د. روزلاند كريم دعيم: عن كتاب “إشراقات حيفاوية” لفؤاد أبو خضرة

د. روزلاند كريم دعيم

نادي حيفا الثقافي- 12.12.2025

في الليلة الظلماءِ تُفتقدُ الشمسُ – عذرًا من الحمداني أبي فراس

“في لحظةِ شروق الشمس، تتلاشى كل هموم الأمس، وتولد أحلامٌ جديدة.”

هذه الشمسُ التي اشتركتُ بها مع فؤاد وغيرِه كلَّ صباح… هو من خلال عدستِه وأنا من مكانِ تواجدي. قد نكون صورنا المشهدَ ذاتَه في اللحظةِ ذاتِها ولكنْ من زوايا خطابٍ مغايرة وبأجهزة بصرية مختلفة، ولعل الحيزَ المشترك بينَنا هو الذي يعززُ هذا الشعور.

يعترف المصور المبدع بأن شروق الشمس هو لوحة الفنان بقوله:

“تُشرق الشمس على حيفا كأنها تبتسم للمدينة الساحرة التي تحتضن شروق الشمس كل صباح لتبدأ يومها بألوان زاهية تلتقي مياه البحر بأشعة الشمس في لوحة فنية باهرة” (ص 6).

ويقول: “حيفا في الصباح لوحة من الإشراق والأمل، حيث يلتقي البحر والجبل في حُضن مدينة لا تزال تنبض بالحياة رغم كل شيء” ص 78، وكأني به يشير إلى كل شيء حدث في حيفا ولحيفا وهو كثير.

ويعتبر الكلماتِ رسمًا فيقول: سلامًا على من كتب الحروف فأتقن جمال رسمها.. وسلامًا على من قرأ الحروف فأبدع في فهمها…” ص 76.

نُسبَ لكونفوشيوس القولُ إن الصورةَ الواحدةَ تساوي ألفَ كلمةٍ، وقد يكون لغيره، إلا أنَّ ما يهمُّنا هنا هو ذكاءُ المبدع المكانيّ، من ذكاءات جاردنر، الذي نجح باكتشاف المكان ونقلِه بحرفيةٍ مطلقة.

منذ أن عرفت فؤاد أراه يحمل كاميرته ويوثق كل صغيرة وكبيرة؛ من مناسبات ومشاهد ومواقف ومناظر طبيعية وفعاليات وأنشطة، ولا أنسى فضله بتصوير محاضراتي في أكثر من مناسبة أو تزويدي بصور قديمة نادرة لأكثر من غرض. أما التصوير لإشراقات حيفاوية، فقد حصلنا منه على صباحات وإشراقات مختلفة تم توثيقها في لوحات فنية. ولو كنا في عهد البطاقات، لشكلت كل لوحة بطاقة بريدية جميلة، أو غير ذلك من المنتجات التي تحمل صورًا جميلة. ولكن مما لا شك فيه أن في اللوحات محفزًا لوضعها في إطار لتزيين الجدران في المنازل والمكاتب، كما يمكن أن تتحول إلى لوحة بازل مثيرة يركب أجزاءها من يرغب بفعالية مثيرة ليكتشف الصورة الكاملة من خلال جزيئاتها.

بين المشهد الكامل والمشهد المتكون يطل علينا المفكر الألماني ليسنغ ليذكرنا بأن الصورة في الحيز فن مكاني، بينما الكلمة في النص فن زمني يتطلب وقتًا لقراءته. ولكن بما أن اللوحة في الكتب المصورة عادة هي التي توجه نحو قراءة النص، فإن الحوارات الصباحية في إشراقات حيفاوية قد تمت ترجمتها إلى نصوص جرافية من حروف وكلمات اختارها صاحبها بعناية فائقة ليحاور أصدقاءه من جهة، وليحاور الحيز والمشهد البارز به (tableaux scenes) في لحظة زمنية محددة من جهة أخرى.

يحمل الإصدار مائة لوحة وكأنني بها تشبه مائة لوريس ملاجوتشي الإيطالي (1942)، الذي قال إن الطفل مصنوع من مائة لغة: وهنا- مائة مشهد، مائة حوار، مائة طريقة تفكير، مائة لعبة، مائة كلمة، مائة انفعال، مائة عالم ومائة ومائة ومائة.

ولو عدنا إلى الإصدار “إشراقات حيفاوية” لوجدنا أن ألوان لوحة الغلاف معتمة رغم جمالها، تجرجر معها ذيل الليل إيذانًا بصباح آتٍ وشروق وشيك، وهي تقنية سيميائية لا تخفَ عن المصور الفنان الذي يعرف كيف يصطاد المشهد بعد رصده.

ولعل ما يؤكد ذلك هو ظهور العنوان مشرقًا بلون الصباح الذي يطرد بقوة عتمة الليل وما يتبعها من أوقات وساعات حتى “تتسلل أول خيوط الشمس من خلف البحر”، لـ “تجمع بين ضوء جديد وحكاية مدينة لا تنام على ضجيج، بل تصحو على الأمل”.

في مقدمته أوضح المصور المبدع موقفه من تأملاته الصباحية مؤكدًا علاقة الإنسان بالضوء، أول أعمال الخالق في الكون: “وكان نور”.

يكشف لنا المبدع جزءًا من ذاته ومن حواره وهمسه الصباحي الذي لم يلتزم بصمت شهرزاد حين أدركها الصباح. هذا الهمس الذي حفر عميقًا في الحيز وعايش كل مشهد بشكل مختلف، مستنطقًا ما به من خبايا وكنوز وأسرار، ممتنًا لحيفا العشق، السيدة الجميلة، فلا شيء يشبه حيفا.

أما عن الكتاب، فأقف حائرة بين دفتيه؛ لوهلة حسبته ألبومًا للضوء، وإذا به مداولات مع الفجر، كقول صاحبه (ص 55): “يبقى الصباح كتابًا مفتوحًا للحياة.. لا نقرأ منه إلا الابتسامة والأمل.”

أقف أمام صور لشروق يتكرر، لكن هل يتكرر الشروق في حيفا؟

كيف يتكرر وكل شروق يجيء بوجه، بنبرة، بملامح، وبحكاية مدينة ولدت من ضلع جبل ورحم بحر. لا صورة تشبه الأخرى ولا مشهد يشابه غيره.

بين الصورة والكلمة مسافة كلام لا يُقال، إذ ترتدي الكلمة ألف صورة، وتحمل الصورة ألف معنى. تحمل الصورة شروقات وإشراقات… وتحمل النصوص الكلامية حوارًا مغايرًا؛ حوار الرقي والأخلاق، حوار البهجة والسرور، حوار الخير والأمنيات، حوار الفصول، حوار الأزهار والعطور، حوار الحقول والقلوب، وغيرها الكثير.

في صراع النظر الأول، تتملك الصورة انتباه القارئ، مزاحمة اللوحة في خلفية ما يُقرأ من كلام.

برقيات صغيرة من كلام راقٍ ورقيق تحمل كل برقية رسالة خاصة، تنسجم غالبًا مع زمن كتابتها، كقوله: “في شهر أيلول.. فيه تتغير الفصول.. نتمنى أن الحرب تزول.. ونستيقظ من حلم الخمول.. ويحل السلام فوق التلول.. والمطر يغمر الحقول.. والسعادة تغطي الوحول.. صباحكم شهر أيلول.” ص 9.

أو حين تلقط عدسته في أحد صباحات الشتاء قوسًا كاملًا (ص 74) فيتناص مع المثل الشعبي الذي يوثق حضارة الطقس والموسم: “إن قوست باكر احمل عصاتك وسافر…”

كل برقية عبارة عن صورة من كلمات تنافس صورة المشهد حتى تنسجمان في مخيلة القارئ، فيقرأ النص ويمعن في اللوحة مرة ومرة ومرة ليفهم تفاصيلها ويعيش عظمة الخالق.

ومن رسمه للكلام الجميل وطرحه في أجمل الأساليب قوله:

“من خيوط الشمس الذهبية

ومن زهور البساتين الندية

ومن زيتونة حيفا الأبية

لكم مني تحية صباحية

أنتم الجوهرة اللامعة الفضية

وأنتم قطرات عسل شهدية

صباحكم زهور عطرية”

وأخيرًا

أشكر إصغاءكم.

أشكر الفؤادين وسوزي وجاكلين وصباح على فرصة القراءة المغايرة لكتاب مغاير يختلف عما سبقه من كتب، ونحو مائة لوحة أخرى.

المجد لله في العلا

وفي الناس المسرة

وعلى حيفا السلام… حيث يتوجها ذهب الصباح.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

عماد قسّيس: سعيد نفّاع العرب الدّروز 48 وحجارة الرّحى- (الواقع والتحدّيات) وجهات نظر دراسيّة”

  عندما اتّصل سعيد نفّاع ليطلب منِّي تقديم هذه المداخلة عن كتابه، كنت أقرأ كتابا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *