د. نبيه القاسم: الرؤية المختلفة لباسم خندقجي في روايته “قناع بلون السماء”

 

 

 د. نبيه القاسم

الرؤية المختلفة لباسم خندقجي في روايته “قناع بلون السماء”

 

شهدت العشرون سنة الأخيرة ولادة أجيال من المُبدعات والمُبدعين، في مختلف مجالات الأدب والفن، يتميزون بالجرأة في اقتحام المنصّات والساحات المختلفة مع ثقة بأنّهم يأتون بالجديد المُميَّز الذي لم يسبقهم إليه أحدٌ، هذا صحيح في دول الخليج العربي بعد انفتاح مجتمعاتها على العالم الواسع، وفي مختلف أقطار العالم العربي بعد الإحباط الذي حطّ على شعوبها العربية بنكسة ثورات الربيع العربي التي حمَلت الكثيرَ من الأوهام والأمنيات والرَّغبات، وانتهت بتحطيم مُعظمها، وحُكم وبَطش الجماعات الدينية المُتطرّفة مثل داعش والنُّصرة، وتفجير الصّراعات الدينية والطائفية والقَبَليّة، وتقسيم كل دولة من مُعظم دول المركز العربي إلى دُوَيْلات مُتصارعة، وجيوش تُقاتل بعضها وتُمزّق وحدة الوطن والشعب. وصحيح أيضا في فلسطين، في الداخل المحتل وفي المَنافي والشتات، حيث بدأ هذا التّحوّل بعد اتّفاق أوسلو وسرعة انحسار الوهم الذي بشّرّ بالسلام والرفاهية والحريّة والاستقلال وقيام الدولة العتيدة.

هذه الأجيال الشابّة أخذت تفقد ثقتها بآبائها وبما لقّنوهم من مفاهيم ومبادئ وأفكار، وتبحث لها عن طُرق جديدة خَلّاقة منطلقة من الواقع المَعيش وساعية للتّغيير وخَلق البديل الأفضل بعيدا عن الخيالات الخادعة والبطولات الوهمية وانتظار نُصرة الرب ورُسُله ومَلائكته.

وأوّلُ رواية قرأتُها بعد اتّفاق “أوسلو” وعودة المئات من المُهجّرين والمُبعدين وبداية قيام السلطة الفلسطينية للكاتب الشاب سامح خضر “يعدو بساق واحدة” يطرح فيها المشاكل التي واجهت العائدين إلى وطنهم بعد اتّفاق أوسلو وموقف الشباب الفتيان من هذه التحوّلات السّريعة والغريبة التي عايشها الشاب الفلسطيني في بلد طالما حلم به ولم يره اسمه “فلسطين”، لكنّ صدمات اللقاء بالوطن حلّت الواحدة تلو الأخرى، فالوطن الذي حلم الفلسطيني به في المّنفى، وعمل للعودة إليه، غير الوطن الذي وصل إليه عَبْرَ بوّابات يحرسها جنود الاحتلال، وتُقيَّدُ فيه تحرّكات ومكان سكناه”( نبيه القاسم: رحلة مع غوايات الإبداع. شروق2019).

ومن الروايات التي قرأتها للكاتب أحمد أبو سليم رواية “يس” ورواية “سوداد” لفاروق وادي ورواية “سماء القدس السابعة” لأسامة العيسة. وروايات لعدد من الجيل الشاب، كلّها تتمرّد على ما كان، وتبتكر لها أسلوبا وبناء ونهجا ومواقف غير التي عهدناها في روايات سابقة.

وفرحنا بسماع خبر فوز رواية الكاتب الشاب السّجين باسم خندقجي “قناع بلون السماء” بجائزة البوكر للرواية العربية لعام 2024. وفرحتنا جاءت لسببين:

 الأوّل أنّها رواية تستحق الجائزة للفنية العالية التي كُتبت بها وللقضية المهمة التي عالجتها. والطرح الشجاع الجديد الذي قدّمه الكاتب.

والثاني لكَوْن كاتبها سجين يُعاني ظروف السجن القاسية ورغم ذلك قدّم عملا أدبيا راقيا ومتميّزا.

***

رواية “قناع بلون السماء”

بإعلان فوز الرواية بجائزة البوكر العربية لعام 2024 كثرت المقالات الصّحفية التي تناولتها بالتحليل والتقديم والتقييم وإبداء الرأي وعَرْض مختلف جوانب الرواية من حيث البناء والمواضيع التي عالجتها. وكنتُ قد شاركتُ في أمسية أدبية حول الرواية أدارها الدكتور علي الجريري وشارك فيها العديد من الكتّاب والنقاد مثل بروفيسور إبراهيم السعافين والكاتب محمود شقير والدكتورة ناديا عوض والأساتذة عدنان أبو ناصر، سونيا نمر، نجوى غانم ولبابة صبري.

وفي مداخلتي التي قدّمتها عن الرواية تناولت جانبا مهما لم يتطرّق إليه أحدٌ غيري وهو رؤية بطل الرواية لكيفيّة مواجهة الآخر المُحتل، ومحاولة التّوصّل إلى حلّ قضية الصراع ما بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. مُتّبعا أسلوبا جديدا وخطّة مبتكرة لا تسعى لمحو الآخر وإنّما للوصول إلى حلّ مقبول معه.

***

باسم خندقجي في رواية “قناع بلون السماء”

«أنا لا أرتدي قناعا، أنا أرتدي مسخا.. بل أنا هو المسخ الذي ولد من رَحم النكبة والأزقّةِ، والحيرة، والغُربةِ، والصّمت. أنا المسخُ يا صديقي، فهل من رَحم تلدُني مرّة أخرى إنسانا؟”

بهذه الكلمات الحادّة المؤلمة يُلخّصُ نور بطلُ رواية “قناع بلون السّماء” كلَّ المأساة التي يعيشُها الإنسان الفلسطيني الذي يُواجِهُ من لحظة خروجه إلى الحياة مُحاولات الطّمس والإذلال والتّطويع والاستسلام والقُبول بما يُسْمَح له، ليس فقط من قبَل الغرباء والأعداء، وإنّما من قبَل الأشقاء، وحتى أفراد البيت. ويجد نفسَه أمام خيارين فقط:

*إمّا القُبولُ والتَّسليم والرِّضا

* وإمّا الرَّفضُ وإعلانُ التّمرّد والثورة والخروج للمُواجَهة.

هكذا هي حالةُ نور الذي وُلد ساعة فارقت أمُّه الحياة وهي في العشرين من عمرها ليعيش في رعاية جدّته بينما والدُه بطلُ الانتفاضة الأولى التي تفجّرت في كلّ الأراضي المحتلة عام 1987، وبطل المُخيّم يقبع في السجن مُهمَلا، لا يَسْأل عنه أحدٌ من رفاق النّضال، ويخرج بعد اتّفاق أوسلو ليجدَ معظمَهم يَحظَوْن بالمَراتب والوظائف والغِنى، فغضب وقطع علاقتَه بهم وآثر بيعَ القهوة والشاي والسّحلب ولا يذل للآخرين، وعندما أرادوا منحَ ابنه نور منحة دراسية رفض قبولَها. وكان يُضَيّق على نور ويعزلُه عن الأولاد في المخيم والزقاقات، ويحشرُه في البيت في الحجرة البائسة فيصرخ نور كاتما صوته:

-“مَن أنا؟ مَن أبي؟ ما هي الأزقة؟ أين هويّتي؟ أين ظلّي؟ أين مرآتي؟ ماذا أفعل هنا؟ ليس ثمّة مجريات خاصّة بي هنا، ليس ثمّة أحداث، لا وقائع، لا مناسبات، لا مكوّناتٌ لذاكرة جديدة، لا أعياد، لا ملابس جديدة، لا أنخاب للحياة.. للصداقة.. للحبّ.. للقصائد.. للرقص.” (ص76)

وقطع نور كلَّ علاقة له بالمخيّم منذ خرج والدُه من المعتقل ومنذ اعتقال صديقه مراد. فهو يسعى للتحرّر، “لا يريدُ الموت على مراحل كأبيه. فهو سيلدُ أباه وأمّه منه، سيلدُ هويّته، سيستعيدُ ذاته، سيحرق قناعَه. وسينبعث من رماده. يسترجعه من تأمّله وهواجسه.”(ص76-77)

نور حَزَم أمرَه واختار المُواجهة مع الآخر.. ولكن بأسلوب جديد وفكر مُغاير رافضا موقف والده في استسلامه للواقع وتفضيله الانزواء والتوحّد وقَطْع علاقته مع كل مَنْ حوله. وكذلك رفض مواقفَ صديقه مراد الدافعة للمقاومة والمواجهة التي أدّت به إلى السجن حيث سيقضي سنوات عمره المُتبقية.

عمل نور خارج المخيّم في الورش والأعمال داخل المدن اليهودية ومن ثم الفنادق في القدس، وفي مُرافقة وإرشاد الفرق السياحية في العديد من مواقع البلاد المختلفة جعله يكتشف أنَّ الصّراع الأساسي ما بين الفلسطيني والإسرائيلي هو على ملكية الأرض وتبعيّتها. وقد نجح اليهود في تسويق الأفكار والأساطير والآثار التي يجتهدون في الحَفْر فيها واستنطاقها لإثبات أنّ هذه البلاد من حقّهم وأنّها هِبَةُ الربّ لهم منذ بدء الكون. وقد نجحوا في اقناع العالم وحتى أنفسَهم بذلك. وعملوا على أَسْطرة المأساة والإمعان في تخيّلها. مُتّخذين من الكتب الدينية مُرتكزا تاريخيا لصدق روايتهم، وكأنّ ليوناردو دافنشي قصدهم بقوله: “كثيرون هم الذين اتّخذوا من الأوهام والمُعجزات الزّائفة وخداع البشر تجارة لهم”.

ويتّخذ نور قرارَه بالعمل على كَشْف الزّيف وتسخيف الرواية وإظهار الحقيقة وفَضْح المؤامرة التي اتّفق عليها الجميع ضدّ الفلسطيني.

وكانت قراءته لرواية دان براون “شيفرة دافنشي” المُنبّه إلى هذا التزييف والخَلْق الجديد للتاريخ حيث يقول دان براون إنَّ مريم المجدلية لا علاقة لها بالانتماء الفلسطيني فهي يهودية تنتمي لعائلة “بنيامين” الملكية كما كان المسيح من عائلة داود وهو سليل الملك سليمان ملك اليهود. وإنَّ علاقة المسيح بمريم المجدلية هي التي تُشكل أسطورة “الكأس المقدّسة”(شيفرة دافنشي (ص279-278) ومن ثم يأخذ بمريم المجدلية إلى فرنسا وأنَّ هناك مَن يحرس مَدْفن مريم المَجدلية ويحتفظ بالسرّ. ومَخبأ “الكأس المقدسة” هو في الحقيقة مَدفَن يحتوي على بقايا جسد مريم المجدلية والوثائق التي تروي قصة حياتها الحقيقية، والمَقصد الحقيقي من وراء البحث عن “الكأس المقدسة” كان دائما بحثا عن مريم المجدلية”(شيفرة دافنشي ص287)

ويتساءل نور:

“هل كان دان براون يتخيّل التاريخ أم كان يُخاتله؟ ما الذي فعله بالمَجدلية؟ لماذا ينتزع كاتبٌ أجنبيّ المجدليّة من سياقها التاريخي الجغرافي الفلسطيني ليُلقي بها في مَهاوي الغرب؟ لماذا؟”(ص24)

وكان، لمَن يذكر، الإعلان الكبير عن الفيلم التّوثيقي الذي جرى عرض بعضه في نيويورك بعد ظهر يوم الإثنين 26.2.2007 ويظهر فيه اكتشاف مغارة في مدينة القدس فيها عدّة توابيت للمسيح وأمّه مريم ومريم المجدلية وآخرين من أفراد العائلة. (ידיעות אחרונות 26.2.2007)

ويستنكر نور ما يراه من التّغييب الكامل للفلسطينية مريم المجدلية التي ووجهت بالعداء والرّفض من أيام المسيح برفض بطرس الرسول وزملائه لها، ومحاولة تأليب يسوع ضدّها. وبعد صلب يسوع قاموا بإخفاء كلّ ذكر لها وأبقوا على إشارات قليلة مُتباعدة. ورسموها بصورة سلبية، وكيف على مرّ الأجيال، استمر المَحْوُ لها وتَجاهل أصلها الفلسطيني، وجعلوها تتكلّمُ العديدَ من اللغات ما عدا العربية، وتجاهلوا، وحتى أخفوا كُتبَ دينيّة مثل “إنجيل المجدلية” و “إنجيل فيليب” وغيرهما من التي تُبرز الدَّوْرَ الكبيرَ لمريم المجدلية ومَكانتها في حياة يسوع المسيح وحظوتها عنده ممّا دفع بنور للقيام باسترداد المجدلية لموقعها وقداستها ومركزيّتها بالبحث والتنقيب في كلّ المصادر المُتاحة والمُمكن الوصول إليها.

****

الركائز الأساسية لانطلاقة نور نحو المُواجه

نور النّموذج للفلسطيني

نور ولد كآلاف الفلسطينيين يتيما، فقَدَ أمّه لحظة ولادته، ولا أب يرعاه لأنّ أباه سجين لاشتراكه في قيادة الانتفاضة ومُواجهة جُند الاحتلال، فنور كما يصفُه الرّاوي “هو المَفجوع والمَكلوم والكاتم والمكتوم والتّائه والمُغترب الذي وُلد جاهزا مُجهّزا بكلّ عتاد البؤس المُتاح وغير المتاح في الأزقّة، فطفولته الزّقاقيّة اسمنتية لم يولد ويترعرع فيها، بل وُلد منها (ص15-16).

لم تتغيّر حياة نور للأفضل بعد خروج والده من السجن، بل زادت صعوبة لمَنْعه من الاختلاط بأولاد المخيم والتّجوال في الأزقة. وهو ككل سكان المخيم ومعظم الفلسطينيين الذين شُرّدوا وهُجّروا من بيوتهم ووطنهم عام النكبة وعام النكسة وعام باقي التّسميات!، يُواجَهُ أوّل ما يخرج من المخيم بصفة “لاجئ” فهو في أزقة المخيّم ليس بلاجئ، ليس ثمّة مَن يُذكّره بهذا، وأمّا في “هذه المدينة الإسمنتيّة الكبيرة رام الله والبيرة فهو لاجئ” (ص26)، وهكذا حال الفلسطيني خارج حدود المُخيم فهو اللاجئ المنبوذ المحروم المُضطهد والمُتّهم وليس في رام الله فقط.

ويُشاهدُ نور المُواجهات بين الشباب وجُند الاحتلال في المخيم وخارجه، ويُتابع ما تبثه وتنشرُه وسائلُ الاتّصال المختلفة، ويقرأ الكتبَ المتنوّعة ومنها الدينيّة، ويزداد معرفة وثقافة ونضوجا وقُدْرة على الاختيار فانتسب للمعهد العالي للآثار الإسلاميّة التابع لجامعة القدس مُندفعا للوصول إلى الحقيقة التي يُؤمن بها أنّ تاريخ هذه البلاد زُيِّف وشُوِّه وأُخْفي الكثير منه، وتجربته مع مريم المجدليّة كانت التي نبّهته وأطلعته على مدى اتّفاق الجميع على تغييب الفلسطيني وتسخيفه وحتى محو كل ذكر له. وكيف أنّهم جعلوا من الكتب الدينيّة التي كتبوها وقدّسوها مصدرَ معلوماتهم وارتكازهم ومرجعهم لإثبات أحقيّتهم في هذه البلاد، حتى أنّهم جعلوا الله يمنحهم هذه البلاد ويباركهم بها لتكونَ لهم، ولم يتورّعوا عن التّزييف وحتى المَحو من هذه الكتب الدينيّة كلَّ ما وجدوه يُعارضُ أو ينقُضُ ادّعاءاتهم.

ووجد نور أنّ مهمّته الأساسيّة تتحدّد في التّصدّي لرواية الآخرين وتثبيت الحقيقة الوحيدة وهي أنّ هذه البلاد لأبنائها الأصليين.

وكان اختياره دراسة علم الآثار الخطوة الأولى في مواجهته للآخر، والسّعي لإظهار وإثبات زيف الرواية التي خلقها هذا الآخر وآمن بها ونشرها ليتبنّاها كلّ الناس.

لكنّ نور سرعان ما اكتشف أنّ كلّ السُّبل الموصلة به إلى الحقيقة، إذا كان بالحصول على المراجع التاريخية وزيارة المواقع الأثريّة والمتاحف الموجودة في بلاده ممنوعة عليه، ولا يُمكنه الدّخول إليها بحرية وأمان لكونه فلسطينيّا من سكان الأراضي المحتلّة.

وكانت الصدفة التي فتحت له كلّ الأبواب الموصَدة يوم كان يعمل في ورشة مع صديقه مراد ومجموعة من الشباب في مدينة ” ريشون ليتسيون” عندما فاجأتهم دورية شرطة، ولحسن حظّه كان في الحمّام، وعندما خرج ارتبك في البداية، لكنه تذكّر مُناداة الأولاد له في المخيم بالسّكناجي لشَبهه باليهود الشكناز (ص40)، فتصرّف بشكل طبيعي، وسار مارًّا أمام أفراد الشرطة الذين ظنّوه يهوديا لزُرقة عينيه وبياض بشرته واتقانه اللغة العبرية.

وهكذا بدأ نور يستغلّ مَظهرَه الأشكنازي للتّنقّل داخل البلاد حتى صدَف وعثر في جيب معطف اشتراه من سوق الخردوات في مدينة ” يافا” على بطاقة هويّة لشاب يهودي باسم أور شبيرا يبدو أنه كان صاحب المعطف الذي اشتراه. فسارع نور باستغلال البطاقة ليتّخذها قناعَه الآمن في شخصية أور شبيرا اليهودي الاشكنازي ليتجوَّل في كل البلاد بحرية، ويحضرُ الندوات والمؤتمرات، ويزور المتاحف وأينما رغب.

وبدأ نور يضيق بالمخيّم “فلا شيئ هنا سوى تسجيله وإصغائه لبطاقاته الصوتيّة. لا شيئ له في هذه الحجرة المُلقاة فوق بيت صغير مُشيّد من الأزقة، أزقّة المخيّم الواقع في رام الله، الواقعة في الالتباس والارتكاب اليومي لكلّ الحَماقات والخَطايا. رام الله التي لا أقنعة فيها ولا مَلامح، ولا حياة، فالحياة في رام الله مُفاوضات، والمفاوضاتُ بحاجة إلى شارع، والشارع هو العَبد المُعَبّد الذي تمَّ تعبيدُه بكلّ ما أحال أبوه إلى بقايا.. إلى أشلاء. إلى أزقّة صَمْت وهمهمات.” (ص72-73)

ولماذا يضيق نور بهذا القناع الذي اتّخذه وقد انقلبت أحواله وأقدارُه وأدّت به إلى الاغتراب التام عن واقعه الزّقاقيّ، صحيح أنَّ لا أقنعة في رام الله لأنَّ رام الله هي القناع. فنور يُدرك أكثر من أيّ وقت مضى “أنّه يعيش في ظلال الأقنعة منذ ثلاثين عاما، إذ هو بقناع المَلامح وأور شابيرا، وأما قناع أبيه فهو الصّمت، والمٌخيّم قناعه رام الله قاطبة، والقناع بحاجة إلى وقت، والوقت لا يُسعفه بخفّة مباركة تمضي على عَجَل، كلّا، فالوقت أمامه، وراءه، فوقه، أسفله، يُحيط به بروائح الإسمنت والصدأ والرّطوبة والطحالب والعَفَن والخوف والمُلاحقة”. (ص73)

وبدأت المواجهة الكبيرة مع الآخر بأن اتّخذه قناعا له، وبواسطته يدخل إلى عالمه المَخفي ليكشف كلّ أسراره ومَنابع قوّته وأساليبه في السيطرة وامتلاك القوّة.

ولكنه بقناع أور شابيرا أوقع نفسَه في مواجهة أصعب وأشدّ مع صديقه ورفيق عمره مراد القابع في السجن والرّافض لقناع أور ويُشَدّد على نور كي يتخلّى عنه ويعود لنور الحقيقي.

لكنّ نور رفض طلب مراد لأنه اقتنع أنّ طريق المُواجهة مع الآخر تفرض اختراقَه من الداخل، لمَعرفة كلّ أسراره وكَشْف كلّ ألاعيبه وأساليبه، وبذلك ينجح في تَعْرية الزّيف والوصول إلى الحقيقة وتثبيتها.

لقد تأكّد لنور أنّ طريقة مراد في مواجهته العنيفة للمُحتلّ فشلت، وانتهت بالحكم عليه بثلاثة مُؤبَّدات، ممّا يعني أنْ يقضي سنوات عمره في السجن. ورفض طريقة والده في مواجهة المُحتَل بالصّدامات المختلفة حيث أوصلته إلى السجن والحكم عليه لمدة خمس عشرة سنة، قضى منها في السجن خمس سنوات، وانتهت باتفاق أوسلو وانحراف الكثير من المناضلين، وصَمت والده واختياره الموت على مَراحل.

هذه الوقائع والتّحوّلات مع زيادة بطش المُحتل وتوغله زادت نور يقينا أنّه فقط باختراق الآخر، وتتبّع خطواته، وكشف أساليبه، ومعرفة مصادر قوّته يُمكنه، إنْ لم ينتصر عليه يكون بإمكانه شلّه وتحجيمَه والوصول معه إلى تفاهم الندّ للندّ فيحصل على حقوق، وإن لم تكن كلّ التي أرادها وعمل للحصول عليها.

ونجح نور في توجّهه هذا وفي كلّ خطواته نحو الوصول لهدفه، وذلك بقبوله في بعثة التّنقيب التي يتبنّاها معهد أولبرايت للأبحاث الأثريّة بالتعاون مع سلطة الآثار الإسرائيليّة للبحث عن الفَيْلق الروماني السادس جنوب تل مجدو، واستطاع من البداية إقامة صداقة مع معظم المشاركين في المشروع.

وفي الوقت الذي تناسى فيه نور والدَه وقرارَه الانعزالي الحادّ ورغبته في إلزام نور بذلك، ظلّ موقف صديقه مراد الناقد والمُحرّض له على العودة لشخصيّته الحقيقية يُلاحقه، ويُشعره بنوع من الحَرَج والقصور والشعور بالذّنب، ولهذا كان يحرص على استمرار التواصل معه والتأكيد له على التزامه الخط الوطني والصداقة والإخلاص، وكان فرحُه كبيرا وغامرا وقد حقّق أولى خطوات الاختراق للآخر فسارع ليُخبر صديقه مراد في رسالته المُسجلة:

-مراد.. هل تسمعني؟ اعذرني على هذا الهَمْس الشديد.. فأنا الآن في عُقْر الكيبوتس.. أقصد المستوطنة. أقيم في حجرة في مستوطنة مشار هعيمق.. على أيّ حال، دعني أزفّ لك نبأ نجاحي باختراق السور الدّفاعي الأوّل على الرغم من أنف أور شابيرا وناتان خودروفسكي وأيالا شرعابي.(ص156)

وبذلك يُسجل انتصاره في اختراق المناطق الحسّاسة للآخر. ويقول لمراد في رسالة ثانية مؤكدا صدقه في اتخاذ أور شبيرا قناعا له بقوله:

-صديقي مراد لقد أحرزتُ نصرا مؤزّرا اليوم، فقد حَقَّقتُ مُناي أخيرا بالتّسلُّل إلى اللجون بقناع أور شابيرا.. أجل. لقد دخلتُ عُقرَ بيت في مستوطنة مجدو، وتناولتُ فيه أشهى الطعام، وتجاذبتُ أطراف الحديث الأشكنازي مع امرأة صهيونيّة جميلة. (ص200).

هكذا نجح نور في اختراق جدار الآخر الذي اعتقده الكثيرون من المُستحيلات، عرف كيف يُفكِّر هذا الآخر وكيف يُخطّط وينفّذ ويُقنع ويتحكّم ويُوجّه وينبذ ويُقرِّب ويُبعدُ ويُصادق وحتى ينجح في الاستحواذ على الكل والسيطرة عليهم وتوجيههم لخدمة مصالحه التي لا حدود وروابط لها.

أمّا التّوجّه الثاني الذي خطّط له نور لنجاحه في المُواجهة وتحقيق ما يُريد فهو العمل الدؤوب على إثبات أحقيّة الفلسطيني في ملكيته وانتمائه لهذه البلاد التي اسمها فلسطين. وحتى ينجح عليه أنْ يُواجه الآخر ويُظهر زيف أسطورته حول أنّ الله وهبَه هذه البلاد. وذلك بخَلق أسطورته هو حول انتمائه لهذه الأرض. وحتى ينجح في تَوجّهه هذا، عليه العمل على التّواصل مع العرب المُتواجدين ضمن حدود العام 1948 والذين يحملون بطاقة الهويّة الزرقاء والمُواطنة، ويتمتّعون بقانونية وحقّ التّنقّل والإقامة والعمل والحياة بأمان. وكان يُدرك أنّ عليه حتى ينجح في ذلك تجاوز كلّ الموانع الجغرافية والسياسيّة والنفسيّة التي تفصله عن الأهل في حدود عام 1948.

وأخذ يُتابع أخبار حياتهم اليومية ونضالاتهم وإصرارهم لتحقيق حقوقهم، كيف يُوفِّقون بين انتمائهم لشعبهم العربي الفلسطيني وأمتهم العربية وفي الوقت نفسه يتمسّكون بمواطنتهم ضمن الدولة اليهودية وحَمْل هويّتها وتقبّل قوانينها وعدم التنازل عن حقّ العَيش فيها.

واقتنع نور أنّ نجاحه لا يكون تامّا إذا فشل في الوصول إلى هذا الشقّ الثاني الأصيل. وكانت الصّدفة أيضا، كما مع المعطف وبطاقة الهوية وأور شبيرا والقناع، هكذا كان في الأمسية الأولى عندما اجتمع كل أفراد البعثة وبدأ كل واحد يُعَرّف بنفسه أنْ فوجئ بالصوت الأنثوي الناعم الناطق بلغة عبرية واضحة مُعرّفا بنفسه:

-سماء إسماعيل طالبة دراسات عليا في حقل الآثار من حيفا من هذه البلاد.

وجاءه الصوت الأنثويّ المبحوح من جانبه، انبعث عن يساره من فتاة متّشحة بحرير شعرها وملابسها السوداء، مسّت نخاعه بقشعريرة حادّة كادت تطيح به عن القاعة، كاد أن يغيب، أن يسقط من شدّة وطأة الاسم العربيّ الفلسطينيّ سماء إسماعيل من حيفا، يا لِحَرْفي العيْن والحاء حين نزلا بَردا وسلاما على قلبه. (ص159)

ووجد في مريم المَجدلية ابنة قرية المجيدل التي خلّصها المسيح من شياطينها النموذج للفلسطيني الأصلاني الذي يُثَبّتُ جذورَه في هذه البلاد، فهي ابنة فلسطين وبلدة المجيدل الفلسطينية وكانت الأقرب إلى يسوع من كل تلاميذه، وظلّت الأمينة على تعاليمه بعد صَلبه وصعوده للسماء حتى فارقت الحياة ودُفنت في تراب بلدتها رغم كل المُحاولات للتنكيل بها ومَحو كلّ أثر لها، وحتى تزييف تاريخها. ووجد نور أنَّ العثور على قبر مريم المجدلية هو المطلوب، وبنجاحه سوف يُظهر زيف ادّعاءات دان براون في روايته “شيفرة دافنشي” ويؤكد على ارتباط هذه البلاد بأبنائها الأصلانيين، ويدحض كلّ التزييف والأساطير التي نُسجَت حولها. ولهذا اجتهد نور في البحث عن كل أثر يُقربه من إمكانية وجود قبر مريم المجدلية، حتى أصبح شاغله الوحيد طوال الساعات ليلا ونهارا إلى أنْ وجد نفسَه في ليلة ليلاء وقد أخذه النُّعاسُ في حُلم يُطابق الحقيقة يصل إلى أطلال قرية اللجّون المهجّرة يخترق أسوارَ مستوطنة مجدو قاصدا الجهة الشرقية الجنوبية حيث البئر، فنزل في البئر وبدأ عملية الحفر في الجدار، حتى نجح في العثور على كوّة، ومن ثم دخل في دهليز مظلم ضيّق، وظل يقطع المسافات المختلفة حتى لمح في آخر الممرّ بابا عَلَته مَشاعلُ سبعة متوهجة فتقدّم أكثر نحو غرفة كبيرة مُقبّبة مليئة بالقناديل المشعّة يتوسطها حشد متحلّق حول هيئة آدميّة مجلّلة بثوب حريري أبيض فضفاض زادته سحرا الضفائر السوداء الحريريّة المُنسدلة على كتفي ووجه صاحب الهيئة، كان ثمّة صوت أنثويّ رقيق ينبعث منها. دقّق نور بها مليّا إلى أن رفعت رأسَها فجأة نحوه، ثم جمعت ضفائرَها وراء ظهرها، لتحدّق به بوجْهٍ يعرفه، دبّت الرّجفة بأوصاله، حدّقت به، وبدت بصورة سماء إسماعيل الفلسطينية من حيفا.. (ص214-215)

وبهذا يصل نور، حتى ولو في الحلم إلى التأكيد على فلسطينية مريم المجدلية، وأنّ فلسطين هي لأهلها وليس كما يدّعي الغير. وينجح في أنْ يَخلق الأسطورة، كما الآخر، ويرويها كاملة ليثبت بها عُمْق الصلة بين الأرض والشعب الذي يعيش فوقها، ويرعاها، وتَسَمّى باسمها وعاش ودُفن فيها معظم الأنبياء والأولياء، وأوّلهم يسوع المسيح وأثيرته الفلسطينية ابنة المجيدل مريم المجدلية.

وباللقاء والتّماهي بين الفلسطينيّة مريم المجدلية والفلسطينيّة سماء إسماعيل فوق أرض الوطن الفلسطيني، يتحقّق الحلم وتُنسَج الأسطورة وتترسّخ، وتقف قويّة إلى جانب أسطورة الآخر.

وكما تماهت سماء إسماعيل مع مريم المجدليّة شدّها الحنين لنور الذي انكشف لها بشخصيته الفلسطينية الحقيقية لتُسرع وراءه بسيارتها، وتفتح له الباب وتدعوه للدّخول:

-هيّا.. اصعد أيّها المجنون. لقد صدّقتك بالأمس فقط.. ولن أتركك وحدك في هذا الطريق.

يقف قبالة الباب المفتوح مذهولا، لم يُصدّق عينيه وأذنيه، يتنهَّد بحرارة، ينزع قلادة نجمة داود من عنقه، يُلقيها بعيدا نحو السهل المُحاذي للرصيف، ينتشل بطاقة الهويّة المزوّرة من جيبه، هوية أور شابيرا، يُمزّقها، لا ينبس ببنت شفة، تدمع عيناه، ثم يصعد جالسا بجانبها، يُحدّق بها بتأثّر عميق، يُغلق الباب، ثم يقول لها قبل انطلاقهما معا هامسا بكلّ ما أوتي من لغته العربية المُستَعادَة:

-أنتِ هويّتي ومآلي.

والتقى شقا البرتقالة، وتوحَّد أبناء الشعب الواحد فوق تراب الوطن الوحيد الذي حضنهم بكل حبّ وشوق، وانهارت كلُّ الحواجز والمَوانع والمخاوف.

ويُطرَحُ الحلّ المطلوب

هدف نور من رفضه اتّباع السبيل الذي اختاره كلّ من والده وصديقه مراد في مواجهتهما للآخر إلى عدم تكرار الخطأ، والسَّعي لخلق آليّة جديدة في التّصدّي والمُواجهة، ليس لهزيمة الآخر والقضاء عليه، وإنما للتّصدي له بقوّة، وإقناعه بأنّه من المستحيل أنْ يستأثر أحدهما بكل البلاد التي يعيش فيها الفلسطيني واليهودي معا ويتصارعان على الأحَقيّة في ملك هذه الأرض.

وللوصول إلى اثبات الحق الفلسطيني اختار طريقَ المواجهة الفكرية والعلمية وذلك برز في حواراته مع مراد ومع أور، وفي حوار سماء وأيالا حول ما أحاق باليهود في أوروبا والمشاعر الإنسانية التي أبدتها سماء في ذلك رغم تعنت أيالا وعنجهيّتها. وفي حوار أور ونور حول ارتباط الفلسطيني مع اليهودي في المصير الواحد المشترك.

فليست لدى نور أيّة مشكلة أنْ يعيش مع اليهوديّ، ولكنّ المشكلة هي مع الصهيوني، وهو يسأل أور:

-هل أنت صهيونيّ حقّا أم يهوديّ فحسب؟

فيسأله أور: وما الفرق؟

فيُجيبه نور: ثمّة فرق شاسع.. فأنا لا أعتقد أنّ لي مشكلة في كونك يهوديّ، بل في كونك صهيوني. (ص107)

ويرغب أور في مواصلة الحوار مع نور فيستغرب ذلك ويقول له:

-الآن أصبحتَ تعترف بوجودي، بعد أن تسلّلتُ إلى داخلكَ؟

فيسرع أور ليجيبه،

-بل انتحلتني.. كما أنّك لا تعرف عنّي شيئا سوى بياناتي المتوافرة في بطاقة هويّتي وصورتي التي استبدلتها بصورتك.

فيردّ عليه نور موضّحا ما الذي يريده منه:

-تكفيني مَزاياك.. ملامحك اسمك الزاخر بالهويّة الأشكنازيّة الصهيونيّة. أريد أنْ أدرك حقوقك التي اخترعتها أنت فوق هذه الأرض.. حقّكَ بالوجود.. بالحريّة.. بالحركة.. بالاستيطان.. بالاحتلال.. بالاعتقال.. بالاغتيال.. حقّك بتشريدي ومصادرتي، ومطاردتي، وإقصائي، وتهميشي.. أريد أن أتعلّم الأسماء الصهيونيّة كلّها لكي أقوى على مواجهتك. أريد أن أدركك لكي لا أصير مثلك.. أريد أن أستخدمك لكي أتحرّر منك.

فيرد عليه أور مستغربا:

-حيّرتني.. كيف ستتحرّر مني وأنت تتقمّصني وتنتحلني الآن؟

فيجيبه نور: أنا لا أنتحلك.. أنا أدركك.. أتعلّمك.. أريد التعرّف على كيفيّة قيامك بالنظر على الواقع وأحواله. وعثرتُ بعد كلّ هذا الجهد على ذاتي منعكسة في مرآتك.

ويواجهه بالحقيقة الساطعة الجارحة بأنّ لا انتصار لأحدهما على الثاني، ولا فكاك لأحدهما من الآخر، يقول نور مخاطبا أور:

-“أنا وُلدْتُ منك من رحم صهيونيّتك ومن النكبة التي ألحقتها بي. وبالتالي أنا جزءٌ منك وأنتَ جزءٌ منّي وعندما أتعلّمك سأقوى على الانفصال عنك، وأنت أيضا ستنفصل عنّي…. “السرّ يكمن بالمرآة. المرآة هي المعادلة، هي التفاصيل … هي الكائنان: أحدهما مسيطِر وأحدهما خاضع. أنتَ أور مسيطِر وأنا نور خاضع، ولهذا يجب أن أُحطِّمَ المرآة!”. (ص132-134)

وتكون ساعة المواجهة الصريحة بين نور وأور بعد ثلاث سنوات على لقائهما في سوق الخردوات في مدينة يافا عندما يطرح نور سؤاله المفاجئ على أور:

-أور ما رأيك بي الآن في هذه الأيام الأخيرة من السنوات التي التصقنا بها معا بشدّة؟ ألا تعتقد أنّني إنسان ولست مجرّد كائن بلا اسم وملامح.. كائن مُصنَّف مُسبقا بوصفي إرهابيّا أو مُخرِّبا؟!

فيجيبه أور باستعلاء استفزازيّ:

-أنتَ أصبحتَ إنسانا خلال هذه المدّة بفضلي أنا.. بفضل هويّتي.

فيتحدّاه نور قائلا: فإذا ما نزعتُ قناعَك الآن، أفلا أصيرُ إنسانا؟

وصمت أور، لم يجد الكلمات لينطق بها.. ويحثه نور على الجواب، فتخرج كلماته لتكشف الرعب الذي يعيش فيه وأبناء شعبه.

-حسنا.. لا أعلمُ.. ربّما! لكنني أخشى من اختفائي أنا إذا ما أصبحتَ أنتَ إنسانا. (ص 234)

 وبهذه الكلمات تنكشف خدعة الآخر للعالم حيث إنّهم أوهموه بأنّ هذه البلاد مِنْحة الله لهم وما يفعله الآخر لهم ليس سوى اعتداء وحشي ممَّن لا وجود إنساني له.

الأرض تعرف أبناءها

-ألَم تجد مَساقا سوى التاريخ والآثار لكي تتخصّص به؟ سأله مراد بتهكّم خفيف، فأجابه نور متجنّبا ذلك:

-بل لم أجد ما أُفتَنُ به سوى التاريخ والآثار. (ص19)

هذا كان اختيار نور في مواجهته للمُحتل الذي فشل والد نور ومراد صديق نور في مواجهته. فالأرض هي مركز الخلاف والصّراع، والتاريخ هو المرتكز الأساسي الذي اعتُمد لتأكيد الأحقيّة في امتلاك الأرض وتبعيّتها. والآثار المتبقية عبر آلاف السنين هي الشواهد والتي تزيد اليقين، إضافة إلى الأسطورة التي حيكت حول هِبَة الرب لشعبه المختار.

هكذا خرج نور لتحطيم الأسطورة وكشف زيفها، ولإخراج الآثار واستخراج أسرارها ورواياتها، وكانت الأرض مركز الصراع هي المستودع الذي يحفظ أسرارها، وعلى نور فعل ذلك. وكانت ساعة التحوّل عند نور من رغبته في دراسة الحقوق ليكون محاميا ليختار دراسة التاريخ والآثار حين عمل لمدّة أسبوعين في نقل وغربلة التربة في موقع آثاريّ يقع غربي القدس تُشرف على التنقيب فيه إحدى الجامعات الأميركية. وعندما عثر في خباياها على قطع فخّارية وأختام ومَجَسّمات وعملات دُفنَت في التراب منذ آلاف السنين.

شعر نور وهو “يُلامس التراب بشغف الأرض ومسّته ببوحها السرّي، فالأرض لا تُثرثر بأسرارها إلّا للذين ينجحون بمُداعبتها بأناملهم الخبيرة، دغدغة لطيفة مخبّأة بالصبر والهدوء والعناد لكي ترتعش بالنهاية صارخة بأسرارها”. (ص20) وفي عمله مع بعثة الآثار في مجدو كان نور يتوحّد مع شغفه الأوحد، مُداعبة الأرض، دغدغة قشرتها سعيا وراء ثرثرة مستحبّة ثمّة طائل من ورائها، فبعد قليل ستُفصح حفرةُ الاختبار عن نشوة الأرض المتمثّلة بخفاياها ومجريات ماضيها الضاربة بالقدم. (ص169) كان نور يعمل بصمت. هذا هو عهده السرمديّ عندما يعود إلى الاتحاد مع الأرض، إذ يُخاطبها في سرّه، يُناشدها الحبّ واحتوائه بأحضانها ليُعيد لها رونقَها وأَلَقَها. وكان يتجنّب الخوض في نقاشات ستُشغله عن ممارسة عشقه للأرض.(ص170) ويصف ما أحسّ به عندما دخل أطلال قرية اللجون المُهجّرة والطريق إلى بئر مسك العطّار إذ تلبّسه الخيال والقى به أرضا، أرض واقع ملتبس ما بين خيال وواقع وأمان وحقائق وأحلام ووقائع، ليروَّض خياله بخيال آخر أشد واقعية من رؤاه الروائيّة ، وذلك عندما تفقّد بقايا القرية المتأصّلة بالتاريخ، ليستمدّ من حجارتها حقيقة وجوده في هذا المكان، وهي ليست مجرّد حقيقة، بل شرعيّة تُبرّر وجوده في هذه المستوطنة ما بين أور ونور، مستوطنة امتلكت ناصية الحيّز بزمانه ومكانه في تغاير يجعلها متعالية متجاوزة لما تُعانيه هذه البلاد . (ص205)

اهتم الكاتب أن يؤكّد حقيقة وهي أن الأرض كالأم تعرف أبناءها ولا تتنكّر لهم مهما غابوا عنها راضين أم مُكْرَهين. وهذا ما تابعناه من ارتعاش الأرض تحت وبين أنامل نور وهو يُداعبها ويحاول الوصولَ إلى أسرارها التي حاول الغريبُ إخفاءَها وتجاهلها وحتى نكرانها “مسّه شغف الأرض حينذاك، عندما عثر في خباياها على قطع فخّاريّة، واختام، ومُجسّمات، وعملات، دُفنت في التراب منذ آلاف السنين. مسّته الأرضُ ببوحها السريّ، هي التي لا تُثرثرُ بأسرارها إلّا للذين ينجحون بمداعبتها بأناملهم الخبيرة، دغدغة ً لطيفةً مُخبّأةً بالصبر والهدوء والعناد لكي ترتعش بالنهاية صارخةً بأسرارها. (ص20)

فنور كان وحده من بين كل أفراد مجموعات البحث والآثار مَن ينجح بالحَفْر والعثور على القطع والعلامات. ووحده، حتى ولو في الحلم، مَن نجح في النزول للبئر وفتح غطائه والدخول عبر فتحته والوصول إلى حيث وجد مريم المجدلية وسط مريديها يرتلون الصلوات الدينية معا؟

نور يتحرّر من قناعه أور شبيرا ويرمي بهويّته والقلادة ويعود ليكونَ نور الفلسطيني الذي اختط طريقَه وحدَّدَ هدفَه وعرف كيف عليه التّصرّف مع الآخر بفكره وأساليبه وقُدُراته.

 أخيرا

تبقى الجوانب العديدة التي لم أتناولها مثل الشخصيّات المختلفة التي كان لنور علاقة معها، واللغة الراقية التي كُتبَت بها الرواية، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وخاصة مُواجهة المُحتل وسلوكيّاته. فهذه كان قد تناولها العديد ممّن كتبوا عن الرواية.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *