د. رنا صبح: نادي حيفا الثقافي، محضن للثقافة المستدامة

 

د. رنا صبح

نادي حيفا الثقافي

محضن للثقافة المستدامة

 

إنّ المتابع لنشاطات نادي حيفا الثقافي يدرك أنّه أمام كينونة ثقافية عريقة، تمثّلُ مظلّة جامعة لمظاهر الثقافة المكتوبة.. ومنبرًا للفكر والإبداع.

نرصد على هذه العجالة أهمّية دور نادي حيفا الثقافي في تبنّي واحتضان الحِراك الثقافيّ المحلّي، وفي تنمية الإبداع الكتابي، وفي استحضار المنتَج الأدبي والفنّي المحلّي، ليعزّز دوره في أن يكون محضنًا مستدامًا للثقافة المحلّيّة.

حين نتحدّث عن الاستدامة، فإننا لا نُدلي بمصطلح عصريّ عابر، بل نستحضر جذرًا في اللغة، وعمقًا في الفكر، ورؤية في الوعي. فالاستدامة، لغويًّا، من الجذر “د.و.م”، وتعني البقاء والاستمرار، لا لمجرد البقاء، بل للبقاء ذي القيمة، البقاء الذي يحمل معنى، ويحفظ أثرًا.

وقد شاع استخدام المصطلح في سياقات البيئة والاقتصاد، للحديث عن حسن إدارة الموارد وضمانها للأجيال القادمة.. ومن ذلك الاستدامة الثقافية الموكلة بحفظ الثقافة والممارسات الثقافية وتحويلها إلى عادة يوميّة، وتحويلنا إلى جسر يربط الماضي بالحاضر، ويُمهّد للغد..

نحن في زمن التحدّيات ..

فنحن في قلب عاصفة اسمها العولمة، نتلقّى موجات من الفكر المستورد، نستهلكه أحيانًا قبل أن نفهمه، ونعيد نشره قبل أن نهضمه، لكنّنا لسنا ضدّ التيّار.. لسنا ضدّ الريح، بل نحن مع العقل، مع النقد، مع الفهم، ومع تحويل كلّ ما يأتي من الخارج إلى فرصة لبناء ذواتنا الثقافية..

أما الأزمة الكبرى، فهي أزمة تلاشي القراءة؛ فالصفحات الورقية تتراجع، والمكتبات تُغلق، والكتاب بات غريبًا، فيما الصفحات الإلكترونية تُغري ولا تُثري. ولا أقول قولي هذا رفضًا للتكنولوجيا، بل رفضًا لتغييب الوعي، فالبرمجيات والشاشات تحمل كمّا هائلًا من المعلومات، لكن دعونا نتساءل: هل كلّ قراءة ثقافة؟، فنحن أمام طوفان معلوماتيّ، لكنّه طوفان بلا بوصلة، قد يجعل من الجهل خيارًا تكنولوجيًّا متاحًا.

وفوق ذلك، نعاني أحيانًا من تواضع في المنتج الثقافيّ، لا كمًّا فحسب، بل نوعًا أيضًا، ليصبح المشهد الثقافي لوحة مزيّنة بمجاملات وانطباعات تصنع أصنامًا من كرتون، تتهاوى مع أوّل سؤال، وتغيب مع أوّل اختبار.

نتساءل إذًا كيف أثّر نادي حيفا الثقافي في رسم ملامح المشهد الثقافي المحلّي في حالته المستدامة إزاء كلّ هذه التحديات؟

لم يكن نادي حيفا الثقافي مجرّد صالون ثقافي يفتح أبوابه لأمسيات تُوزَّع فيها الكتب، بل كان — وما زال — منصة حيّة للفكر والنقد والإبداع، ورافدًا أصيلًا من روافد الثقافة المحليّة، يُغذّي المشهد الثقافي، لا بالمواسم والمناسبات، بل برؤية، وبُعد، واستمراريّة. هذا النادي أثبت على امتداد قرون أنّه حالة ثقافية، إنسانيّة، عابرة للزمن، تقاوم النسيان، وتصنع الحضور.

هو النادي الذي لم ينتظر الثقافة أن تأتيه، بل خرج إليها، نفض عنها الغبار، وأعادها إلى واجهة الحياة.. هو النادي الذي عمل على دفع عجلة الحراك الثقافي، وتنميته، وصيانته، والأهمّ: استدامته.. فجعل من الثقافة نمطَ حياة، لا طقسًا عابرًا، لتغدو أمسياته مساحات من الأناقة الفكرية، وحواراته نوافذ تُطلّ على الجمال والتنوّع والجرأة في الطرح.

لقد تمكّن النادي من إنتاج صورة حضارية مشرّفة، تنطق بالعقل، وتتنفّس بالإبداع، وتحتفي بالاختلاف تحت سقف الفكرة.. فلم يكتفِ بالاحتفاء بالمبدعين، بل جعل من كلّ أمسية ورشة وعي، وجلسة انتماء، ومختبرًا لفكرٍ لا يُساوَم.. ولم يكتفِ باستضافة القامات، بل صنع منها منصّة، وجعل من كلّ لقاء لَبِنةً في صرح الثقافة المحلّية.. ولم يكتفِ باستقطاب المواهب وصقلها، بل أطلقها من ضيق الزاوية إلى رحاب بلادنا ورحابة العروبة.

وقد وعى نادي حيفا الثقافي منذ تأسيسه أن الثقافة لا تنمو في بيئة المجاملة، بل في مناخ النقد.. فلم يكتفِ بعرض الأعمال، بل فتح لها أبواب المساءلة، وأفسح للنقد الجادّ أن يقول كلمته، فكان بذلك شريكًا في تجويد النتاج الأدبي. فلعب النادي دورًا محوريًّا في تحقيق التوازن بين وفرة الإنتاج، وندرة التقييم الموضوعي، فجعل من النقد الثقافي بوابةً للارتقاء، وقدّم قراءات رصينة، وتحليلات عميقة، تُمسك بنبض الواقع، وتُوجّه دفة الكتابة نحو قضايا جديدة، ونظرات حديثة تواكب الأدب العالميّ دون أن تنفصل عن الجذور.

لقد نجح النادي في أن يكون محضنًا حقيقيًّا للمشهد الثقافيّ، ونجح في عملية تعزيز مكانة اللغة العربية، بوصفها وسيلة تواصل، وركيزة هوية، ووعاء فكر، وجسر بين الأجيال.. ونجح في أن يكون شاهداً على التحوّلات، وأن يكون فاعلًا فيها، ومحرّكًا لها، ومُستشرفًا لما بعدها.

نلتقي في النادي، للاحتفاء بإصدار كتابين يُجسّدان عطاء نادي حيفا الثقافي، نلتقي لنوثّق ذاكرتين من الحضور، وعهدين من الوفاء، ومسيرتين من تاريخ ناصع بالجهد والثبات، ولنشهد إعلانين صريحين بأنّ الثقافة هنا لم تكن زائرة، بل مقيمة ومنتمية.

في الختام..

نادي حيفا الثقافي…

هو حكاية تُروى، وذاكرة تُدوَّن، ورسالة لا تسقط بالتقادم.

واليوم، هذا النادي لا يُكرّم، بل يُكرّمنا …بما قدّم، بما أثمر، وبما أورق من عطاء ثقافي أصيل، لا يشبه إلا ذاته.

نادي حيفا الثقافيّ.. أنتَ لنا كتاب لا يُغلق، وصوت لا يصمت، ومسيرة لا تُطوى.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

محمّد علي سعيد: إضاءة في قصّة اليافعين “طريق الأمل” للكاتبة صباح بشير.

محمّد علي سعيد إضاءة في قصّة اليافعين “طريق الأمل” للكاتبة: صباح بشير. عنوان الكتاب: طريق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *