نصّ الكلمة التي ألقاها د. نبيه القاسم، في أمسية تكريم د. منير توما في نادي حيفا الثّقافيّ

 

 

منير توما المثقّف العارف 

د. نبيه القاسم

الصديقُ الدكتورُ منير توما هو الشخص الذي إذا طُلبَ منكَ أن تتحدّثَ عنه في أمسية أو ندوة أو جلسة، لا يكونُ بإمكانك أنْ تعتذرَ وترفضَ. فمنير توما الشخصيةُ التي تُحبُّ أنْ تتحدّثَ أو تستمعَ إلى ما يُقالُ عنها، فهو واحدٌ من المُتَفَرِّدين بما يمْتلكون من خصالٍ تشدُّ بالآخرين وتجذبُهم عن طيب خاطرٍ ورغبةٍ لما تتميّزُ به هذه الشخصيةُ من مُميّزاتٍ تندرُ في وجودِها مجتمعةً عند غيره.

هكذا هو الصديقُ العزيزُ منير توما المعروفُ بثقافته الواسعةِ إذا ما أردْنا الدُّخولَ إلى عالمِه الواسع: ماذا نختارُ وأيَّ عالَمٍ نطرقُ، هل نتحدَّثُ عن عالم منير توما الثقافي الواسعِ الذي يحضنُ ثقافاتِ العالمِ الكبير، ويختزنُ عوالمَ كبارِ عمالقة الأدب الغربي والعربي. أو أنْ نخرجَ في رحلة شيّقةٍ مع عالم منير توما الشعريّ، أمْ نختارُ عالمَه النّقديَّ وما يرى من وَضْع نتاجِنا الأدبي الذي قرأه، وله فيه رأيُ الناقدِ العارف.؟

لقد اختار منير توما صومَعَتَه، وترك لنا مَشاغلَ الحياة وهمومَها، رفضَ الدخولَ في اهتماماتنا اليومية وصخَبِ حياتنا المُتقلّبةِ، فله عالمُه الذي اختاره، ولنا ما اخترنا. عالمُه هو عالمُ الإبداع والأدبِ، عالمُ الثقافةِ والكلامِ السّحري والمعرفةِ الواسعة.

مَوْسوعيّةُ منير توما الأدبيةُ والثقافيةُ تبدو واضحةً في دراساته العميقةِ المُتَشعّبةِ التي يتناولُ فيها إبداعاتِ كبارِ رجال الفكر والأدبِ الغَربيين. وفي رَبْطه بين إبداعات البعض وإبداع أديبٍ عربي مُتميّز كجبران خليل جبران أو نجيب محفوظ. ففي دراسة له يُعرّفُنا بفكر ونَهج رالف وولدو إيمرسون الأمريكي الذي عُرف كمُصلح ديني اجتماعي، وأحدِ أقطاب الحركة الرومانسية، كان يدعو لاستقلالية الفردِ وتَحريرِه من القيود التي تَحِدُّ من إبداعه، وأنَّ الإنسانَ هو جزءٌ من الطبيعة التي هي جزءٌ من الروح الأعلى، وإلى أيّ مَدى كان لأفكارِ إيمرسون من تأثيرٍ على فكرِ جبران خليل جبران، خاصةً في قصيدته (مواكب الحياة) ومَوقفِه من الطبيعة التي تَعْني الحريّة.

وفي كتابه “دراسات وترجمات فكرية وأدبية” يفتتحُهُ بتناولِ كتاب “أخلاقيّات” لسبينوز(1632-1677) الذي آمن بمذهب “الحَتميّة”، وهو مَذهبٌ يقول بأنّ أفعالَ المرء والتّغيّراتِ الاجتماعيّةَ هي ثمَرةُ عواملَ لا سلطةَ للمرء عليها”، وهذا جعلهُ يعتقدُ بأنّ الحريةَ البشريةَ ما هي إلّا وَهْمٌ. فنحن نعتقدُ أنّ لدينا اختيارا مَنطقيّا عاقلا واعيا، لكنّنا في الحقيقة مُنقادون بواسطة العواطف. والشيءُ الوحيدُ الذي يُمكنُ أنْ يتغلّبَ على عاطفةٍ ما هي عاطفةٌ أخرى: فالشفقةُ، على سبيل المثال يُمكنها أنْ تتغلّبَ على الغضب.

ويتناولُ روايةَ “البؤساء” لفيكتور هوغو (1802-1885) ويرى أنّها قصةٌ أخلاقيّةٌ إلى حدٍّ كبير التي فيها تُشكّل الشفقةُ أو الحُنُوُّ الفضيلةَ الأكبرَ والأعظمَ التي تؤدي دائما إلى الافتداء والإصلاح والتّخليص. ويرى أنّ روايةَ “البؤساء” تُعَدُّ من أشهر روايات القرن التاسع عشر التي انتقد فيها فيكتور هوغو الظلمَ الاجتماعيَ في فرنسا في الفترة بين سقوط نابليون بونابارت عام 1815 والثورةِ الفاشلةِ ضدَّ الملك لويس فيليب عام 1832. وتعْرِضُ الروايةُ بشكل مُؤثّرٍ طبيعةَ الخير والشرّ والقانونَ مجسِّدةً ذلك في باريس تلك الفترةِ، مصوّرةً الأخلاقَ والقانونَ والعدالةَ والدينَ والفلسفةَ والطبيعةَ الرومانسيةَ بما في ذلك المَحبّةُ الإنسانيّةُ والعائليّة. (ص34).

وينتقل لرواية ” مئة عام من العزلة” لماركيز (1927-2014) التي تحكي قصةَ مدينة كولومبية تُدعى “ماكوندو” وسبعةَ أجيال من عائلة “بوينديا” الذين أسّسوها. ويستخدمُ ماركيز في روايته “الواقعيةَ السحريّة” لنلهوَ ونعبثَ بتصوّراتنا. مثل أنّه يُمكنُ لولدٍ أنْ يولدَ بذَنَب خِنْزير، أو أنْ يرتفعَ كاهنٌ ويُحلِّقَ في الهواء. وهو يلهو ويعبثُ بالزمن والوقت، فالأولادُ ينمون بسرعة، لكنْ بالنسبة للبالغين فإنّ الزمنَ يقف ساكنا بألم.

وينتقلُ لرواية “المحاكمة” لفرانز كافكا (1883-1924) التي تعكسُ تأمّلَ كافكا حيالَ تأثيراتِ التّغرّبِ والنّفورِ في المجتمع الحديثِ الذي ما زال يتمّ إرجاعُه إلى قرن مضى. في رواية “المحاكمة” يُقدّم كافكا كلَّ عناصرِ الكابوس الكامل: الوضعَ المُحيِّر، مكانَ سَكَن غير مألوف، متاهةً من الممرّات والغرف، تهديدا لا اسمَ له، عدمَ القُدرة على الفعل، كلَّ الأشياء مَحْتوم أنْ تقودَ إلى مصيبة أو كارثة. بطلُ الرواية جوزيف يُعتَقَلُ ولا يعلمُ ما هي الجريمةُ التي ارتكبها، وكلُّ جهوده التي يبذلها لمعرفة أسبابِ اعتقاله ومحاكمته تضيع هباءً حتى يستسلمَ أخيرا لمصيره، وهو الموت.

وينتقل إلى كتاب “الجمهورية” لأفلاطون (427-347ق.م) ويصفه برائعة الفكر الفلسفي والسياسي. ويُبْرِزُ سقراطَ بأنّه الشخصيّةُ المركزيةُ في كتاب “الجمهورية” يسأل سؤالا حيالَ رفاقه ويتماثلُ ويتطابقُ مُعَيِّنا عيوبَهم ونقائصَهم في إجاباتهم. وأفلاطون في كتابه يهتمُّ بطرح السّؤالِ حول “ما هي العدالة؟”.

 وفي كتاب الجمهورية يقول الدكتور منير توما: إنّ سقراطَ ورفاقَه سرَّعوا في بناء مدينةٍ – دولةٍ افتراضيّةٍ من الرّسم المحفور كتابة. ويكون الزعيمُ أو القائد، في تصوّرهم، الملكَ – الفيلسوف.

وفي تناوله لرواية “لوليتا” للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف (1899-1977) التي صدرت عام 1955 وأثارت ضجةً كبيرة ومُنعَت في العديد من البلدان، تروي قصّة افتتان همبرت ذي السابعة والثلاثين عاما من العمر بفتاة لم تبلغ سنَّ الرُّشد، (لوليتا) التي تراوَحَ عمرُها من الثانية عشرةَ إلى السابعة عشرةَ في سَيْر وتقدّمِ السّنين. ويرى الدكتور منير توما أنَّ الكثير من الرواية يتناول الصدامَ الثقافي بين التّفكير الأوروبي والأمريكي. كما ويرى أنَّ الكاتبَ نابوكوف انتقد وبشدّةٍ في روايته علمَ النفس الذي بشّر به فرويد وسخر من عدم قُدرة التّحليلِ النّفسيّ أنْ يصفَ المشاكلَ المركّبة.

ويتعرّض د. منير توما في كتابه للعديد من المواضيع المُهمّةِ مثل تناولِه لشخصية “الأم تريزا” وكتاب “تفسير الأحلام” لفرويد، وبلدة “دير القمر” اللبنانية والأَعْلامِ الكبار الذين برزوا فيها مثل بطرس البستاني صاحب الموسوعة في تاريخ الأدب العربي على مدى كلِّ عصوره، وجورج  أنطونيوس صاحب كتاب “يقظة العرب” الذي تناول فيه بإسهاب ثورة الفلاحين في لبنان بقيادة طانيوس شاهين ضدّ الإقطاعيين من كلِّ الطوائف، ونقولا الترك الذي كان أوّلَ المُمَهّدين للنهضة الأدبية في العصر الحديث، وجوزيف نعمة، والرئيس كميل شمعون. ومثل مَقالتِه عن ملحمة “الفردوس المفقود” للشاعر الإنكليزي جون ملتون (1608-1674) وقصيدة ِ” الأرض اليباب” لتوماس إليوت (1888-1965).

كما وتناول العديدَ من القصائد لشعراءَ عالميين مثل قصيدةِ “نار وثلج” للشاعر الأمريكي روبرت فروست (1874-1963) والتي فيها يطرحُ السؤالَ حول نهايةِ العالم ودماره وفنائِه، هل ستكونُ بحريقِ النار أم بفعلِ الجليد؟ ويصلُ إلى النتيجة أنّ كليهما، النارُ والجليدُ يُمْكنُهما تدميرَ وإفناءَ العالم.

وقصيدة “قلبي يقفزُ عندما أنظر قوسَ قُزح في السماء لوليام وردزورث (1770-1850) وقصيدة الحلم للشاعر الإنكليزي جون دَنْ (1572-1631) وغيرها من المختارات المهمّة.

قد يكون هذا الاستعراضُ السريعُ لما تناوله الدكتور منير توما في كتابِه المهمّ مُثْقِلا ومُتْعِبا للسّامع غيرِ المُطّلعِ على هذا الأدب، ولكنّه يُشَكلُ تَحَديّا مُهمّا لكلّ واحد أنْ يقرأ الكتابَ ويتعرّفَ على هذه العَوالمِ الكبيرة التي دخلها منير توما وقرّبها منّا، ودفعَنا للوُلوج إليها وسَبْرِ أغوارِها.

وتشهدُ هذه الدراساتُ المتنوعةُ والعديدةُ على عُمْق ثقافة د. منير توما ومَعرفتِه بالثقافة الغربية، وما وصل إليه الأدبُ في الغرب.

وكما في دراساته تميّز بعُمْق معرفته وسَعَةِ اطّلاعهِ وموسوعيّةِ ثقافتهِ، هكذا هو أيضا في كتاباتهِ النَّقديّةِ التي تناولَ فيها العشراتِ من الكتبِ الصادرةِ في مختلف مَجالات الأدب من قصَص قصيرةٍ وروايةٍ ومسرحية، وشعر ونَقْدٍ ودراسة. وكان ينطلقُ في تناوله للعَمل من رَكيزةٍ نظريّة ثابتةٍ لا يتصلّبُ عندَها، وإنّما تكونُ دافعتَه لتناولِ العملِ من مختلف جَوانبه، محافظةً على رُقيِّ النَّقْد وحساسيّةِ اللغة ودقّةِ المُصطلحِ والبُعْدِ عن المبالغة والتّستّر عن العيوب والنواقص.

هذا النقدُ الذي حفظ للدكتور منير توما مِصداقيّتَه واحترامَه على الساحة الأدبية.

وأمّا في عالم الشعر فللدكتور منير تَحيّزٌ خاصٌّ نحو شعر الحبّ، ولا تُشغلُه من مَشاغلِ الحياة إلّا المرأةُ بجمالها ودَلالها وفتنتِها.

 

*نص الكلمة التي ألقيتها في أمسية تكريمه في نادي حيفا الثقافي في حيفا يوم الخميس 22.2.2024 بمشاركة صباح بشير وفتحي فوراني وعرافة نايف خوري.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “قِلادَةُ ياسَمين”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “قِلادَةُ ياسَمين” القُدسُ هي قدسُ أقداسِنا، هي زهرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *