 مقال مترجم عن العبريّة يستعرض معطيات نقلًا عن دائرة الإحصاء المركزيّة، تعتمد الأرقام وأماكن السّكن، ونسبة الولادة، والقرى الّتي يعيش فيها الدروز.
يمكن أن نتعلّم من هذه الأرقام أمورا هامّة:
١-عدد الدروز حوالي 150 ألفًا، بزيادة عشرة أضعاف منذ 1948.
٢- من 19 بلدا يعيش فيها الدروز، 16 هي بلدان يعيش فيها الدّروز فقط، وهو أمر لافت للنظر.
٣- نسبة المولودين الجدد قليل نسبيا، تقلّ عن 1.6، وهي نسبة لا تكفي للحفاظ على كينونة المجموعة البشرية لعقود آتية.
٤-عدد المحتاجين للخدمات الاجتماعية أعلى بكثير من المعدل العامّ ، كما يكتب.
هذه أمور ضروريّة لتخطيط المستقبل، لأي مجموعة بشريّة، ومثيرة للقلق.
أما حجار الرّحى الّتي تحدث عنها فيمكن ان نستخلصها من مقالات وقفات على مفارقنا حيث يتحدّث عن تغير وجهات النّظر نحو الأعياد وكتابة التّاريخ، حسب سرديّة المنتصر، ص 49-51.
الباب الثاني، التّجنيد الإجباريّ منذ 1956 (ص 63 -84)
يتكلّم عن موضوع واحد هو التّجنيد والمواقف المختلفة منه. لا يخفى على أحد موقف سعيد من التّجنيد الّذي يرفضه من جذوره.
وتحت مظلّة هذا الشّأن، تدخل مواضيع عديدة وجوديّة تعبّر عن تناقض شديد بين العطاء والمقابل، مثل البطالة، مصادرة الأراضي، التّعليم، انعدام الخرائط الهيكلية، أزمة البناء وهدم البيوت والكهرباء، التّنظيمات والقوى المؤيّدة والمعارِضة، وشعور الانتماء عند الشّبيبة. وتعتمد بعض المعطيات على دراسات من جامعة حيفا نشرت بين 2009-2015.
من الضّروريّ أن تأتي دراسات جديدة بعد خمسة عشر عاما، تبدو وكأنَّها قرون من ناحية التطوّرات في المجتمع عموما في البلاد. والتّغيرات السّريعة لا تترك مجالا إلَّا للتّساؤلِ، وما هو الوضع اليوم! خصوصا بعد قانون القوميّة، وما آلت البلاد إليه من تقاطب سياسيّ واجتماعيّ، وأحداث لا بدّ أن يكون لها أثر على الواقع الحاليّ.
رغم مرور قرابة 70 عاما للتّجنيد الإجباري، إلّا أنّنا نقف اليوم في المجتمع العام بقوّة شديدة أمام هذه الإشكاليّة، بين فئات من المتديّنين الرّافضين لفكرة الخدمة، وبين من يربط بين الخدمة والحقوق، بين من يؤيّد وبين من يرفض مبدئيّا.
إنّ المشهدَ العجيبَ الحاليّ في البلادِ، يجمع بين من لا يخدم ويحصل على امتيازات كبيرة، وتمثيل كبير في الحكم، وبين من يخدم عشرات السّنين، ولا يكاد يحصل على شيء.
الباب الثالث لجنة المتابعة العليا وتغييب التّمثيل الدرزي (ص 85-122)
تطرح مجموعة من الرّسائل المفتوحة بين سعيد نفّاع بصفته رئيس ميثاق المعروفيّين الأحرار، تموز 2005.
كما يكتب “عن تفاقم أو تصاعد ظواهر العنف والاحتراب الدّاخلي وما لها من إسقاطات خطيرة على حاضرنا ومستقبلنا، وقانون التجنيد الإجباري والخدمة المدنيّة”.
لو لم أنتبه للتّاريخ لقلت إنّها كُتبت هذا الصّيف.
وما تبادر لذهني ما قال الملك سليمان في سفر الجامعة:
“ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ، وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ.” (جا 2: 11).
وتأتي في الرّسائل “لا يختلف اثنان أننا نعيش في مرحلة زمنية ظرفية استثنائية من حيث كونها مركبة التحديات” (اقتباس)، والمعوّقات الدّاخليّة والذّاتيّة ما تُشكّل عائقا جدّيا…تنظيم مؤتمر ضدّ ظواهر العنف والاحتراب الدّاخلي، ومؤتمر وطني ضد الخدمة العسكريّة الإجباريّة والتّطوعيّة، نرى ترابطًا وتداخُلا جدليا وعضويا”.
يُظهِر هذا الفّصلُ أولا هموما كبيرة تشمل العنف والتّشتت والخدمة الاجباريّة ولكنّها أيضا تعكس مدى التّفتت السّريع لكل منظومة عمل في الوسط العربي منذ ذلك الوقت.
وأتساءل
لا الهموم تغيّرت ولا نوعيّة معالجتها من ناحية عامّة، ولا الخطاب والتّعابير، رغم مرور عقدين من الزّمان.
هل تعلّمنا شيئا من التّاريخ؟ هل يأخذ جيل الشّباب مراكز القرار، أم تتبدّل فقط الشّخصيات بين الكراسِيِّ؟
وفي مناهج التّدريس حتى اليوم نسمع الوسط العربيّ والدّرزي والبدوي وغيرها من قبل المسؤولين عربا ويهودا.
الدّرُوز ومواجهة أنفسنا مقال د. أسعد غانم ص. 99-103
لو محونا تاريخه، نيسان 2011 ، قرأناه اليوم، ديسمبر 2025 ، نعتقد أنّه كُتب هذه اللّيلة.
أوجّه القارئ للمقال، لكي لا اختصر، فأعطب الأفكار.
يفصّل نفّاع كيفية تفتّت الأطر السّياسيّة، وتجذّر الفكر الطّائفيّ، ظاهرا أو خفيّا في اختيار القيادات، وإعطاء تركيبة الأصوات أهميّة الانتخابات لاعتباراتٍ طائفيةٍ أو مذهبيّة، بدل الاختيار الموضوعيّ. “وذلك على مستوى الأحزاب والهيئات الوطنيّة”.
يقول نفّاع “التَعدديةُ هي حالةُ حضاريّةُ وأثبتت التّجارب التّاريخيّة أنّها من أهمّ عوامل العصف الدّماغيّ تفتيشا عن أفضل السّبل لتحقيق الهدف الأسمى المشترك لأيّ مجموعة كانت”.
إن ما نشهده الآن على السّاحة، يجعل ما كان قبل 15 عاما ممّا يوثّقه الكتاب، عمل هواة في التّشتّت والانقسامات، مقارنة بما نشهده بعد كلّ هذه السّنين، وما كان بنظرة للخلف،كما يقال، promo أو في preload من لغة الموسيقا – هو بمثابة مقدّمة متواضعة لما نشهده الآن من تقاطب في كل مجالات الحياة.
الباب الرابع، كشكول قضايا حياتيّة، (ص 126-170).
هذا الباب يشبه اسم الفصل، إذ يتحدّث بإسهاب عن قضيّة الأرض، بيت جنّ الزّابود، والصّراعات الدّاخلية، مصادرة الأراضي التّواصل بين الدروز، وعمل السّلطة المتواصل لتفريق شرائح المجتمع إلى شظايا متناثرة بوسائل مختلفة.
لا يكتفي نفّاع بإبداء الرّأي وسرد الحقائق الّتي يقول إِنَّها أمرُّ من العلقم، ولكنّها حقائق، وهو يعود فيدعمُ آراءَه حول الانتماء والخدمة الاجباريّة بأبحاث علميّة نُشرت غالبا من جامعة حيفا، وهي تتحدّث عن فترةٍ تعود لعشرة أو عشرين عاما مضت، ولعلنا نحظى بأبحاث أكاديمية جديدة في الوسط العربي عموما.
اريد ان اقتبس من هذا الفصل جملة:
“لكن العروبة شيء والعروبيّة شيء آخر “العروبة هي الانتماء للعرب بيولوجيّا وبيئيّا، ولكنّ الانتماء إلى العرب يحتاج إلى ترميم مستمرّ وصيانة فاعلة لا تنقطع وهذه هي العروبيّة،” وهو يختصر كتابة البروفيسور ابراهيم طه، نُشرت حول موضوع الهويّة والانتماء.
ثم يقول
“إن المؤسسة الإسرائيلية دأبت وتدْأب على تغريبنا…”
ويفصّل كيفيّة “دقّ الأسافين وضربِ الوحدةِ الوطنيّةِ وخلعِها”، من خلال تقرير موسّع حول قضيّة الأرض، وضعف القوى الوطنيّة، ليس بسبب حجار الرّحى فقط، بل بسبب تفضيل العائليّة والفئويّة الحزبيّة والطائفيّة والمصلحة الذّاتيّة. وهذا يأتي من داخل الشّرائح المختلفة للمجتمع، وفيما بين هذه الشرائح.
يقدّم سعيد نفّاع نماذج تغطي مساحة الأعوام العشرين الأخيرة، ويسرد أحداثا تتعلّق بمصادرة الأراضي وخلافات شخصيّة تتحوّل بقدرة قادر إلى مشاكل كبيرة “تصبغ بصبغة طائفيّة” وهي ليست كذلك.
إنّ ترسيخ مسمّيات الطّائفة والوسط، العربيّ والدّرزيّ والمسيحيّ وغيره، في سلك التّعليم، يجعله وسط التّقسيم، أكثر من التّعليم. ومن المدهِش أن تأتي معطيات التّحصيل الدّراسيّ المنخفض في المدارس مقارنة مع شرائح المجتمع المختلفة، صادمة. بحسب تقرير مقتبس سنة 2007، فهو كارثة علميّة وثقافيّة، ما هو تحصيل اليوم؟ بحساب السّنين.
أعترف شخصيّا أنّ الجوّ الخاصّ الّذي أعيش في إطاره لا يذكّرني بهذه الصّورة القاتمة، ربّما لأنّي ألتقي بشكل متواصل بكتّاب وأدباء ونقّاد وأطبّاء وعلماء وشعراء وزجّالين وصحافيين وغيرهم من المتفوّقين، مما يعطي الانطباع الشّخصيّ أنّهم أكثر عددا وتأثيرا وتنوّعا ثقافيّا من المتوقّع بحسب القاعدة العدديّة لهم.
الباب الخامس يتحدّث عن الدروز والانتخابات البرلمانية، (ص 173-2013)
في حقبة 2006- 2019 ، أي قبل الدّوّامات والحوّامات الّتى ظهرت على سطح البحر الهائج.
يفصّل في السّلوكيات الانتخابية لتلك الفترة. ورغم التّفصيل الكبير، لا أجد مقارنة مع بقية الشّرائح العربيّة وغيرها، وهل فعلا يختلف البعض في تصرّفاتهم الانتخابيّة عن الآخرين، أم أنّنا “كلنا في الهوى” بالألف المقصورة سوا بالألف الممدودة؟
وما أودّ أن ألخّص به هذا الفصل هو تساؤل، هل نحن فعلا كبشر، أفرادا ومجموعات، أحرارٌ في اتّخاذ قراراتنا، أم أنّ حرّية النّظام البرلمانيّ الّذي يتيح للمواطن أن يشارِك في اللعبة الانتخابيّة هي حريّة وهميّة.
يتعرض الإنسان العصريّ لأسوأ أنواع المؤثرات الخارجيّة، في كل صغيرة وكبيرة، من اختيار نوع اللّبن الّذي تشربه، ونسبة دسم الحليب، مرورا بالدّعاية الّتي ترغمك على شراء ما لا تحتاجه، بمال لا تملكه، وصرف مال لم تتعب به، فتشتري نفس الماركات الّتي يسوّقها شخص مجهول، يقنعك أنّه يعرف مصلحتك ويهتمّ برفاهيّتك، أكثر منك. وهكذا تختار وتنتخب من ينوب عنك باتّخاذ قرارات مصيريّة، لتكتشف أنّ هذه القرارات تخدمُه هو فقط، من هو؟ لا تعرف، ثم تحاول المكابرة والمجابرة أنك أنت حرّ في خياراتك!
سؤال أتركه لكم فكلّ منكم حرّ أنْ يجيب أو لا يردّ على تساؤلي. Manipulation is the rule
الفصل السادس كلام في التّواصل (ص 229-249)
إنّ الواقع الّذي فُرض منذ 1948 وضَع حواجز وسياجات جعلت من قضية التّواصل بين أبناء المجموعة الواحدة أمرا شائكا. وهذا لا يمكن أن يكون هَمّ الدّروز وحدهم بل جميع الشَرائح البشريَة والدِّينِيَّة في البلاد.
هذا الفصل يتكلم عن محاولات التّواصل بين الدّروز الّذين يعيشون في البلاد، وبين إخوتهم عبر الحدود، وما يجري من خلط بين التّواصل الدّينيّ والرّوحيّ وبين السّياسة ورجالاتها فيفتح من جديد باب الألم، ودورة جديدة لحجار الرّحى.
وفي كل حال لا يمكن فهم الواقع اليوم والارتباط العميق أو عمق الارتباط بين الدّروز في كل مكان بسهولة، فالأمر على ما يبدو أعمق من التّضامن الدّينيّ فقط… هي دعوة للبحث أكثر وأكثر.
الفصل السابع بعنوان أقلام تحريضيّة وأخرى … وردود (ص 255- 283)
أتركه لكم لكي نحاول استيعاب هذا الخطاب بين مجموعات، يفترض أن لها انتماء مشترك ولكن لا أجدُ أحدًا يرحم الآخر.
الفصل الثامن مقالات (ص 285- 299)
يمكن أن يكون جمعا فطريّا لما جاء من فصول الكتاب، بصيغة مقالات تلخّص بطبيعتها كلّ المواضيع السّابقة بشكل أو بآخر.
لغة المكان
يستعرض سعيد نفاع أحداثا كثيرة تعكس فعاليّة حجر الرحى، وما يجمع بينها أمران: قاصّ ماهر، ووجع قلب القاريء.
لعل الوقفات على الأمثال العربيّة الكثيرة وشغفي بلهجتها العاميّة، جرعات دواء، تخرجني من متاهات الأحزان المستعصية:
الصّرارة بتسْند حيط، من عظم الرّقبه، الثلم الأعوج من الثور الكبير، بالمشبرح، لا في العير ولا في النّفير، من أول غزواته كسر عصاته، غبطنيّه، بكل عرس إله كبه وقرص، من ذيله واعمله شباق، يا وعد ابليس بالجنه، بيشتري سمك بالبحر، تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي…وغيرها الكثير.
ملخص
١- الجمع بين البحث العلميّ الاكاديميّ والتّوثيق الأمين، وكتابة تعبر عن رأي الكاتب.
٢- مجمل المشاكل المطروحة في جوهرها لم تتغيّر مع الزَمن، بلّ اتخذت شكلا أوسع وأشدّ وطأة.
٣- طريقة التّعامل معها على مستوى الجماعات والأحزاب لم يتغيّر في الجوهر، بل في الأسلوب، وتفاقمت أكثر مما حُلّت.
٤- التّقاطب الواسع وابتعاد وجهات النّظر تزداد مع انعكاس الوضع العامّ على الوضع الخاصّ للمجموعة البشريّة.
٥- آراء الكاتب تجاه المشاكل وعمق اهتمامه ثابت وواضح لا يرائي أحد، ورؤيته السّياسيّة أيضًا تبدو ثابتة من حيث جوهرها.
وكما يقول هو “يأخذ علَيّ البعض إنّي مشاكس أحمل دائما السّلّم بالعرض…”
وأختم باقتباس آخر “ولا يحاولنّ أحد التّبرير، فالتّبرير ألدّ أعداء الإصلاح”،
هي دعوة لحساب النّفس على المستوى الفرديّ والجماعيّ.
– نادي حيفا الثّقافي، 18.12.2025
haifacultureclub