د. صالح عبّود: مقاربات نقديّة سيميائيّة في الأدب العربيّ

 

KODAK Digital Still Camera

 

KODAK Digital Still Camera

د. صالح عبّود: مقاربات نقديّة سيميائيّة في الأدب العربيّ

أَمَلَكْتَ حَقًّا في الحِجى مُفْتاحًا    وَجَعَلْتَ مَمْنوعَ البُلوغِ مُتاحًا

يا ناقِدًا للمُبْدِعينَ مُحقِّقًا                يا كاشِفًا للْمُبْهَماتِ بَواحًا

إِنّي اخْتَبْرْتُ كِتابَكُمْ وَسَبَرْتُهُ              فَوَجَدْتُهُ لِلْحائِمينَ جَناحًا

أحْكَمْتَهُ مُتَحَرِّزًا بِمَهارةٍ                ثارَتْ إلى سُبُلِ السَدادِ رِياحًا

مَحْمودُ إنَّكَ جامِعٌ وَمُثَقَّفٌ    أَحْرَزْتَ أسْبابَ البُحوثِ نَجاحًا

أَلَّفْتَ مِنْ أَجْلِ الأَديبِ دِراسَةً     عَرَضَتْ بِكُلِّ قَرينَةٍ إيضاحًا

فَطبَعْتَ في مَتْنِ الخُلودِ مَقالَةً   شَعَّتْ بِرُؤْيا الناقِدينَ قَراحًا

 وَالآنَ أَعْرِضُ في كِتابِكَ رُؤْيَتي      وَأُبيحُ فيهِ معَ اليَقينِ مُباحًا

السيّدات والسادة،

مؤلّفُنا لهذه الأمسيّة اليوحانيّة الخميسيّة هو كتابٌ معدٌّ بعنوانِ: “الرؤيا والإشعاع: مقاربات نقديّة سيميائيّة في الأدب العربيّ”، للناقد والشاعر والمعلّم الصديق محمود جمال ريّان، والذي صدر للعام الماضي 2023 عن دار عيساوي للطباعة والنشر، وهي دارٌ تستأهلُ التقديرَ والثناءَ في كلّ محفلٍ أدبيٍّ في البلاد.

يتضمّنُ كتابُ المحتفى بهِ محمودًا، إحدى عشرَةَ دراسةً وقراءةً سيميائيّةً في نصوصٍ أدبيّةٍ نثريّةٍ وشعريّةٍ وموتيفاتٍ وشخصيّاتٍ ونظريّاتٍ تَنتقلُ وترتحل بالقرّاءِ في مساراتٍ ريّانيّةٍ إطارُها النَسَقيُّ يبدأُ معَ تقديمٍ يبيّنُ التزامنَ بين مادّة الكتابِ، ويوضّحُ تشكُّلَها في صورتِها مشروعًا أدبيًّا نقديًّا تنظيريًّا وتطبيقيًّا؛ يتعرّضُ لنصوصٍ وأعمالٍ منتخبةٍ أوّلُها روايةُ “أصلها ثابتٌ” للكاتب د. محمود خطيب، فقصّةُ “حياة” للكاتبِ الأديبِ محمّد علي سعيد، فقصّةُ الكاتبةِ د. كلارا سروجي شجراوي القصيرةُ بعنوان “هدهد العطّار”، فوِقْفَةٌ معَ شخصيّةِ نبيِّ الله يونس بنِ متّى عليه السلام وجماليّات المكان في النصّ القرآنيّ، فقصيدةُ “ليلة القبض على فاطمة” للشاعر عليّ هيبي، فقصّتا الأطفالِ “عفيف يحبّ الرغيف” و”الملك فهمان الزمان” للكاتب الأديب سهيل عيساوي، فبحثُ “تطوّر أدب الحبّ والعشق في العصر الوسيط والنظريّة حوله”، فرواية “رجال في الشمس” لغسّان كنفاني، انتهاءً معَ مسرحيّة “مأساة الحلّاج” للشاعر المصريّ صلاح عبد الصبور، ويشكّل هذا المتنُ البحثيُّ مقارباتٍ نقديّةً خليقةً بالقراءةِ والتدبّرِ والمراجعاتِ؛ نظرًا لما حشد فيها الباحث محمود ريّان من استقصاءٍ وإعمالِ بصيرةٍ وتأمّلٍ نَفقَ بها وأعانَتهُ بُلغَتُهُ فوصلَ من خلالها إلى غايتهِ محمودًا.

السيّدات والسادة،

إنّ أوّل ما انتابني وأنا رهين خاتمة المقالة الأولى من كتاب ناقدنا وشاعرنا محمود ريّان، وهي مقاربةٌ سيميائيّةٌ نقديّةٌ لرواية د. محمود خطيب “أصلها ثابتٌ”، وبعد الولوج الأوّليّ في قراءته السيميائيّة في بناء شخصيّة البطل والدلالة في قصّة “حياة” لمحمّد عليّ سعيد في سياق المقالة الثانية من متن الكتاب، شعورٌ بأنّني أقرأ البحث ذاتَهُ، فقد اتّصلا وتَضارعا في المنهج والموديل التحليليّ المعتمد حتّى بديا متّفقَيْنِ في الباب النظريّ رغم تباين ما فيهما من حيّزٍ ومعالجةٍ تطبيقيّةٍ خلقت بينهما تباينًا ما، والحقُّ أنّ قراءةً شموليّةً للمادّة النقديّة التي وظّفها ناقدنا في متن الكتاب لتفصحُ عن ناقدٍ واسعِ الثقافةِ رَحْبِ المعرفةِ طويلِ الباع في الإلمامِ بمدارس النقد والنظريّات السائدة في تفكيك النصّ الأدبيّ وتحليلهِ بما يخدمُ الكشفَ عن الدلالةِ، وكانت مطيّته في كثيرٍ من الأحيانِ منطلقاتٍ سيميائيّةً محدّدةً عونًا له في قراءاته وتبصراتهِ في نتاجٍ أدبيٍّ يمثّل مساحةً واسعةً من الأجناس الأدبيّة الإبداعيّة على غرار: الرواية والقصّة القصيرة والمسرحيّة وقصّة أدب الطفل والقصيدة التفعيليّة إلى جانب تفاعله مع موتيفاتٍ محوريّةٍ في التراث الأدبيّ الوسيط ولا سيّما مع مفهوم أدب الحبّ العربيّ.

وظّف ناقدنا كثيرًا من الموديلات النقديّة النظريّة ذات الأصول الأكاديميّة، ولعلّ أشهرَها الموديل الخماسيّ الذي ابتكره أستاذُنا وشيخنا النقديُّ العلّامةُ البروفيسور إبراهيم طه حفظه الله، والذي يعتمد خمسَ مراحلَ متتابعةً في فحص الشخصيّة المحوريّة في النصّ الأدبيّ، بدايةً مع مرحلة ما قبل الفعل (Motivation) والتي تهتمّ بكشف محفّزات الشخصيّة ضمن حَبكة القصّة روايةً كانت أم قصّةً قصيرةً، انتقالًا إلى مرحلةٍ ثانيةٍ هي مرحلة الرغبة (Will)، وهي إحدى آليّات كشف حركة الشخصيّة محلَّ الاهتمام والبحثِ ضمنَ رغباتٍ تُلحُّ عليها، تتمثّل في أفعالٍ تؤدّيها في مستوى الإقدامِ أو الإحجامِ، مرورًا بمرحلة القدرة (Ability)، والتي ترصد ما للشخصيّة من أسباب القدرة على تحقيق رغبتها معلنةً كانت أم مُضْمَرَةً، انتهاءً إلى مرحلة الفعلِ أو الأداءِ وهي التي تمهّد للمرحلة الخامسة الأخيرة التي يُطلَقُ عليها مرحلة ما بعدَ الفعل أو مرحلة الإنجاز، غيرَ أنّ ناقدنا يوسّعُ مدارات استنباطهِ الدلالات الطافية في يمِّ النصوصِ وتلك الغارقة في عمقها، فيستعين بنشاطات ما بعد النصّ (Post Reading Activity) ويُبلي من خلالها بلاءً سيميائيًّا محمودًا.

نجدُ حضورًا للموديل المُشار إليه في مقالتيه الأولى والثانية بشكلٍ لافتٍ، ممّا يدلّ على استجابتهِ لمطلب الناقد ريّان والذي تركّزَ في معالجاته التحليليّة في مجالِ الدلالة والمعنى، كما أنّه أرفق للموديل الخماسيّ ما يعزّز توظيفَهُ في سيرورةِ البحثِ والتمحيصِ، فاستعان ببعضِ المُوَجِّهاتِ النافعةِ التي أعانته في تحقيق ما يصبو إليه، ولعلّ خيرَ شواهدِها التفاتُهُ لمنظومة العنونةِ في بعضِ أبحاثهِ كما فعل في مقالته الثانيةِ حول قصّة حياة القصيرة للأديب محمّد عليّ سعيد، كما استرفد بمعيارِ القصديّةِ (Intention) لدى الراوي أو الكاتب الضمنيّ، فهو من الذاهبين إلى أنّ كلّ نصٍّ إبداعيٍّ يحملُ قصدًا بالضرورةِ، وأنّ النصّ ليس مخلوقًا عفويًّا، وأنّ دور القارئ المتلقّي يبدأ معَ محاولاته فكّ شيفرةِ القصديّةِ في النصِّ.

يعتمد ناقدنا منهجيّةً نظريّةً تتورّكُ إلى معاييرَ كمّيّةٍ ونوعيّةٍ معًا، ممّا يقيّضُ لقراءته السيميائيّة سَعةً ووفرةً من التعليلات والتوجّهات الاستدلاليّة، وهذا ما يطيلُ مساحة تناولهِ تلك الشخصيّات والموتيفات بأسلوبٍ مسترسلٍ مستفيضٍ في معظم مادّة كتابهِ ولا سيّما في بحثيهِ الأوّل والثاني وكذلكَ في قراءته السيميوطيقيّة لحضور شخصيّة يونس النبيّ في ضوء النصّ القرآنيّ ودراسته للبناء الفكريّ والفنّيّ والبِنية الرمزيّة ومركّباتها في رواية كنفاني “رجال في الشمس” وغيرها أيضًا.

لطالما استهلّ ناقدنا مقالاتِه المُعدّةَ بعرضٍ مُنمّقٍ مُحقّقٍ للمنهج الذي تتبنّاه، فَكان بذلك مقتدرًا على سبر غور النصوصِ بشاكلةٍ يسيرةٍ غير عسيرةٍ على إنجازِ ما باشرتَ فيهِ..

السيّدات والسادة،

صدقَ أبو البقاءِ الرُنْدِيُّ في قوله:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ        فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدْتُها دُوَلٌ           مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وناقدنا كحالِ سائر النقّادِ، الذين وقعوا في سهوِ من يعملُ ويصبو للكمالِ، ولولا ما وجدتُه من بعضِ الحشوِ والتَكرارِ غيرِ المُغني في متنِ الكتابِ لكانَ كتابُكَ أحصفَ وَأقومَ قيلًا واكتمالًا، وما ذلكَ بنقيصةٍ فيه، فقد أغنيتَ في كتابكَ غَناءً وأسديتَ سدادًا نشهدُ بهِ شهادةً وحضورًا..

عزيزي الناقد والكاتب الشاعر محمود ريّان…

ما قدّمْتُه الآن ليس إلّا غيضٌ من فيضِ ما يلزمني معَهُ وقتٌ وحيّزٌ أطولُ وأوسعُ كي أستوفيَ ما لكتابك من فوائدَ ومنافعَ، ولا سيّما للدارسين وطلبة العلم والنقد والأدب، فكتابك يشكّل كشافًا للمصطلحات النقديّة والأدبيّة الهامّة التي يحتاجها كلّ مشتغلٍ بهذه الصناعةِ الرفيعةِ، كما أنّك ضمَّنْت دراساتِكَ كثيرًا من المراجعِ الأمِّ في شتّى القضايا النقديّة والأدبيّة، ممّا يهيّئُ لقرّاءِ الكتابِ اطّلاعًا وانكشافًا على مجهودٍ ثريٍّ يسهم في تقعيدِ موجّهاتٍ تحليليّةٍ نظريّةٍ وتطبيقيّةٍ جديرةٍ بالتَجِلَّةِ والتقديرِ.

أنت ناقدٌ جريءٌ أتوسّمُ في قابلِ عمركَ أن تأتينا بالمزيد من الدراسات التي تشهد على علوّ كعبكَ وهمّتكَ وصدقِ عزمكَ وعزيمتك في طرقِ أبوابٍ تنظركَ فاتحًا لها فتحكَ المحمودَ أيّها المحمود..

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

عدلة شدّاد خشيبون: فؤاد مفيد نقّارة في صيده وصنّارته

عدلة شدّاد خشيبون فؤاد مفيد نقّارة، في صيده وصنّارته صيّاد.. هو ذاك الذي يحمل بيده …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *