د. راوية جرجورة بربارة: نصّ المداخلة التي أُلقيت في أمسية إحياء ذكرى الشّاعر شكيب جهشان في نادي حيفا الثّقافيّ

                                  د. راوية جرجورة بربارة

                                 حركة الزمان في قصائد المكان

              قراءة في ديوان “صوت الوشوشة” للشاعر شكيب جهشان

  مساؤكم كنبل أخلاقكم وعاداتكم وتقديركم واحترامكم، فربّما نكون نحن من الشعوب الطلائعيّة التي تكرّم شعراءَها أحياءً كانوا أو أمواتًا، على اعتبار خلود الكلمة الجميلة فلا يحدّها زمان ولا مكان، وعلى اعتبار تقديرنا لوجودنا على هذه الأرض، فترانا كما نفعل اليوم: نحتفي بقصائد لم ينشرها الشاعر في حياته، إنّما دأبت زوجته الوفيّه وأولادُه على تجميعها، وطباعتها، وإخراجها للضوء ولو بعد سنوات كثر على فراقه لنا، فتواصلت معي أمّ إياد بإصرارها على الوفاء لمن اختارها لتكون شريكة عمره وأمّ أولاده، واختارتني بدورها لأساعدها على تصنيف القصائد، فقرأتها وصنّفتُها في أربعة أبواب: باب البلد، باب الحلم والواقع، باب الآخر، وباب الأبوّة،  وبعد مشاورة بيني وبينها كان القرار بترك بعض القصائد دون نشر.

   في هذا الديوان كنت الطالبة المجتهدة، محبّة اللّغة العربيّة التي طالما اعتزّت بأساتذتها، والتي كانت على مدار سنتيْن، في المرحلة الثانويّة، ينتدبها أستاذها شكيب جهشان لتفتتح حصّة اللّغة العربيّة بقراءَتها، كان يكفيني هذا لأعرف مدى تقدير أستاذي الغالي لي، يشجّعني بصمت، يحبّب تلاميذه في اللّغة العربيّة،  هذا أستاذي وأستاذ كثيرين في القاعة ممّن يفاخرون بأنّهم تتلمذوا على يد الشاعر شكيب جهشان، هذا أستاذُنا فجيؤونا بمثله؛ إنسانًا، زوجًا، أبًا، جدًّا، شاعرًا، أستاذًا متمكّنًا من درسِه، مثقفًا، محبًّا لِما يفعله ناقلًا العدوى لنا.

ستتركّز ورقتي هذه حول حركة الزمان في قصائد المكان، وذلك في كتاب “صوت الوشوشة: من القصائد المخبّأة في دُرج الذكريات”، للشاعر شكيب جهشان

والسؤال المطروح: هل يختلف المكان الشّعريّ عن المكان الحقيقيّ الواقعيّ؟ هل تؤثّر حركة الزمان على شكل المكان؟ هل يمكن أن يكون المكان شعوريًّا، متخيَّلًا مختلفًا عن جغرافيّته الحقيقيّة؟

 إنّ تعريف المكان حسب آن شكمان هو”مساحة ذات أبعاد هندسيّة أو طبوغرافيّة تحكمها المقاييس والحجوم”[1] . إلّا أنّ هذا التعريف لا يتوافق مع ماهيّة المكان الشِّعريّ، فللمكان الشّعريّ رؤية أدبيّة لا تحكمها المقاييس والحدود .

تقول ( سيزا قاسم ): المكان “هو الإطار الذي تقع فيه الأحداث”[2]. وهذا تعريف عاديّ، إذ لا يمكن أن يحدث شيء خارج إطار المكان، لكنّ المكان الشّعريّ ليس بهذا الوضوح، وليس بهذه البساطة؛ فالمكان محكوم بعوامل أقوى من طيبوغرافيّته، المكان محكوم بحركة الزمان، ومحكوم بالانعكاسات الزمنيّة والنفسيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والجغرافيّة والشخصيّة وغيرها[3].

إنّ الأبعاد الهندسيّة والطبوغرافيّة تمثّل في الحالة الشّعريّة حدود الذكريات، أو حدود الواقعة التي حدثت فيه، وتمثّل كذلك الرؤية الأدبية، وعلى هذا فالمكان في الأدب تشكيل رؤيويّ وليس مساحة محدودة، متعارَف عليها، ذات أبعاد هندسيّة، وبهذا يصبح المكان “جزءًا من التجربة الذاتيّة بعد أن يفقد صفاتِه الواقعيّة ارتباطًا باللحظة النفسيّة …”[4].

والسؤال الذي يطرح نفسَه هنا: هل هناك فرق واختلاف في توظيف البنى المكانيّة ما بين الشّعر والنثر؟ وبرأيي، فالإجابة نعم لأنّ المكان في الأعمال النثريّة هو هذه المساحة الجغرافيّة التي تحدث فيها الأحداث: البيت، المدرسة، الساحة، تحت الشجرة، سطح القمر.. مجرّد وعاء يملأ الحدث، بينما انعكاسه في التجربة الشّعريّة يختلف تمامًا، فيكون المكان جزءًا من المشاعر، والحالة النفسيّة، جزءًا متمّمًا للعلاقات، وليس مسرَحًا للأحداث فقط.

وعليه فإنّ الاحتكام إلى تعريف المكان وضبطه في حدود معيّنة لا يجوز في المكان الشّعريّ، لأنّ المكان الشّعريّ هو كلّ ما لا يمكن التعبير عنه نثرًا[5] لأنّ كلّ ما يدخل في بنية الشعر يندمج ضمن المعنى والرؤيا والدلالة، من غير إمكانيّة فصله وإعادته لحدوده الأوّليّة الجغرافيّة.

إنّ الفكرة حين اقتطاعها من سياقها الواقعيّ وتضمينها في بنية شعريّة ستتحوّل إلى الرمزيّة، وتنقلب من المعنى (Meaning) إلى الدلالة ((Significance ، وبهذا تنتقـــل من عالمها الخاصّ إلـى عوالــم متداخلــة يمكننا أن نطلق عليها “العوالـــــم الشعريّة”، وهكذا تكون الصورة الشّعريّة للمكان “غير واقعيّة وإن كانت منتزعة من الواقع”[6] .

 وبهذا فإنّ توظيف المكان شعريًّا يسير في مساريْن: مسار التشكيل الشعريّ (المعنى)، ومسار التأويل (الدلالة)؛ وهكذا يخرج القارئ من كونه مجرّد متلقٍ سلبيّ إلى منتجٍ مشارك في إحياء القصيدة حسب مفاهيمه وتجربته وثقافته، وهذا البُعد تتيحه قراءة المكان الشّعريّ في حركة الزمان؛ إذ أنّه ضمن مسار المعنى يتشكّل المكان وفقًا لرؤية شعريّة، حتّى لو تحكّم فيها الخيال، وهذا ما يمنحه بُعدًا تأثيريّاً جماليًّا، أمّا ضمن مسار التأويل فتجربة الشّاعر تلتقي بتجربة القارئ المتلقّي، ويكون لأحاسيس المتلقّي ورؤيته الذوقيّة، ومعرفته الأدبيّة، وتجربته الشخصيّة والجمعيّة، وأسسه النقديّة أثر في صياغة تجربة الشاعر وتأويل المكان الشّعريّ، وبهذا يكون المكان المدمج في بنية القصيدة منفتحاً على عالم التخييل، وعالم التاريخ، وعالم الجغرافيا، وعوالم أخرى عديدة اجتماعيّة وسياسيّة وغيرها.

   في قصائد الديوان نسمع صوت المكان على اختلاف ساكنيه، وعلى اختلاف تأويلاته السياسيّة، الجغرافيّة، التاريخيّة والاجتماعيّة، لأنّه كما قال محيي الدين ابن عربيّ “الزمان مكان سائل، والمكان زمانٌ متجمّد”؛ وعلى مرّ الزمن تغيّر هذا المكان فجرى كالنبع يغيّر ساكنيه وقاطنيه وأهلَه ووارديه، فمنهم من تبخّر وأمطر فوق أماكن أخرى، ومنهم من جرفته الأيّام، ومنهم من تشبّث بجذع الأمل، وبقي هنا كأستاذِنا شكيب جهشان، بقي يحفر في صخر الكلمات ذكرياتِنا؛ ففي الباب الأوّل من الكتاب “باب البلد” نجد جملة تحوي الزمكنيّة التي سأتطرّق إليها في ورقتي هذه: “ها هي الأزمنهْ، فلماذا تكون النهايات دومًا إلى ساحة الولدنهْ؟” سؤال يأخذنا إلى النوستالجيا؛ فلماذا كلّما سار فينا العمر نحنّ أكثر إلى ماضينا وذكرياتنا؟ وشاعرنا حنّ إلى الأماكن التي كان فيها، التي سال فيها الزمان ومرّ، إلى الأماكن التي قضى فيها أيّام طفولته، إلى ساحات الولدنة؛ هذه الساحات التي شكّلت ضمن مساحتها وشكلها الحركة والتصرّفات، وبما أنّ المكان يحدّد شكل الحركة، فكيف تكون الحركة في الساحات؟ انطلاق، حريّة ، اندفاع… وكيف كانت حركة شاعرنا؟ كانت حركةً زمنيّةً لا نحو الحاضر ونحو الماضي ونحو المستقبل فحسب، بل نحو الأماكن التي شكّلت ذاكرتَه الشخصيّة، وذاكرة قرانا الجمعيّة، ذاكرةَ بيوتِنا، وتاريخَنا الاجتماعيّ: ففي قصيدة “عودة إلى بيتنا القديم” تتراكم الأماكن “تحت الدالية ، في نواصي الجدار، البيادر، تحت سقف السماء، طرقات اليمام، شرفات الغمام، ساحة الولدنة، سوق السنابل، ساعد الدار، الوكر، والكون…”

 إنّ الحركة الزمنيّة في المكان أعطته شكلًا مختلفًا، فهو ليس المكان الذي يراه الآن بعينيه، إنّما هو المكان المتخيَّل المستنبط من ذاكرته الطفوليّة، هذا المكان الذي عجّ مرّة بالمشمشة والدالية، بالرائحة، بالأصوات، بالوشوشة، بصوتِ خطى أمّه، كلّ هذه المفقودات الآنيّة كانت موجودة هنا قديمًا، فالمكان زمان سائل، سار به الزمان ولم يبق على حاله:

ها هنا كانت المشمشة

وهنا كانت الدالية

لم أزلْ أسمعُ الوشوشة

وخُطى أميَ الآتية[7]

 هذا المكان يغيّر المعايير الزمنيّة، ففي الماضي “كانت المشمشة”، “كانت الدالية”، ينتقل للآن الحاضر معلّقًا إيّاه بالماضي البعيد عن طريق تخيّل الأمّ،  وسماع صوت خطاها الآتية؛ تختلط عليه الأزمنة، لأنّ الماضي عنده كان أجمل، لأنّ هذه الأماكن لا تشكّل ماضيه فحسب، بل تشكّل تاريخَه وجغرافيّته، وتاريخَ قرانا وجغرافيّة شعبِنا، وعاداتنا وتقاليدَنا وظواهرَ بيئتنا الطبيعيّة، ففي نواصي الجدار نبني للحمام تنكًا يأوي إليه، والدوريّ لا يترك نهاراتِنا:

في جفون النهارْ

عينُ دوريّةٍ لا تنامْ

وعلى حفَّة

في نواصي الجدارْ

تنكٌ للحمامْ[8]

وينتقل من التهيّؤات بسماع خطى أمّه، ومنظر الدوريّة والحَمام، ليتحسّر على تلك الليالي التي قضاها طفلًا يعدّ الرعود، ويتساءَل من ضيّع منه تلك الأيّام، يرسم لنا صورةً متخيّلَةً جميلةً مكثَّفَةً قرب موقد النار، وطعم الشتاء والاصطلاء بالنار، بحوالي عشر كلمات، وبذكاء الشاعر الفنّان رأينا الموقد والنار وسمعنا طقطقات اللهب، وعرفنا أنّ العائلة جلست تتدفّأ قرب الموقد في ليالي الشتاء الماطرة:

من تُرى ضيّع الموقدا

والليالي

وطعم الشتاءْ

نصطلي واحدًا واحدًا

ونعُدُّ رعود السماءْ

وكيف عاد شاعرنا إلى كلّ هذه الأماكن المتراكمة؟ بالتجريد؛ جرّدَ من داخله طفلًا يتذكّر معه ذكريات الماضي، جرّدَ الولدَ المستميت على لحظاتٍ عاشَها ويتمنّى أن يحياها ثانيةً، يخلط بين واقعه الماضي وواقعه الحاليّ، وبين المتخيَّل الذي يراه من طفولته، والمتخيّل الذي يريده الآن ولا يستطيع استحضارَه؛ ينفصم الشاعر بين الولد الذي كانَهُ، والولدِ المختبئِ داخله يريد أن يخرج ويعيد الذكريات:

أيّها الولدُ المستميتُ على لحظةٍ من زمان البيادر

والقمر المرمريّ

ويا أيّها الولدُ المستميتُ على نومةٍ تحت سقف السماء البهيِّ

على وقفةٍ لا تملُّ الوقوف على طرقات اليمامِ

ويا أيّها الولد المستميتُ على رحلةٍ لا تملُّ الرحيل إلى شُرفاتِ الغمام

هي الأزمنة

فلماذا تكون البداياتُ دومًا على ساحة الولدنة؟!

   هذا التراسل الزمكنيّ، ما بين الجمود والسيلان، ما بين الماضي والحاضر يدمج المكان في لحظة شعوريّة واحدة، فالحنين شكّل للمكان هيئةً جديدة متخيَّلة، وليست حالته الحقيقيّة، هذا الاندماج بين التخيّل والحقيقة غيَّر حركيّة المكان. ووصْفَ المكان في المتخيّل، وصَف لنا المكان بحقيقته دون أن يذكر الشاعر كلمة عن هذا الحاضر، فالمكان وجدانيّ أكثرَ من كونِه من تراب وتضاريس، بل وأكثر من ذلك، فقد ساعدَنا المكان على كشف الحالة الوجدانية للشاعر أكثر ممّا كشف لنا عن حقيقة المكان وطبيعته، فالشاعر اتّخذ المكان وسيلةً ليعكس حالته، وكلّما اقترب أكثر من الأماكن الخاصّة نسمع لهفته، وسرعة كلماته، وتخبُّطَ معانيه، واختزالَه لقصص الحارة القديمة بذكاء، فالتدرّج المكانيّ في القصيدة أخذَنا من تحت المشمشة والدالية، إلى جدار الحارة، إلى البيادر، ثمّ تحت سقف السماء البهيّ، إلى رحلة على شرفات الغمام، يصل منها إلى مدخل الدار، وهناك عند الخاصّ جدًّا، عند داره، يتذكّر ياسمين ابنة الجار، يبتعد عن الخصوصيّة العائليّة، ويخرج منها إلى الحارة، و إلى ابنة الجيران ليدلّل على العلاقات العائليّة التي سادت في القرية، على المحبّة والتواصل بين الناس؛ وهذا يدلّ على أنّ هذه الأماكن كانت مُلكَ الجميع، ولم تغلق أبوابها في وجه أيّ شخص من القرية، فها هي ياسمين تجلس في مدخل الدار:

من رأى ياسمينَ ابنة الجار

وهي تلوّن سوق السنابل

في مدخل الدار

تجدلُ في شغفٍ طبقًا من شذيّ الخمائل

يا من رأى ياسمينْ، هنا عبقت من سنينْ، وعين على مخرزٍ لا يكلُّ

وعين على فارسٍ قد يُطلُّ

على القلبِ أهزوجةٌ من ندى

وتهلُّ

على الروحِ رجعًا لعذبِ الصّدى

  يشاركنا الشاعر في حالته الوجدانية، فهذه الذكرى أهزوجة على القلب، واسترجاعٌ لعذب الصدى؛ صدى الذكريات التي تؤثّر على الروح؛ إنّ المكان لم يعد متخيَّلا من صور الماضي فحسب، أو سردًا لحوادثَ اجتماعيّة من زمن الطفولة، بل أصبح المكان تعبيرًا عن أحاسيس ومشاعر وحالة وجدانيّة  يعيشها الشاعر، ياسمين ابنة الجار كانت تجدل السنابل، كانت تمتهن صنع الأطباق القشيّة، هذه الصورة الشّعريّة لياسمين يمكننا أن نراها في مخيّلتنا، يمكننا أن نسمع صوت القشّ يتشابك ببعضه، يمكننا أن ندخل إلى أحاسيس ياسمين وهي كأيّ صبيّة في القرية تنتظر الفارس يأتيها على حصان أبيض، فعينٌ على مخرز تشكّ فيه القشّ، وعينٌ تبحث عن فارس الأحلام الذي قد يُطلّ، وكما يقع الندى على الورد فيفتّحه، هكذا تقع هذه الذكريات على القلب كأهزوجةٍ،  والأهزوجة هي الأغنية الشعبيّة، والهزج هو التغنّي بطرَبٍ، إذًا هذه الذكريات تحيي القلب وتطربه، وكأنّه يسمع هذه الأصوات من الماضي برجع الصدى، رجع الصدى على الروح؛ إذًا بإلغائه الطرب الجسديّ والتفاعل الجسديّ مع المكان الحاضر، يرتفع عن المادّيّات ويرتقي إلى الماضي، وإلى الروحانيّات، حتّى عندما وصف لنا الجماد كلجن الغسيل وجرن الكبّة، والشقشاقة وصف لنا حياةَ أهل القرية، وتجفيف الحبوب على سطوح المنازل، هذه الصور المنبعثة من الذكريات أرجعتِ الشاعر ولدًا، ولدًا يرفّ كالجناح، يحلّق ليشارك العصافير الوثّابة لعبتها وأكلها ومؤونتها:

وعلى ساعدِ الدار مُتّكئٌ لجنٌ للغسيلِ؛ وشقشاقة في انتظار المواسم

جرنٌ يغرّد يومَ الأحدْ..!!

ولدٌ كالجناح يرفُّ؛ وفوق السطوح عصيرٌ يجفُّ، وقمحٌ يُغيّر أهدابه

والعصافير تسترق الخطوَ وثابةً

ويرفُّ الولدْ ..!!

 لم تكن استعادة استحضار المكان إلّا استعادةً لاستحضار الأحاسيس الوجوديّة التي ترافق الإنسان في رحلة الحياة القصيرة، فصورة الدار هي صورة لذاكرة جمعيّة، رغم فردانيّتها، ورغم خصوصيّتها، فهذا الولد الذي كبر ما زال الماضي يعود إليه حنينًا:

ولدٌ يستميتُ على نَوْمةٍ

في فراشِ أخيه

ولدٌ يستميتُ على كلمةٍ

من كلام أبيه

ولدٌ يستعيد

ولدٌ… ويُعيد

ها هي الأزمنة

فلماذا تكون النهاياتُ دومًا إلى ساحة الولدنة …؟!

كما نرى إنّ استعمال المكان وتوظيفه في الشعر، ليس استعمالًا عاديًّا، وإنّـما هو استعمال رمزيّ لمعان يريد الشاعر تمريرها. المكان ليس بحدوده الجغرافيّة، بل بالأناس الذين عاشوا فيه، المكان يفقد خصوصيته المكانية الضيّقة ويتحوّل إلى رمز كلّي يشمل البلد كلّها؛ ففي قصيدة “يا بلادي… لك المجد” نرى كيف تتحوّل البلاد إلى السنبلة والرغيف والمعرفة؛ غذاء الجسد وغذاء العقل؛

يا بلادي

أيّتها السنبلة والرّغيف والمعرفة

ويا بيادر الأماني[9]

 يكتسب المكان الآن أساسيّات الحياة؛ الغذاء والانتماء وتحقيق الأماني.

ومع ذلك فالمكان، يكتسب دلالة إنسانية عندما يكون وعاء لذكريات الشعوب، ووعاءً للحركة الزمنيّة، بل ويتّخذ حيّزًا مكانيًّا أوسع من حدوده وجغرافيّته، يتّخذ المكان حدودًا تاريخيّة فيراوح ما بين الكرمل، وأرض كنعان، ولبنان، وصحراء بني تغلب؛ نجد أنّ البلد التي يحتفي بها الشاعر غذاءً روحيًّا وانتماءً، هي أوسع من حدود دولة، وأوسع من حدودٍ تاريخيّة، هي البلاد العربيّة على امتداد جغرافيّتها وتاريخها، يلخّصها في راعيةٍ كنعانيّة شبّابتها بيسانيّة، قامتها كأنّها خيرزانة من قبيلة بكر، شعرها من حرير لبنان، تعمّدت في مياه الأردن، رايتها بيضاء مشرَّعة للخليج والصحارى والرمال، وعزّتها من أهلها التغلبيّين، أمّا فتاها الأسمر فقاربه أرزيّ، وكنوزه وأناشيده من الملك سليمان، هذا المقطع الشعريّ وحده يجعل المكان أماكن سائلة، ويجعل الزمان أزمنةً متعاقِبة، ويجعل الشعب شعوبًا متناسِلة، ويجعل الشاعر واسع الانتماء:

يا سفوح الكرمل المعطاء

هل رأيتنّ بين الظلال والأضواء

راعية كنعانيّة

توزع الألحان منذ الفجر

فتنساب رقراقةً على ذرى السنديان والغمام

راعية كنعانيّة

تطلق العصافير، وتطيِّر النجوم من أهداب شبّابتها البيسانيّة

راعية كنعانية

قامتها خيزرانة بكر

تعمّدت في مياه الأردن

وشعرها بعض حرير لبنان الأشمّ

راعية كنعانية

تبذُر الغناء

وتلوّح بكوفية بيضاء للفتى الأسمر

الذي ينشر شراعه للريح

هناك في حضن الخليج

ينشر شراعه عاليًا خفّاقًا

وفي حناياه عطش الصحراء، ولوعة الرمال

وفي قاربه الأرزيّ

كنوز سليمان وأناشيده

وعلى جبينه

عزّة النسور، وحزم القوافل

وإباء تغلب!!![10]

ومن هذه الحركيّة للزمان في المكان، ينتقل الشاعر لاستيحاء التراث الدينيّ لهذا المكان الذي يتّسع بأبعاده الرؤيويّة، ليصبح أبعد من بلده، وقريته ومدينته، ليصبح مكان القداسة للأديان؛

يا بلادي

هذا الثرى القدسيّ

ينبوع الطهر

وعرس الكرامة منذ البدء!!

ومنذ البدء

كانت الكلمة هنا

وهنا تفجَّر النور الأبديّ

ليتساقط ندى على قلوب التاعسين!![11]

 يعتبر الشّاعر بلاده منبع الديانات، “كانت الكلمة هنا” والكلمة كما نعرف هي القوى الإلهيّة، وهي كما قال الشاعر “الهمسات والعلائق الأولى بين الله والأنبياء”، ثمّ ينطلق من الديانات السماويّة في هذه البلاد إلى “عطور آسيا العظيمة وبخورها

هل تذكرين بهار الهندِ

وحكمة الصين”

  يؤكّد في هذا الطرح على موقعها الاستراتيجيّ الذي ربط الشرق الأدنى بالشرق الأقصى، الذي ربط بين الحضارات كلّها؛ إذًا تتّسع حدود بلادِه باتّساعها الإيمانيّ وبعلاقتها مع الله والأنبياء، وتتّسع أكثر بموقعها الاستراتيجيّ، وكأنّها بلاد لا توازيها أي بلاد أخرى، لذلك يطلب لها المجد “لك المجد، لك المجد”.

 نجد المكان يتّسع وتنداح دوائره  من الخاصّ إلى العام، من البيت إلى البلد، إلى الانتماء العربيّ، إلى الجذور الكنعانيّة؛ تتّسع الدوائر جغرافيًّا وتاريخيًّا وإنسانيًّا، ويصبح المكان أمًّا وأختًا وحبيبة؛

أيّـتها الأخت والأم والحبيبة

أيّتها اليد الحانية

والصدر المنسرح كالآفاق

لك المجد

لك المجد!!

أيّتها الأخت الغالية

أنت السنبلة، وأنت الرّغيف

أنت الحكمة والبهار

أنت الراعية والملاّح

أنت النبوءة والرؤيا

أنت الرجولة، أنت الأهل والإيثار

وأنت الدرس والشقاء

أيّتها الأخت الحبيبة، يا عَرَق الملايين

لك المجد، لكِ المجد، لكِ المجد!! [12]

  ويصبح المكان عنده فكرةً، وانتماءً وإحساسًا وعاطفةً وراعيةً وملّاحًا (الأم التي ترعى والأب الذي يقود) ويصبح المكان نبوءة ورؤيا ورجولة، “فالمكان عنده لا يتمّ عن طريق استرجاع رومانسيّ أو تمجيد حقبـة عابرة، بل يمتدّ إلى مجمل تصوّراته حول الإنسان والعالم”[13]

   وهكذا نرى أنّ المكان الشّعريّ يتخطّى المعنى الفيزيقيّ، ويتخطّى المكان الحسيّ الجغرافيّ والزمنيّ ويصبح “أكثر التصاقًا بحياة البشر، من حيث أن خبرة الإنسان بالمكـان وإدراكه له يختلفان عن خبرته وإدراكه للزمان، فبينما يدرك الزمان إدراكًا غيـر مباشـر مـن خلال فعله في الأشياء، فإن المكان يدرك إدراكًا حسيًّا مباشرًا… أو يصبح مكمن القوى النفسيّة والعقليّة والعاطفيّة للكائن الحيّ”[14]

  وهكذا نرى أنّ المكان الشّعريّ حسيٌّ وليس ملموسًا، أنّ المكان متخيّلٌ أكثر من كونه واقعيّا، وأنّه يصبح جزءًا من التجربة الذاتيّة بعد أن يفقد صفاته الواقعيّة ارتباطًا باللحظة النفسيّة [15]

 

*****

        ملاحظة: سينشر هذا النصّ  في مجلة علميّة.

  1. نقلاً عن جماليات المكان – اعتدال عثمان – مج . الاقلام بغداد – ع 2 – 1986 – ص 76 .

 

  1. سيزا أحمد قاسم. بناء الرواية. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1984. ص. 76 .

 

[3]  جبرا إبراهيم جبرا – د. إبراهيم جنداري. الفضاء الروائيّ. بغداد ط1 – 2001 – ص 170 .

[4] ن.م. ص. 174

  1. هذا المفهوم ضمن كتاب الاتجاهات الادبية ت . جورج طرابيشي.

 

  1. [6] التفسير للأدب – عز الدين إسماعيل. دار العودة ودار الثقافة، بيروت. 65

 

[7] جهشان، شكيب. صوت الوشوشة، الناصرة: دار النهضة 2023. ص. 18.

[8] ن.م. ص. 18

[9] ن.م. ص. 5

[10] جهشان، صوت الوشوشة، ص. 5-6.

[11] جهشان، صوت الوشوشة. ص. 6.

[12] جهشان، صوت الوشوشة. ص. 11.

[13] محادین، موفق، (2002م)، غالب ھلسا دراسات نقدیة، ط،1 دار الكنوز الأدبیة، بیروت، لبنان، ص.7

[14] لوتمان، يوري، (1986م). مشكلة المكان الفنيّ، ترجمة سيزا قاسم، مجلة ألف، القـاهرة، (العـدد 6) ، ص.79

 

[15] الفضاء الروائي جبرا إبراىيم جبرا – د. إبراىيم جنداري بغداد ط 1 – 2001 – ص 174

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

عدلة شدّاد خشيبون: فؤاد مفيد نقّارة في صيده وصنّارته

عدلة شدّاد خشيبون فؤاد مفيد نقّارة، في صيده وصنّارته صيّاد.. هو ذاك الذي يحمل بيده …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *