صباح بشير: “أرملة من الجليل”، سيرة ذاتيّة تتحدّى النّسيان وتحتفي بالحياة

صباح بشير

“أرملة من الجليل”، سيرة ذاتيّة تتحدّى النّسيان وتحتفي بالحياة

 

عن دار يافا العلميّة الحديثة (2023) صدرت رواية السّيرة الذّاتية “أرملة من الجليل” للكاتب محمد بكريّة، وتقع في مئة وسبعٍ وثمانين صفحة، مقسّمة على خمسة فصول.

السيرة الذاتيّة هي مرآة عاكسة لحياة الفرد، ترسم صورة واقعيّة لحياته، بدءًا من الأفراح وانتهاءً بالأحزان، وهي بمثابة شهادة صادقة يقدّمها عن نفسه، يسجّل فيها ما مرّ به من تجارب وأحاسيس.

من الذّاكرة إلى السّرد، رحلة في أعماق الذّات والمجتمع:

ينسج هذا العمل خيطًا رفيعًا يربط بين الذّات والمجتمع والمكان، حيث تتقاطع الذّاكرة الفرديّة مع الذّاكرة الجماعيّة في لوحة متشابكة تشكّل صورة بانوراميّة للحياة.

يروي السّارد حكاية أسرته على خلفيّة تاريخيّة واجتماعيّة متغيّرة، فتتداخل الذّكريات مع الأحداث الّتي شهدها المجتمع، ليتحوّل النّصّ إلى سيرة تعكس روح الزّمان والمكان، وإلى رؤية شخصيّة عن المجتمع الّذي نشأ فيه الكاتب.

في هذا التّناغم، تتجلّى قوة الكلمة في قدرتها على ربط الأجيال وتوثيق الأحداث، وتتجلّى أيضا قدرة الأدب على تجاوز حدود الذّات الفرديّة، وتصوير تجارب وأحلام وآمال الجماعة، فهو نافذة تطلّ على عالم متشابك من العلاقات والتّأثيرات المتبادلة.

يستهلّ بكريّة نصّه بتأكيد قاطع على قوّة ذاكرته، مستبعدًا أيّ احتمال للنّسيان، خاصّة في ظلّ الأحداث الّتي مرّ بها، يعتبر الذّاكرة جزءًا لا يتجزّأ من هوّيته، ورابطًا حيّويًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، يستخدم تشبيهًا قويًّا ليوضّح هذه العّلاقة، فيشبّه الذّاكرة بالطّفل الّذي يتمسك بأمّه، والأمّ الّتي لا تتخلّى عن طفلها، مؤكّدا أنّ الذّاكرة ليست مجرّد مستودع للأحداث، بل هي رفيقة دائمة يستأنس بها ويستدعيها وقتما يشاء، سواء في اليقظة أو المنام، ويظهر ذلك واضحا في قوله: “أمسك بمعصمها وألوذُ بها إلى أيّ مكان” (ص 7).

هذا التّعبير المجازيّ يعكس مدى الألفة والتّقارب بين الكاتب وذاكرته، فهذه الفقرة الافتتاحيّة توضّح أهميّة الذّاكرة في حياته، ودورها في تشكيل هويّته وتوجيه مساره، فهي مستودع تجاربه، بها نحفظ قصص الأجداد، وهي الخيط الّذي يجمعنا بأحفادنا، وبوصلتنا الّتي تدلنا على الطّريق، ففي كلّ ذكرى نستعيدها ننقل قيمنا وتقاليدنا، ونزرع في نفوس الأجيال القادمة حبّ الأرض والانتماء إليها، نؤكّد على وجودنا وهويّتنا، ونبني جيلًا واعٍ بتاريخه وماضيه.

في هذا السياق، قرأ كلّ من محمود درويش وإدوارد سعيد واقعهما السياسيّ والإنسانيّ في مرآة الآخر، التقيا على أرضية الذّاكرة والتّاريخ، فبينما رسم درويش معاناة الإنسان في مواجهة واقعه، ناقش سعيد القضيّة بروح إنسانيّة، وقد أدرك كلّ منهما أنّ صراعنا مع الآخر ليس سوى حرب ذاكرة.

أمّا غسّان كنفاني، فجعل من الذّاكرة محورًا أساسيًا في أعماله، مؤكّدًا على دورها في مقاومة النّسيان والحفاظ على الهويّة، في حين اعتبرها سميح القاسم سلاحًا لمواجهة محاولات طمس الهويّة والتّاريخ.

أمّا مقولة الكاتب الرّاحل سلمان ناطور، فتختصر أهميّة الذاكرة الفلسطينيّة، وضرورة الحفاظ عليها؛ لمنع الغياب والتّغييب، حيث قال: “ستأكلنا الضّباع إن بقينا بلا ذاكرة”.

لم يتوانَ هؤلاء الأدباء عن استخدامها كوسيلة للتّعبير عن واقعنا، فكانت بالنّسبة لهم بمثابة الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، وبين الأجيال المتعاقبة.

ينتقل بنا الكاتب إلى طفولته مع والدته الأرملة وإخوته، فالنوستالجيا عنده ليست مجرّد ذكرى، بل هي حالة عاطفيّة عميقة ترافقه في كلّ خطوة، يستعرضُ تفاصيل بيت الطّفولة البسيط، حيث تجسّدت قيمة الأسرة في أبسط صورها، وساد الحبّ في كلّ ركن من أركانه، على الرّغم من آلام الفقد المبكّر، يسرد أحداثاً فارقة في حياته، ويصف المشاعر الّتي رافقتها، ويحلّل الدّروس الّتي تعلّمها منها.

 الخوف كموتيف أدبيّ، رحلة داخل النّفس:

يتجسّد الخوف كموتيف أدبيّ في هذا العمل بعدّة مستويات، فهو يظهر بوضوح في تجربة الأمّ بعد وفاة زوجها، حيث عاشت في قلق دائم من فقدان أبنائها أو تعرّضهم للأذى، خاصّة في ظلّ الظّروف الصّعبة الّتي عاشوها.

عكس هذا الخوف تأثير هذه الظّروف على نفسية الأفراد وتصرّفاتهم، كما سلّط الضّوء على قوّة الأم وقدرتها على التغلّب على مخاوفها من أجل حماية أبنائها وتوفير حياة كريمة لهم.

يكتب (ص 74): “الخوف أحيانا يثأر من نفسه، ومن شدّته يتحوّل إلى مخزون قوّة، فالخائف المتحوّل إلى قويّ، لا يلتفت إلى الخلف، ولا يحاول تقليب مواضع خوفه من جديد. هكذا نجحت أمي في ترويض مخاوفها حتّى زأرت كالأسد”.

كما لاحق الخوف السّارد كظلٍّ عنيدٍ، منذ بواكير حياته وحتّى بعد أن بلغ أشده. كان خوفه على والدته انعكاسا لمخاوفه العميقة، فبعد أن تيتّم بوفاة والده، عاش في رعب دائم من فقدانها هي الأخرى، وعندما غادرت الدّنيا، رحمها الله، تركت في نفسه جرحا لا يندمل.

لقد ظلّ شبح الخوف من فقدان أمه يلاحقه حتّى في أحلامه، كان يراوده كابوس مزعج، وصفه بالتّفصيل بين الصّفحات (56 الى 59).

ذلك الكابوس كان إشارة واضحة لخوفه من غيابها، فهي بالنّسبة له لم تكن مجرّد أم، بل كانت الوطن والأمان والحضن الدّافئ، تحمّلت كلّ الصّعاب وتعبت وضحّت؛ لأجل تربية أبنائها دون كلل.

يقول (ص 103): “ذات الكابوس لم يفارقني منذ طفولتي إلى أن بلغت رشدي، تساءلت، لماذا يتردّد عليّ هذا الكابوس في منامي من فترة إلى أخرى؟ فأدركت أن خوفا شديداً أصابني في صغري، وترك أثره عليّ إلى يومنا هذا، مع تراجع حدّة الخوف”.

في عالم الأدب وفي السّيرة الذاتيّة تحديدا، عندما يتحوّل الخوف إلى “موتيف” متكرّر، فإنّه يتجاوز كونه مجرّد شعور عابر؛ ليصبح نافذة نطلّ منها على أعماق شخصية الكاتب وتجربته الحياتيّة.

في هذا النّصّ، يتحوّل الخوف إلى خيط رفيع يربط بين مختلف مراحل حياة الكاتب، يكشف عن تحوّلاته وتطوّره، يستخدمه كأداة للتّنقيب في أعماق نفسه، لفهم دوافعه ومخاوفه وكشف أسرار شخصيّته، الّتي ربّما، لم يكن مدركا لها في مرحلة مبكّرة من حياته.

يبدأ السّرد منذ عام (1976م)، حين يصف استشهاد جابر الطحان في القرية، في منطقة “المراح” خلال أحداث يوم الأرض، حيث ملأ الصّراخ والنّحيب فراغ اللّيل الّذي تضوّعت منه رائحة الموت.

يصف خوفه قائلاً (ص 18): “كان الرّعب من الموت يعشعش فينا؛ لدرجة كنت وشقيقي محمود، نخاف الذّهاب إلى الحمّام الخارجيّ في ساعات المساء، حين يخيّم الظّلام على الحيّ والقرية”.

“كنّا نخاف من الموت، حتّى من الحديث عنه، أمّا ذكر اسم الميت فكان مبعثا للهلع والرّعب، فالحديث عن الموت كفيل أن يبقيَنا في حالة نفسيّة سيئة للغاية”.

يتابع السّارد حديثه عن الخوف بعينيّ طفل بريء، لا يشعر بالأمان بسبب الظّروف المحيطة به.

تتّضح آثار تلك التّجارب المؤلمة على روحه، لتغدو فكرة الموت شبحا يطارده في كلّ زاوية، يؤرّق منامه ويقضّ مضجعه، فلطالما ارتسمت في مخيّلته على جدران الغرفة حيث ينام، أشكال وظلال من الضّوء الخافت، تتراقص على الجدران والسّقف، وتتحوّل في خياله إلى أشباح تترصّده، فتزداد نبضات قلبه رعبا وهلعا.

يكتب أيضا (ص 19): “كنت أعزّز التصاقي بالوالدة، الّتي كانت تنام على فراشها بجانبي”.

أمّا الأمّ فكان خوفها على أولادها العشرة واضحا، يتعاظم مع تقدّمها في السّن، أصبحت تخشى الوحدة، وتناشد أبناءها ألا يتركوها وحيدة، فهم بالنّسبة لها الملاذ الوحيد في هذه الحياة.

تقول (ص 63): “يمّة خليك حدي”.

يقول بكريّه (ص 63): “اعتقدنا أنّ خوفها مصطنع، لاحقاً أدركنا أنّ هذا الخوف حقيقيّ، يشعر به كبار السّنّ في خريف أيّامهم، حيث تسيطر عليهم فكرة الفراق والموت، الخوف في هذه المرحلة معروف وغير مبتذل”.

يكتب: “ما أبسط أمنيات العجائز، كأمنيات الأطفال طاهرة نقيّة، فهي لم تبغ شيئا من الدّنيا سوى منحها شعوراً بأنّها عنصر هامّ في هذا المحيط” (ص 51).

يقول أيضا: “كنت أظنّ أنّ المرض الجسديّ، هو أصعب ما يبتلى به الإنسان، لكنّني أنكر ذلك الآن، بعد التّجربة المرّة الّتي عاشتها أمّي مع الخوف، الخوف من الغامض، الخوف من الموت، الخوف من الوحدة، الخوف من أمر نجهله” (ص 46).

أمّا آثار التربيّة الخاطئة الّتي تعرّض لها الكاتب في طفولته؛ فظلت تلاحقه تاركة أثرا عميقا على نفسيّته، يكتب (ص 106):

“أعلم أنّ الوالدة لم تقصد ترهيبي ولا تعذيبي، فوالدتي كانت أميّةً لا تفقه أيّ شيء في علم النّفس وأساليب التربيّة الحديثة، لهذا جهلت تبعات تهديدها لي باختلاق الحكايات المخيفة، على سبيل المثال: “روح نام قبل ما يجيك أبو وجه مسلوخ” أو “أسكت قبل ما يجينا خطّاف الأطفال”.

“حينها أندسّ في فراشي، وأطمر وجهي بالغطاء، وأنا ألهث من الخوف”. (ص 107).

على صعيد الأحداث العامّة الّتي سادت، يصف الكاتب (ص 27) كيف شهدت قرى عرّابة وسخنين ودير حنّا، أيّاما عصيبة، حيث كانت المواجهات تتكرّر وتخلّف وراءها الشّهداء والمسيرات الحاشدة، الّتي تنطلق وتهتف بالشّعارات الوطنيّة، لتؤكّد على أنّ الارض موطن ووطن، هويّة وكيان.

كان مصطفى، شقيق الكاتب، قلبا ثائرا ينبض بحماس الشّباب المتمرّد، وكان عليّ شقيقه الآخر، عمود المنزل ورفيق والدته في تحمّل أعباء الحياة بعد رحيل الأب عام ثمانية وستين، حاولت العائلة الاعتماد على الزراعة لتوفير لقمة العيش، لكن حادثة تدمير المحاصيل ألقت بظلالها الكئيبة على حياتهم، وزادت من معاناتهم. تلك الحادثة أثرّت في طفله الدّاخليّ وزادت من خوفه، خاصّة حين سمع صراخ أهل البيت يتعالى في فضاء الحي.

يكتب (ص 35): “كان ردّي الطّبيعيّ أن التقطت طرف جلباب الوالدة، تمسكّت بساقها وانفجرت باكيا، خوفا لا حزنا، بكاء المذعور الّذي يشعر أن زلزالا قادما لا محالة، وفرص النّجاة معدومة”.

هناك حزنٌ يتسرّب من بين السّطور، يغمر القارئ بحنينٍ مؤرّقٍ، كنسيمٍ يحمل عبق ذكرياتٍ أليمة، واشتياقٍ إلى زمن مضى، وأرواح غابت، تتردّد سيرتها بين ثنايا السّطور؛ كأنينٍ مكتومٍ.

 أسلوب الكاتب، والتّأثير الفنّيّ:

يتّبع الكاتب أسلوبًا انفعاليًّا يشدّ القارئ، محدثًا فيه تأثيرات عميقة ومستمرّة؛ ليعكس حالة من التّساؤل والبحث عن الحقيقة، موظّفا أسلوب السّرد الدّاخليّ للكشف عن أفكاره ومشاعره بوضوح.

أمّا اللّغة، فاستُخدمت كأداة تجمع الواقع بالماضي والحاضر، والحزن والفرح، التقى الكاتب من خلالها بطفله الدّاخليّ الّذي كان، وبأحلامه الّتي راودته، ومشاعره الّتي أحسّ بها، وكأنّها حبلاً يمتدّ عبر الزّمن، يربط بين مختلف أطوار حياته، ويصالحه مع ذاته.

كانت نسيجًا من العمق والمعنى، حيث نسجت الكلمات الإيحائيّة خيوطًا من الدّلالات الفلسفيّة؛ لتدفع بالقارئ إلى رحلة تأمليّة في أعماق النّصّ، الّذي تنوّعت فيه المشاعر، لتلامس أعماق النّفس البشريّة، فمن الحيّرة والقلق، إلى الصّبر والأمل، إلى البحث عن الذّات والتّصالح مع الحياة.

  التّصنيف الأدبيّ:

الرّواية والسّيرة الذاتيّة هما نوعان أدبيّان لهما خصائص متميّزة، لكنّهما يتقاطعان في بعض الأحيان، ممّا يثير التّساؤلات حول تصنيف الأعمال الأدبيّة الّتي تجمع بينهما.

الرّواية هي شكل أدبيّ سرديّ يتضمّن أحداثًا وشخصيّات خياليّة، وهي مفتوحة على التّأويل والتّفسير، والكاتب في الرّواية يتمتّع بقدر كبير من الحريّة في صياغة الأحداث والشّخوص وتطوير الحبكة.

أمّا السّيرة الذاتيّة فهي تحكي قصّة حياة شخص حقيقيّ، ولكن باستخدام تقنيّات سرديّة روائيّة مثل الوصف، الحوار، الفلاش باك، والرّمزيّة، وغيرها، وذلك لتقديم سردٍ جذّابٍ ومثيرٍ للاهتمام لحياة الشّخص، مع التّركيز على الجوانب الإنسانيّة والنّفسيّة.

هي شكل أدبيّ يجمع بين سحر السّرد وعمق السّيرة، وتمثّل تحدّيًا مثيرًا للنّقاد والكتاب على حدّ سواء.

لقد عرّفها “فيليب لوجون” على أنّها استعادة نثريّة يقوم بها شخص يحكي عن نفسه وواقعه وحياته.

إذن، فالرّواية تعتمد على الخيال، بينما السّيرة ترتكز على وقائع حقيقيّة، حتّى وإن خضعت لعمليات سرديّة وتجميليّة، وكاتب الرّواية يتمتّع بحريّة أكبر في تشكيل الأحداث والشخصيّات، بينما كاتب السّيرة مقيّد بحدود الواقع والحقيقة.

أرى أنّ تصنيف عمل “أرملة من الجليل” كسيرة ذاتيّة، لا رواية، هو التّصنيف الأنسب، الّذي كان يجب وضعه على الغلاف؛ وذلك لارتباطه الوثيق بوقائع حياة الكاتب وتجربته الشخصيّة الحقيقيّة، على الرّغم من العناصر السرديّة المتوفّرة فيه، وعلى الرّغم من وجود بعض السّرد الغيريّ المتعلّق بالأمّ، لكن.. يبقى هذا التّصنيف، هو الأدقّ والأكثر ملائمة للنّصّ.

 الذّكريات والزّمن، ورحلة السّرد:

في هذا العمل، يمتدّ السّرد منذ عام (1976م) وحتّى اليوم، وهذا يعني أنّنا أمام رحلة زمنيّة طويلة، شهد فيها المجتمع تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة جذريّة، ليغدو الزّمن أداة للتأمّل في تلك التغيّرات العميقة، وتأثيراتها على حياة النّاس.

على مستوى الجغرافيا المتغيّرة، يذكر السّرد أماكن مختلفة، يرصد من خلالها أثر الزّمان وتأثير الأحداث عليها، كما يواكب أجيالًا متعاقبة، لكلّ منها تجربتها الخاصّة، ما يبرز التنوّع والتباين في الرّؤى والتطلّعات، في ظلّ الظّروف المتغيّرة.

يغوص بكريّة في أعماق ذاكرته، لاستعادة الماضي وصياغة سلسلة متماسكة من المشاهد الحيّة، الّتي تسودها الألفة والأجواء الدّافئة، فيذكّرنا بالأرض الخصبة، وبأجدادنا وهم يكدحون في حقولهم، يحصدون ثمار تعبهم بوجوه مشرقة، ليبعث فينا الحنين إلى زمنٍ بسيطٍ مضى، كان فيه الحبّ أصدق، والعلاقات أعمق.

تحتفي الصّفحات (69- 73) بقدوم تشرين، موسم زراعة أشتال الدخان والبندورة في البستان الواسع أمام البيت.

كان هذا الموسم مناسبة لتكاتف العائلة، فكبارها وصغارها يشاركون في فلاحة الأرض، متّحدين في سبيل تحقيق هدف واحد.

أمّا شعور الفقد فقد ظلّ يلازم الكاتب، فكلما شاهد أبًا وابنه معًا، أحسّ بحنين عميق إلى حضن أبيه، كانت تلك اللّحظات مؤلمة ومحرجة في آن واحد، فيشعر وكأنّه غريب في عالمه الخاصّ.

في شيخوختها، كانت الأمّ تجد سعادتها في قضاء الوقت مع ابنائها، تستعيد ذكريات الماضي المرير، الّذي سطّرت فيه بطولات الأرملة الوفيّة المكافحة.

كانت متعتها أن تحكي قصصًا ترويها بفخر المنتصر على الدّنيا وقسوتها، في ظروف بدا فيها النّجاح مستحيلاً، والفشل يتربّص بها كذئب مفترس.

 الأرملة، تجسّد قوّة المرأة الفلسطينيّة وصمودها:

يروي الكاتب حادثة الجنديّ الذي طردته أمّه من أمام بيتها بصلابة وشجاعة، ويتساءل (ص78): “هل كانت أمّي قويّة بطبعها؟ أم أنّ الظّروف العصيبة هي من خلقت فيها تلك القوّة؟”.

“سألت نفسي: كيف لامرأة شابّة جميلة، كانت تعيش حياة مريحة وآمنة لدى أبويها أن تمتاز بهذه القوّة؟”.

الحديث عن أرملة كالكثير من أرامل بلادنا، وَجدَت نفسها ترعى الأيتام دون معيل، إنّه صراع البقاء تماما كما جاء في مسرحية شكسبير مع اختلاف السّياقين “إمّا أن تكون أو لا تكون”.

إنّ قصّة هذه الأرملة، هي قصّة صراع من أجل البقاء، قصّة تظهر مدى قوّة المرأة الفلسطينيّة وقدرتها على التكيّف مع أصعب الظّروف، فتاريخنا حافل بقصص نساء صُنعن من صلابة الصّخر، وقوّة الإيمان، قاومن بكلّ ما أوتين من قوّة، وحافظن على هويّتهن وعروبتهن.

يقول بكريّة: هذه هي الورود الّتي أحبّها حدّ الثمّالة، أليست شبيهة بأرامل بلادي؟ الصّابرات، المحصّنات، العفيفات، المؤمنات، الرّاضيات، الطّاهرات، التّقيّات؟ النّقيّات؟ أليست شبيهةً بأمّي؟ (ص 164).

 الوجوديّة، وفلسفة الحياة والموت:

يتبنّى هذا العمل “الوجوديّة” في تأكيده على فرديّة التّجربة الإنسانيّة، وعلى أهميّة القلق الوجوديّ في تشكيل هويّة الفرد، يطرح الأسئلة الجوهريّة حول معنى الحياة والموت والحريّة والذّات الإنسانيّة، يدعو المتلقّي إلى التوقّف والتأمّل في الأسئلة الكبرى الّتي شغلت البشريّة منذ الأزل، وإلى إعادة اكتشاف ذاته والعالم من حوله بعين جديدة، يصوّر صراع الإنسان الدّائم مع الحياة، مركّزا على شخصية الأمّ، وكفاحها من أجل إيجاد معنى لحياتها في عالم مليء بالتحدّيات.

يقول الكاتب عن الموت (ص 64 -65): “كم استنزف تفكيري كي أعرف مكنوناته وخباياه، كم بحثت في النّصوص الدّينيّة وقرأت فصولا كثيرة في فلسفة الحياة والموت، لأعرف ماذا يخبئ لبني البشر، هل الموت يعني حياة أخرى لا نعرفها؟ لِمَ نلهثُ خلف حياة فانية؟ ولِمَ يجب أن نعمّر البلاد ونظلم العباد؟ لِمَ الحروب؟ ولِمَ خلقنا الله؟ استغفر الله، وماذا بعد الحياة؟ هل الموت موحش؟ هل الموت تبديل عوالم؟ أم فناء وهباء أبدي؟”.

هذه الأسئلة الفلسفيّة الّتي كانت تحطّ رحالها في مخيّلة الكاتب ووجدان، هي جوهر الأدب الكفكاوي، فهي تتناول صراع الحياة؛ لمحاولة فهم سيرورة هذا العالم، الّذي يشغل الموت فيه حيزًّا كبيرًا.

كما اتّسم النّصّ بالتأمّل العميق للأفكار المجرّدة والمعقّدة المتعلّقة بالحياة والموت والمعنى من الوجود، ويبدو أنّ الكاتب قد استغرق تمامًا في عالم كافكا الأدبيّ، حيث تتردّد أصداء أفكاره في تساؤلاته الوجوديّة، ليعبّر عن حيرته وقلقه إزاء هذه الأسئلة الكونيّة، وغموض الحياة.

كما استخدم أيضا التّداعي الذهنيّ؛ لوصف تجربة الوعي الذاتيّ والقلق الوجوديّ، وذلك لخلق عالم سرديّ كثيف ومثير للتّفكير، تتداخل فيه الذّكريات وتتصارع مع مشاعر الخوف والقلق، الّتي رافقت مسيرته نحو النّمو الوجدانيّ، ومراحل تطوّره الفكريّ، والوعي بالذّات، وبالحياة والموت.

 فلسفة الكاتب الشخصيّة:

يكشف الكاتب عن فلسفته الخاصّة ونظرته إلى الحياة، يستخدم الماضي كمرآةٍ يعكس فيها الحاضر، يدعونا إلى التعمّق في أنفسنا، واكتشاف كنوزنا الدّاخليّة. ركز على أهمية الإحساس باللّحظة والاستمتاع بالتّفاصيل الصّغيرة، الّتي نغفل عنها عادة أثناء سعينا وراء الحياة.

قدّم رؤيته عن السّعادة مستندًا إلى تجاربه الحياتيّة، مؤكّدًا إيّاها بأمثلة عمليّة؛ كانسجامه مع أسرته، وهم يعتنون بشجر البرتقال، وبفرحتهم بالمكافأة وبدرّاجة ثلاثية العجلات، وصولًا إلى فرحة العيد الّتي كانت تزداد بهجة باقتناء الذبيحة.

يقول (ص 83): “لمّا قطعت مشوارا من عمري، وصرت متمكّنا بقدر ما من فلسفة المواقف والتصرّفات، أدركت أنّ السّعادة تكمن في تفاصيل الأيّام والزّمان، وهي ليست مرحلة ثابتة في مكان ما، أو مرحلة معيّنة من الزّمن، لأنّها تأتيك مصادفة دون استئذان، أو إخطار مسبق، وأقول ذلك ليس من باب إغداق المعلومة، أو استعراض قدرة فلسفيّة، بل لأنّ التجربة الذاتيّة أبلجت مقولتي هذه”.

هذه الأحداث الصّغيرة، رسمت لوحة زاهية للفرح في نفوسهم، وأكّدت أنّ السّعادة ليست هدفًا بعيدًا، بل لحظات صغيرة ومتفرّقة تنتشر في تفاصيل الحياة اليوميّة.

هذه الفلسفة تشجّع على تبنّي منظور إيجابيّ للحياة، وتركّز على الأشياء الجيّدة الّتي تحدث معنا، تحثّنا على تقبّل الواقع، والتكيّف مع الظّروف والتغيّرات الّتي تحدث معنا.

 التوثيق الأدبي: مرآة الأجيال وإلهام المستقبل

يُجسّد التّوثيق عبر الأدب وكتابة السِّيَر الذاتية أو الغيريّة، مرآةً تعكس تجارب الأفراد وإنجازاتهم، وتُلهم الأجيال القادمة للسّير على خطاهم، ففي طيّات السّرد الأدبيّ وسطور السِّيَر، تتجلّى قيمٌ نبيلة ومبادئ سامية، تُشكّل نبراسًا يهتدي به الشّباب في مسيرتهم نحو تحقيق الذّات والمساهمة في بناء مجتمع أفضل.

إنّ قراءة سيرة ذاتيّة لشخصية ملهمة، أو التعمّق في عمل أدبيّ يوثّق حقبة زمنيّة معيّنة، يُتيح لنا فرصةً للتعلّم من تجارب الآخرين، واكتشاف دروب النّجاح والتغلّب على التحدّيات، وعندما نُسجّل سِيَرنا الذّاتية، أو نكتب عن حياة الآخرين، فإننا نُساهم في حفظ ذاكرة الأمّة، ونُخلّد قصصًا تستحقّ أن تُروى، لتكون مصدر إلهام للأجيال القادمة، وتحفّزهم على تحقيق أحلامهم وطموحاتهم.

 ملاحظة أخيرة:

اختتم حديثي بالإشارة إلى نقطة أخيرة تستحقّ الذّكر، وهي أنّني لاحظت وجود عدد من الأخطاء المطبعيّة في الصّفحات، الّتي كان من الممكن تفاديها بمراجعة العمل قبل الطباعة.

آمل من الكاتب أن يتدارك هذه الأخطاء إن قرّر إصدار طبعة جديدة من هذا العمل.

 

  • ورقة مقدّمة لنادي حيفا الثّقافي بتاريخ: (22.08.2024)

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *