سلمى جبران: قراءة في “الأنا الشاعرة الأُنثى في شعر نزار قبّاني” للدكتور نسيم الأسدي

سلمى جبران

قراءة في “الأنا الشاعرة الأُنثى في شعر نزار قبّاني” للدكتور نسيم الأسدي

 

 

 

أبارك للشاعر والباحث د. نسيم أسدي بهذه الدراسة الأكاديميّة الجادّة والمتعمّقة والتي بحثَتْ شعر نزار قبّاني الذي يتكلّم باسم المرأة، وتطرّقت إلى توجّه قبّاني للمرأة وللحب وللحرّيّة.

قرأت الدراسة قراءة تفاعليّة كعاشقة لشعر نزار قبّاني وليس من منطلق النقد الأدبي أو الأكاديمي، وقراءتي تعبّر عن رأيي في قضايا وطروحات حول الشعر والأدب بحثها المؤلّف بشكل وافٍ وبموضوعيّة أكاديميّة عالية.

كقارئة تتذوّق وتكتب الشعر أرى أنّ الكتابة أو الدراسة عن شعر نزار قبّاني تكمن فيها تحدّيات كبيرة أبعد من اللغة والتعابير والأفكار الثوريّة والموسيقا. الابتكار وطواعية اللغة عند نزار قبّاني أوجدت له لغةً خاصّة به ووطنًا لَهُ وحدَهُ تمتزج تلقائيّتُه فيها مع الحبّ والحريّة في جوٍّ خاصّ به. دائمًا كنتُ ألجأُ إلى هذا الوطن عندما أحزن على فقدان الحرّيّة كإبنة لهذا المجتمع وكمرأة. جُرأة نزار قبّاني لا تقترب من الفظاظة ولا تنقُصُها حِكمةُ البادية ولا بداوةُ عصرِنا ومَنطِقُهُ. الحرّيّة التي يعتنقُها ويبُثُها نزار قبّاني فيهار الكثير من اليَقَظة والمساحة التي تدفع القارئ إلى التفاعل معها، بالنسبةِ لي هو نبيّ الحبّ والحريّة والغضَب.

تبحث دراسة د. نسيم الأسدي حول المتكلّم الأنثى في شعر نزار قبّاني ويستعرض الآراء حول تعريف الأنا الشاعرية.

ص18-19 ورد أن المتكلّم في القصيدة يسمّى Persona وقد تكون ذات الشاعر والقناع، أو شخصيّة مخترَعة لا تهمّ هويّتُها بقدر ما تُتيح للشاعر من إمكانيّات لتمويه المعنى. وأقتبس ص19: “القناع مظهر شديد القوّة على صعيد آليّات السرْد، لا سيّما صلة صوت المتحدّث بصوت الشاعر ومدى قرب صوته أو بعدِه عن قناعِهِ”.  وفي مكان آخر ورد أنَّ القِناع أسلوب من أساليب الإقناع، وبحَثَ الصلة بين الصوت المتحدّث في القصيدة وصوت الشاعر، وبَحَثَ بِتَوَسُّع: هل هذا الصوت قريب أو بعيد من القناع.

برأيي، أنّ صوت الشاعر في القصيدة، إذا كان ضمير متكلّم أنثى أو قناع، لا يختلف عن ذات الشاعر وأومن أنّ الصوت في قصائد نزار قبّاني على لسان مرأة ليس قناعًا أو فقط أسلوب تعبير، إنّه يتبنّى صوت المرأة كمتكلّم وعندما كنت أقرأ، مثلًا، “رسالة إلى رجُلٍ ما” كنت أُحِسُّ أنّ الشاعر مُتماهٍ معي كامرأة إلى حدٍّ بعيد وأشعر وكأنّني أنا التي تتكلّم! وحسب ما اختبرتُه من قراءة وكتابة الشعْر، لا أرى دافع إقناع هنا حيث أنّ القصيدة كشف ذاتي وجداني، فالقصيدة هي الشاعر والشاعر هو القصيدة. وشِعر نزار قبّاني بالذات يعبّر عن كلّ حالاته ومشاعرِهِ وأفكارِهِ بكلّ المخزون الثقافي والأدبي والمعرِفِي الموجود عِندَهُ. وتُظهر الدراسة أنَّ المرأة بضمير المتكلّم في شعر نزار قبّاني نالت اهتمامًا أكثر من الاهتمام الذي نالته على لسان الشاعرات، وهذا يثبتُ تبنّي نزار قبّاني لحرّيّة المرأة.

يستعرض البحث آراء حول ما يُسمّى أدب نسائي او نِسْوي أو أُنثوي، وفي هذا الباب شرحٌ موضوعيّ، أكاديمي، عِلمي، جدّي وشامل عن هذا الأدب. إن صحَّ لي أن أُناقش هذا الموضوع، فلا أَجِدُني أفهمُ تَسْمِيَةَ “الأدب النسائي” لا في كتابتي للشعر ولا في قراءتي له، لأنّ الشعر، باعتقادي، هو تعبير عن الذات، تعبير مباشر دون أقنعة، وكلّ الجماليّات اللُغويّة البَلاغيّة تكون ظلالًا صِحّيّةً طبيعيّة تواري التعرّي الذاتي التام، وتضيف جمالًا وجاذبيّة على القصيدة. إذا نظرنا إلى الشعر بمنظار ذكوري أو أنثوي، فإنّ هذا المنظار يُفْرِغُ الشعر من قيمتِهِ الإنسانيّة، عدا عن أنّهُ منطلق غير منطقي، فعندما أقرأ محمود درويش أو أدونيس أو منصور الرحباني، لا يمكن أن يَخطُرَ ببالي أنّ من كتب هذا الشعر رجال! كذلك أرى أن تقسيمَ الأدب حسب الجنس يوازي من يكيلُ بمكيالين، ليس لأحدِهِما صلة بالآخر. الشعر والأدب ليس زِيًّا نسائيًّا أو رجاليًّا. لا يمكنُ اعتبار الشعر تابعًا لجنس الشاعر أو ميوله الجنسيّة، وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الشعر والأدب ممكن أن يُصنَّف بعدد لا نهائي من التصنيفات المستنِدة إلى الاختلاف بين البشر.  ص25، ذكر المؤلّف اقتباسًا للناقدة الفرنسيّة هيلين سيكيوس (1937): “الكاتبات ينشغلْنَ بأجسادهنَّ، لذلك فلُغَتُهُنَّ هي لغةُ الجسد”، ممكن أن يكون هذا القول تابعًا لحِقبة تاريخيّة غابرة، ولكنْ أعتقد أن الاختلافات موجودة وواضحة ليس فقط بين المرأة والرجل بل أيضًا بين مرأة ومرأة وبين رجُل ورجُل. فالهيمنة الذكوريّة الأبويّة ينعكس تأثيرُها النفسي العميق على كلّ المجتمع وأفرادِهِ وليس فقط على المرأة! ماذا عن الشعر الإنساني الوجودي الذي يكتُبُهُ الرجل وتكتبه المرأة، كيف يمكن تصنيفُهُ حسب جنس الكاتب؟ هناك موضوعات في الشعر لا تمتّ بأيّة صلة إلى جنس الكاتب أو الشاعر. لذلك فإنَّ الاعتماد على اللغة لكشف الحقيقة لا يُعوَّل عليه، ففي اللغة الانجليزيّة، مَثَلًا، لا يوجد فرق بين مؤنُّث ومذكّر في الضمائر والصفات، والذات الشاعرة تولد من عدد لانهائي من المُرَكِّبات الثقافيّة والحضاريّة والمعرفيّة والفكريّة التي تربّت عليها. اللغة في السياق الديني، مثلًا، تنقلنا إلى الما وراء، بينما السياق العاطفي يُعيدنا إلى جوهر الذات والسياق الجنسي-امرأة رجل- يحدِّدُنا في الاختلافات الجسديّة فقط، وليس في الاختلافات الثقافيّة الفرديّة. أعتقد أنَّ الأبحاث حول ما يسمّى “الأدب النسوي” تندرج في إطار الآراء المُسْبَقة والأدوار التي حدّدها المجتمع والحضارة والتاريخ لكلٍّ من الرجل والمرأة!

لاحقًا، في البحث، نرى أنّ شعر نزار قبّاني بلسان المرأة يتحدّث سلبًا عن الرجل بينما المرأة بصوتِها تتحدّث عن الرجل سلبًا وإيجابًا، وهذا الاستنتاج يُشير إلى صدق التعبير بصوت المرأة في شعر نزار قبّاني. وهناك بحث وافٍ للأسباب التي دفعت نزار قبّاني إلى إعطاء هذه المساحة الكبيرة للمرأة بشكل عام وللمرأة المتكلّمة في شِعرِهِ، حيث أنّ انتحار شقيقة نزار قبّاني بسبب حرمانِها من الزواج من حبيبِها كان له أثرٌ كبير في ذلك، وكذلك تواجد الشاعر وإقامتُه في أوروبا وآسيا وأسفارُهُ كان لها تأثير على ثيمات قصائِدِهِ وطبيعتِها الإيقاعيّة.

في الفصل الخامس والسادس بحثٌ عميق وجميل عن أوجه الشبه والاختلاف بين ميزات شعر نزار بصوت المرأة وميزات شعر الشاعرات الذي تكاثر حينَها، وعلاقتِهِ بظهور شعر نزار قبّاني عن المرأة بصوتِها. شعر نزار قبّاني الذي كانت فيه المرأة بصوت المتكلّم، كان تقريبًا موازيًا لشعر النساء الشاعرات المعاصرات، وقد اتّبع أيضًا معاييرَ لُغويّةً مُوازية، ولهذا دلالاتٌ كبيرة على القُدرة الشاعريّة عند نزار قبّاني.

وتُظهرُ الدراسة أنّه بعد صدور ديوان نزار قبّاني: “يوميّات امرأة لا مبالية”، والذي تحدّث فيه عن المرأة بصوت المرأة، ترك الشاعر هذا الأسلوب وتحوّل إلى الكتابة عن الحرّيّة بمعناها الواسع المطلق، وتحوّلت أشعاره إلى مرحلة حرّية الأمّة العربيّة وأنظمتِها والإنسان عامّة.

أعتقد أنّ دراسة د. نسيم الأسدي، بعُمقِها وأبعادِها، وَضَعَتْ شعر نزار قبّاني في موقِعِهِ الصحيح وأنْصَفَتْهُ وأبرَزَتْ موقِفَه تجاه الحبّ وحرّيّة المرأة وحرّيّة شعبه!

مبارك هذا الإصدار د. نسيم الأسدي وإلى دوام الإنتاج المتميّز!

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

صباح بشير: “صيّاد.. سمكة وصنّارة”، كتاب يغوص في ذاكرة البحر

صباح بشير “صيّاد.. سمكة وصنّارة” كتاب يغوص في ذاكرة البحر     بثقته الغالية، أسند …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *