سلمى جبران: قلادة ياسمين لعامر سلطان

سلمى جبران

قلادة ياسمين لعامر سلطان

عودة قِلادة ياسمين وكابوس “الانتداب” البريطاني

قلادة ياسمين رواية تُرِاوِحُ بين المأساة والملهاة / بين التراجيديا والكوميديا فتولد بها وفيها دراما مزوّدة بكاميرا تكشف عدستُها عُمْقَ أعماق الشرّ المتراكم في كيان الاستعمار البريطاني، وتخترق كلَّ العصور والمساحات التي امتدَّ عليها لتُجرِّدهُ من كلّ ذرّة إنسانيّة تائهة قد تكون مرَّتْ بهِ سهوًا.

تبدأ الرواية بالانتحار المتوارَث في عائلة الشاب الإنجليزي جورج حيثُ قضى حياتَهُ باحثًا عن جذورِهِ وعندما وَجَدَها سبقَتْه السلطات البريطانيَّة إلى قطع هذه الجذور وسجنِهِ وقتلِهِ مدَّعيةً أنّهُ انتحَرَ كأسلافِهِ، وجسَّدَ فِعْلُها هذا عُصارةَ الشرّ التي تجري في العروق التاريخيّة للمُستَعمِر الإنجليزي!

يبدو هذا الحدَث اجتماعيًّا مُتكرِّرًا ولكنَّ الرواية تجلّت في حبكةٍ مثيرة بدأت في محاولة جورج التخلُّص من الكوابيس التي كانت تهاجمُهُ كلَّ ليلة وتمنعُهُ من النوم الهادئ المُريح. جورج خضع لهذه الكوابيس معتبرًا إياها إرثَهُ من العائلة، حيث أدَّتْ إلى انتحار جدّتِهِ وأمِّهِ واعتبَرَ ذلك مصيرًا حتميًّا لعائلتِهِ! هذه الكوابيس هاجمت الجيل الثالث/ جورج ووقعت اللعنة عليهم ولم تهاجمْ المجرم الأصلي الأوّل!

وعلى ضوء هذا الوضع والمعاناة من الكوابيس بدَأَ جورج يفكِّر مليًّا ويحاول أن يكتشف مسبِّباتِها في بيتهم، بيت أبيه وجدّه المليء بالتحف والمدّخرات والزخارف الشرقيّة. بدأ جورج يتساءل من أين جاءت هذه الممتلكات إذ كان جدّه جنديًّا يخدم الاستعمار الإنجليزي في فلسطين، في حين أنّ جورج كان قد قرأ عن فظائع الانجليز وبطشِهِم في هذه البلاد.

غلب على جورج الاعتقاد بأن هذه الممتلكات أو جزءً منها تجلب اللعنة عليه وتسبّب هذه الكوابيس، خاصّة وأنّ طبيب جورج، برنارد، تابع علاجَهُ ولم يصل إلى شفائِهِ واستمرّ يعاني من الكوابيس التي تهاجمُهُ في الليل وفي النهار الملل والوِحدة والقلق والخوف. ص15وِحدة: انعزال وَحدة: اتحاد واعتقد بأنّ القلادة الذهبيّة المكتوب عليها اسم ياسمين هي مصدر اللعنة. ص20-21 لمسّت صديقتُهُ باولا حالتَهُ جيّدًا وتعاونت مع طبيبِهِ وحاولت شفاءَهُ بعاطفتِها ولكنَّها أحيانًا عندما تعانِقُهٌ تشعرُ أنّها تعانق جثّةً بلا روح.

في مسعاه للعثور على صاحبة القلادة، فكّر بكلّ الطرُق دون نتيجة. وظلَّ هكذا حتّى دَفَعَهُ إيمانُهُ بالمسيح إلى الحجّ إلى الأراضي المقدَّسة وزيارة بيت لحْم والقدس… وهناك استنشَقَ عبَقَ الآثار التي تَنطِقُ (طِ) بتاريخ المكان وسمِعَ منَ الطرَفَيْن قصّةَ القاهر والمقهور والظالِم والمظلوم والمُضطَهِد والمُضطَهَد، فكانَ الكلام الذي سَمِعَهُ مطابَقةً عكسيّة لوَجْهيِّ المكانِ الواحِد ومسرحيّة ساخِرة تعبّثُ بالواقِع. حاول جورج الاستعانة بالشيخ والكاهن والكنيسة ولم يصل إلى نتيجة، وبدأ يظنّ أنّ تلك هي “لعنةٌ” حلَّتْ على عائلتِهِ واستمرَّ في محاولة التخلُّص منها عن طريق الخُرافات (بالضمّ فقط) ولم تُجدِ نفعًا لأنَّ اللعنةَ نفسَها كانت خُرافة.

التقى جورج قاسِم وبِلال والدكتور جمال وعرَفَ كُلَّ صغيرةٍ وكبيرة عن الوضع مؤكِّدًا ما رآهُ، ومن الجِهةِ المُعاكِسة سمِعَ طرْحًا مُعاكِسًا حتّى أنَّ موظّفةَ المطار حاوَلَتْ إقناعَهُ بعدم جدوى المُخاطَرة في الوصول إلى بيتَ لحْمْ!

فانتَقَلَ جورج من منطقة احتقار الأغيار إلى منطقة إكرامِهِم ومشاركَتِهِم كلَّ ما هوَ إنسانيّ، من منطقة المُسمَّيات المُزوَّرة إلى منطقة حجارة البيوت التي تحكي عن الأسماء والتاريخ والحقّ! فكانَ سرْدُ قصصِ الأمكِنة مُنقِذًا لجورج وباعثًا فيهِ الأمَلَ في الخلاص مدفوعًا للإبحار في ذاتِهِ وفي تاريخِهِ وتاريخِ بَلَدِهِ ولم يبقَ سطحيًّا يقرأ الأسماء الغريبة التي تحاوِلُ تمَلُّكَ المكان! وتعلَّمَ من قاسم أنَّ “النفْسَ بحرُ صاحِبِها” ص37 فهناك من يعرفُ الإبحار وهناكَ مَنْ ينتظِرُ الإعلانَ عن موْتِهِ!

سمِعَ جورج من سائق مطار اللد عن تبّعيّة الأمكنة ومن بِلال سائق بيتَ لَحْمْ عن جمالِ القدس وبيت لحم وتغنّى بهما.

ورأى جورج “بأُم العين كيف تنهارُ البشريّة هنا أمامَ مشهدٍ يسيلُ فيهِ دمُ طفلٍ على مَهَل دونَ السماح حتّى لإنقاذِ حياتِهِ!” ص54

  تأكّد جورج من أصل القلادة من عدة مصادر: من مرجريت صديقة جدّتِهِ ومن مذكَّرات جدِّهِ وفيما بعد من أرشيفات الدولة البريطانيّة وهذا إيحاء بارز على أنّ القلادة رمزٌ للحقّ. ص74 وبَحَثَ الدكتور جمال عن صاحبةِ القلادة سائلًا كلَّ مَنْ لها صلةٌ بالموضوع ووصل حتّى إلى عائلات الجمعيّات النسائيّة.

ما يُميِّز الرحلة الاستكشافية التي قام بها جورج أنّها كانت رحلة خارج بلادِهِ إلى الشرق ورحلة إلى داخل ذاتِهِ إلى أعماق نفسِهِ جَعَلَتْهُ يُدرِكُ ما لم يدْرِكْهُ جيلُ جدَّتِهِ وجيلُ والدتِهِ. وهذه فكرة كونيّة طرحتها الرواية لعلّنا نجد ومضات من النور في هذا الظلام الحالك الذي نعيشه.

أمّا الرحلة إلى حيفا وعكّا في الفصل العاشر فكانَ فيها دمْجٌ الأزمنة والأمكنة وذكر فيها فؤاد نقّارة وكان فيها الكثير من الشرح بإسهاب عن واقِعِنا اليوم ممّا جعلَ الرواية متكاملة.

ص227، تزوَّجَتْ باولا من جورج وحَمَلَتْ، وعندما بحثَتْ عن عائلتِهِ، عائلة جنينِها، بعْدَ مَوْتِهِ قال الراوي: ” بذرة الخير التي كان يحملُها جورج لا بدَّ أنّها أصابت غيرَهُ من عائلتِهِ” ولكنْ لا أثَرَ لأيِّ فّرْدٍ من عائلته. أظنُّ أنَّ الشرح والتحليل عن جورج يُغطّي على وضوح حقيقة ورمزيّة وجودِهِ وعلى حقيقة انقراض عائلتِهِ والوِحدة القاتِلة التي عاشَها.

فشخصيّة جورج وشخصيّة باولا اللتان تبحثان عن أصحاب الحقّ جعلتا أصحاب الحقّ هم هم أبطالُ الرواية.

أحيانًا تظهرُ في الرواية محاولاتٌ لإثبات الحقّ، أعتقد أنَّ هذه المُحاولات زائدة لأنّ الأحداثَ والمشاهدَ لوحدِها تكفي لذلك وكان من الأعمق روائيًّا أن تُقتضَبَ هذه الشروحات حيثُ إنّ الرواية جامعة بامتياز وأحداثُها بكل بساطة وأصالة توحي بحقّ أصحاب البلاد الأصليّين! وعندما وجَدَ جورج ياسمين حفيدة صاحبة القلادة وقدَّمَها لها تفجَّرَ غضبُها على جنود الإنجليز أمامه وتأثَّرَ كثيرًا وعندما عاد إلى سلطاتِ بلادِه وأرادوا تعويضَها عمّا جرى بالمال رفضت رفضًا قاطعًا وقالت: لستُ وحدي من تضرَّرَ لقد أضاعونا واضاعوا البلاد، هذه ليست قضيّة تعويض فرديّة، هذه قضيّة شعْب/ قضيّة وطن! ص217: “حسبي أنّك تحملُ على كاهِلِكَ عِبءَ أخطاء دولتِكَ وتعترِفُ بذلك” انتهي الاقتباس.  إنَّ الخوْض في الحقائق التاريخيّة بتوَسُّع يغطّي على الأحداث التي سَرَدَها الناس والتي تشعُّ صِدْقًا وتحكي الحكاية!

وفي هذه الرواية حضرني جبران: “طوبى لمن يكون زهرةً مسحوقة وليس قدمًا ساحقة!”

المثير في هذه الرواية أنّها تحمل رموزًا ودلالاتٍ لا حدَّ لها تتكشّفُ في كلّ تفصيل من تفاصيلِها.

وأخيرًا، كما الإنجليز في احتلالهم لفلسطين والذي سمَّوْهُ انتدابًا فإنَّ الألمان في غرب أفريقيا-الهولنديون في إندونيسيا-والفرنسيون في الجزائر، استعمروا واضطهدوا وحاولوا تجميلَ الظلم والنهب وسلْب الشعوب حَقَّها والتغطية على المجازر التي ارتكبتها هذه الاستعمارات!

والتفاؤل الذي ينبعِثُ من الرّواية يوحي لي بالسؤال: هل نشهد جورجًا آخر في أنظمة أخرى يسعى إلى التكفير عن جرائمها وإعادة القلادة إلى ياسمين صاحبتها؟!!

مباركةٌ هذه الرواية وكلّ التهاني والتّقدير للرّوائي عامر سُلطان.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *